14-05-2023 08:35 AM
سرايا - هذه هي المرة الأولى التي نلتقي فيها بالدكتور نبيل طنوس من المغار في الجليل بفلسطين. وكان قد درس الإدارة التربوية إلى جانب اللغة العبرية، وظفر بالشهادة الجامعية الأولى، وما يليها من درجات تؤهله للتدريس في أكاديمية العلوم التربوية في حيفا العربية. وأصدر فيما تذكرُ ترجمته الملحقة بكتابه « سميح القاسم شاعر الغضب النبوئي « نحو أربعة عشر كتابا يغلب عليها الاهتمام بالحياة الأدبية الفلسطينية، ولا سيما الشعر المقاوم. فقد ُذكر أن أول كتاب له كان عن الشعر، وهو بعنوان « ويطول الانتظار «. وتلاه كتاب آخر عن أثر الفراشة، وهو ديوان لمحمود درويش. وهو، أي الكتاب، يتضمن دراسات عدة إحداها بعنوان أثرالفراشة. وله كتاب ثالث عن الشاعر الشهيد راشد حسين، بعنوان « راشد حسين ويسكنه المكان « في إشارة لما في شعره من تركيز على المكان.
إلى ذلك، ترجم عددا غير قليل من القصائد إلى العبرية، منها 100 قصيدة مختارة من شعر محمود درويش. وقصائد أخرى لراشد حسين، وسميح القاسم، وبدر شاكر السياب، والشاعرة التونسية راضية الهلولي.
عدا هذه الكتب ثمة مشروعات تصدر مستقبلا عن الشعر، والأدب الفلسطيني في المحتل من الوطن عام 1948 . ومن الطبيعي أن يولي نبيل طنوس كلا من محمود درويش، وراشد حسين، وسميح القاسم جل اهتمامه، وعنايته، سواءٌ فيما يتصل بترجمته للعبرية، أو بكتابة الدراسات عنه وعن شعره، فهو إلى جانب انه فلسطيني كهؤلاء الشعراء الذين يهتم بهم، وبشعرهم، ينتمي للمكان الذي ينتمي له أكثر كتاب فلسطين، وهو الجليل. وعملا بالمبدأ الذي يقول أبناء مكة أدرى بشعابها، فإن نبيل طنوس، من حيث هو مَنْ هو، أولى الناس بالكتابة عن القاسم وعن درويش وعن راشد حسين، وعن غيرهم من أمثال توفيق زياد، وحنا أبو حنا، وحنا إبراهيم، وسالم جبران، ومحمود غنايم، إلى آخر هذه الكوكبة من نجوم الحياة الأدبية.
فكرة جديدة:
وتقوم دراسة الدكتور نبيل طنوس على فكرة جديدة أو شبه جديدة. فالعملية الإبداعية في شعر القاسم الذي ولد في 11 مايو- أيار 1939 في مدينة الزرقاء الأردنية – أي أننا بهذا المقال نحتفي بذكرى ميلاده الرابع والثمانين - فوالده كان ضابطا في حرس الحدود الانتدابي وفي سنة 1941 عادت الأسرة إلى بلدتها الأصلية الرامة التي يغلب على سكانها أنهم من طائفة الموحدين (الدروز). فتعلم في مدرسة الرامة الابتدائية (1945- 1953) ثم في الناصرة (1953- 1957) وبدأ كتابة الشعر، ونظمه، ونشره، في مقتبل الشباب، وما إن نيف على الثلاثين حتى كان قد نشر ستة دواوين. أما إصداراته في مجمل حياته فبلغت تسعة وسبعين كتابا. وقبل وفاته في 19 آب (أغسطس) 2014 كان قد فاز بغير قليل من الجوائز، إحداها من إسبانبا وهي جائزة الغار. وفاز بجائزة نجيب محفوظ وبوسام القدس، وجائزة الشعر من سلطة رام الله، وتلقى عددا من الدروع والأوسمة من جهات عدة.
ولأن القاسم من البدء انحاز للوطن، ولشهدائه، ولمناضليه، فقد خصص شعره لهذا الموضوع، دون غيره. وتعرض بسب ذلك للمطاردة، والملاحقة من لدُن الأمن الاحتلالي، وتعقبته سلطة الحكم العسكري، واعتقله مرارا وتكرارا بتهمة التحريض على مقاومة الاحتلال، والاستخفاف بالكيان الإسرائيلي، والتشبث في أشعاره بعروبة فلسطين، ودعوة شعبها الصامد للالتفاف حول المقاومة، والانتفاضة.
