14-05-2023 04:58 PM
بقلم : محمد كامل العمري
في كل مرة توجه فيها إسرائيل صواريخها نحو أهداف في قطاع غزة، تتبدى الشكوك -من قبل الكثيرين- حول الغاية المرجوة من الصراع والفوائد المتحققة من "المقاومة". تساؤلات تنطوي عليها إحراجات الإجابة خاصة مع تكرر القدرة على توقع المآلات بما يخص سير المواجهة: صواريخ تطلقها فصائل غزة تحدث أضراراً مادية في إسرائيل، يتبع ذلك رد قاس تتلقاه الفصائل.. وهكذا دواليك. وبالنظر إلى نتائج المعارك السابقة نجد أن الخسائر الفلسطينية لا يمكن مقارنتها مع الطرف آخر. ولذا، وضمن هذا الإطار، يبرز تساؤل مشروع حول أهمية استمرارية المقاومة إلى ما لانهائية، خاصة مع تفشي الفقر بين سكان القطاع، وانعدام الأفق بما يتعلق بالقدرة الحياتية بحدها الأدنى. ونحن هنا نتحدث عن بشر لهم أحلام ومشاريع وعلاقات وأنظمة تراتبية وليس عن كتل صماء لا تمثل شيئاً. وإذا كان الحديث عن الجموع الجماهرية يتم بصفة التمثيل الشامل الذي ينحصر فقط ضمن مجموعات سلطوية صغيرة مستفيدة من تجارة الحرب، فإن ذلك يدلل على الإشكال السياسي الكبير في قطاع غزة.
اليوم، لا يمكن فهم الإصرار القوي (من قبل شخصيات اعتبارية وهيئات إعلامية) على تصوير "المقاومة" بالند الطبيعي تجاه جيش منظم يمتلك قدرات ضخمة. ولعلنا يجب أن نتذكر ما تمثله مساحة غزة بالنسبة إلى فلسطين التاريخية، واحتياج القطاع الدائم للمواد الأولية من إسرائيل. احتياجات الحياة اليومية من غاز وكهرباء ومياه هي أمور لا تقل أهمية عن استمرار الصراع لدى الأطراف كافة، خاصة أولئك الذين يعيشون في فنادق فاخرة ويصدرون الأوامر دون أن يشعروا بتوابع الحرب. وإذا كانت الصواريخ سابقاً قد فرضت معادلة على الإسرائيليين فإن الواقع الحالي تغير تماماً لصالح الآلة العسكرية الإسرائيلية؛ لا سيما مع التطور التقني للقبة الحديدية وقدرتها على تحييد أغلب صواريخ المقاومة. وحتى مع افتراض ما تبقى من قدرة هذه الصواريخ فهي لا تؤثر على النحو الذي تحدثه الطائرات الحربية، أو أن تستطيع تغيير الموازين العسكرية المأمولة لدى الجماهير. طبعاً البعض يحاجج بأن هذه مجرد فصائل صغيرة تملك إمكانيات محدودة، وأن التفاهمات تقتضي تحديد الصراع بشكل لا يستدعي عدواناً شاملاً، ولكن بما أنها فعلاً تملك إمكانيات محدودة أليس الأجدر أن يكون خطابنا الإعلامي متوافقاً مع هذه الإمكانيات؟ ثم هل القدرات المحدودة تستدعي الاستحواذ السياسي على