لقد مرَّت أشعار القاسم في نظر الدارس د. نبيل طنوس في دوائر ثلاث. إحداها ضيقة وهي دائرة الأنا. وهو يعني بهذه الدائرة القصائد التي تناول فيها الشاعر قضايا الوطن من خلال الذات دون أن يتطرق لأمور تتجاوز هذه الذات. ففي إحدى قصائده التي تنتمي لهذه الدائرة، وكان قد نظمها في بداياته، ونشرها مرارا قبل أن تصبح واحدة من قصائد ديوانه « دخان البراكين « 1968 وعنوانها (منتصب القامة أمشي) يقول فيها على لسان الشهيد الفلسطيني ما يأتي :
منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي (قُصْفَةُ) زيتون ٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي
وأنا أمشي
فهذ القصيدة التي راجت رواجا كبيرا بعد أن صدحت بها حنجرة الفنان مارسيل خليفة، تجسد الاستشهاد في صورة البطل الذي لا تلين عزيمته، ولا تهون شكيمته، ولا تخور صلابته، وهو مع ذلك شهيد محمول على الأكتاف. والشاعر ينظم هذه الأبيات في مفردات بسيطة تخلو من الحذلقة، والتأنق. ذلك لأنه أراد بهذه العفوية، والبساطة، أن يجسد نموذج المناضل الحقيقي وليس المناضل من وراء الميكروفون، أو من على الكراسي. فنلاحظ تكراره كلمة أمشي، وذكره كلمة (قصفة) زيتون. ثم القلب، والقمر، والبستان، والعوسج، والريحان، والنار، والحب، والمطر، والنعش. وكلها كلمات متداولة في هذا السياق، ليس فيها ما يدعو للإحساس بأي ضرب من ضروب التصنُّع. هذا هو سميح القاسم وهذه هي أناه.
في مواجهة الآخر:
على أن لسميح القاسم وجهًا آخر، هو سميح الصدامي. الذي يتوجه لعدوه فيصور بهذا التوجه صلافة ذلك العدو، وغطرسته، وافتقاده لأدنى صفة من صفات الإنسان. فهو أدنى لجنس الوحوش منه إلى جنس البشر. يريد تجويع الآخرين لتخلو له الميادين. وفي هذا يخاطب الشاعر الحاكم العسكري الصهيوني، أو صاحب العمل الإسرائيلي، فهما وجهان مختلفان لشيء واحد، هو التطرُّف الصهيوني:
ربما تسلبني آخر شبر من ترابي
ربما تطعم للسجن شبابي
ربما تسطو على ميراث جدي
من أثاثٍ وأوان وخوابي
ربما تحرق أشعاري وكتبي
ربما تطعم لحمي للكلاب
ربما...
يا عدوَّ الشمس لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم
قد يرى بعض الدارسين، فيما اختاره نبيل طنوس ها هنا، نظما تقريريا مباشرًا، وأنه يُقرّب الشعر من لغة الشعارات، أو المنشورات السياسية، وأدبيات الأحزاب، وفي هذا الزعم بعض الحق، إلا أن من يزعمون هذا يتناسون المقام، أو السياق الذي تقال فيه القصيدةُ، أو تلقى. فمثل هذه العبارات عدوّ الشمس، ولن أساوم، وإلى آخر نبض سأقاوم، عندما يتفوه بها الشاعر في إطار يسودُه الرعب الذي يفرضه الاحتلال بالحراب، والبنادق، تغدو الجرأة وحدها، والشجاعة رواءَ الشعر ها هنا ورونقه، وجمالياته. وكان من الممكن أن يعمد القاسم للحذلقة البديعية، وإلى الصور، والأساطير، والرموز، ولكن ما الذي تحدثه مثل هذه اللغة في جمهوره الظامئ لمثل هذه الكلمات التي تقع على مسامع الاحتلال وقوع الشظايا، والقذائف.
ففي رأي د. نبيل طنوس أنّ هذه النغمة، أو النبرة المباشرة، التي هيمنت على شعر القاسم في طوْر من أطواره، جعلت من شعره شعرًا يتجاوز الأنا منسلخًا عن الذات بصورة ما، مالئا قصائده بصوَر الآخر، بجلِّ ما فيه من أنحطاط.
الشاعر والعالم
أما الدائرة الثالثة، فهي التي تجاوز فيها حدود المسألة الوطنية فلسطين بطابعها المزدوج الذاتي وغير الذاتي، لينخرط في التعبير عن هموم الإنسان، ليس الفلسطيني وحده، بل الإنسان حيثُ هُوَ. في آسيا أو أفريقيا أو في أميركا اللاتينية. فهموم الإنسان مع الإمبريالية، ومع العنصرية العرقية واللونية، ومع الرأسمالية المستغلة همومٌ متجانسة. فلا فرق في جوع الأفريقي وجوع الصيني أو الأمريكي اللاتيني، لذلك يجد نبيل طنوس في بعض أشعار سميح القاسم عددا من القصائد التي تضع هذا الشاعر على قدم المساواة مع شعراء عالميين من أمثال بابلو نيرودا، و بول إيلوار، و لويس أراغون، وعزيز نسين، ولوركا. ومن تلك القصائد قصيدة يحيي فيها فيديل كاسترو. و أخرى يحيي فيها جان بول سارتر. وأخرى يحيي فيها جوني غيتار. وأخرى يحيي فيها شاعر إسبانيا الكبير فردريكو غارثيا لوركا (1)، الذي قتل على أيدي أنصار الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، وأصبح اسمه كدمه رمزا للتضحية بالنفس، وللشاعر الذي يتصدى للديكتاتورية بصدره العاري من أي سلاح. يقول القاسم مخاطبا شاعر إسبانيا:
الحرس الأسود ألقى في البئر سلاحه
فانزل للساحة
أعلمُ أنك مختبيءٌ في ظل ملاك
ألمحك هناك
زنبقة خلف ستارة شباك
ترتجف على فمك فراشة
وتمسِّد شعر الليل يداك
انزل فدريكو
وافتح لي الباب.
أي أن القاسم يهمُّ أن يلحق بلوركا الذي قتله الفاشيون. فالقاسم هو الآخر مشروع قتيل أو شهيد، لأن الفاشية الصهيونية وجه آخر لفاشية فرانكو، وعصاباته. وإن لم تكن وجها آخر فهي أشد منها قسوة ووحشية، وبعدا عن الإنسانية والسلام. وعلى هذا النحو يبسط لنا المؤلف ما يراه من آراء في تجربة سميح القاسم الشعرية، وأبعادها الثلاثة : بعد الانتماء الشخصي، الذي تجسده فكرة الانتساب للوطن. والبعد الثاني هو البعد الوطني بالمعنى الذي ينصرف فيه الشاعر عن الأنا ليقتحم دائرة العدو، منطلقا من قبو الذات. والبعد الثالث هو الذي ينصرف فيه عن الذات وعن الوطن بالمعنى الجغرافي المحدد المعيَّن، لمفهوم أوسع، هو العالم. فالعالم في رأي نبيل طنوس وطن الشاعر القاسم علاوةً على وطنه فلسطين .
وصفوة القول، وزبدة الحديث، هي أن المؤلف عرض لنا في الكتاب أطروحته الجديدة، أو أفكاره المبتكرة عن شعر سميح القاسم. وزاد على ذلك تضمين الكتاب الصادر عن دور نشر عدة: إحداها دار جسور الثقافية في عمان، وأخرى باسم الرعاة للنشر والتوزيع في رام الله، فضلا عن جهة أخرى شغلت موقع الجندي المجهول في هذا الإصدار، وهي مؤسسة سميح القاسم في بلدته الرامة التي تحاول منذ وقت غير قصير إنشاء متحف باسم متحف سميح القاسم يكون مركزًا ثقافيا يرعى الأجيال الشابة من الشعراء والكتاب، ويضمُّ، كمتحف محمود درويش في رام الله، إصدارات الشاعر، وكل ما نشره من مقالات، ومقابلات فلمية، أو ورقية، وتسجيلات صوتية، فضلا عما كتب عنه من مقالات، ودراسات، ومؤلفات، وأطروحات جامعية أو كتب مستقلة، وأوراق قدمت في مؤتمرات أو ندوات محلية أو دولية. وهي بطبيعة الحال تحتاج لمتابعة، وجمع. وقد أورد المؤلف في نهاية الكتاب ما استطاع حصره من هذه الدراسات غير أنها، مثلما هو متوقع، ليست كاملة، ولا محصورة حصرًا دقيقا، فهذا مطلب عسير وصعب التحقيق إن لم يكن مستحيلا، فالدراسات عن القاسم وغيره من شعراء فلسطين لا تتوقف، وهي في تزايد مستمر، لذا لا يستطيع الباحث، أو الباحثون، الوصول لكل ما نشر وكتب.
ملاحظة أخيرة
وهذا الكتاب الذي يحيي فيه مؤلفه ذكرى شاعر كبير هو سميح القاسم(1939- 2014) لا يخلو من مأخذ بسيط، ولا نريد أن نختتم هذه الكلمة دون الإشارة إليه، والتنبيه عليه. فعنوان الكتاب يتضمن عبارة شاعر الغضب النبوئي. ورغم أن ذائقاتنا اللغوية لا تأنس لهذه الكلمة (نبوئي) إلا أن السؤال الذي يتعلق بها هو: أين حضورها في الكتاب؟. لقد استوفى المؤلف في دراساته، وفي فصول الكتاب الثلاثة، الجانب الغاضب من سميح القاسم، وشعره، وهذا شيء لا غبار عليه، ولا نقص فيه، ولا خلل، لكنه لم يتوقف إزاء ما يتضمنه هذا الشعر من نبوءات. فالعنوان يَعِدُ القارئ بهذا، غير أن المؤلف - فيما يبدو - غلب عليه السَهو، ولم يتفطن لهذا الشق من عنوان الكتاب. ولعل في هذه الإشارة ما يُذكّرهُ – والذكرى تنفع المؤمنين- بضرورة استكمال هذا الجانب إذا تراءى له أن يعيد النظر فيه، وأن يستأنفَ نشره في قابل الأيام.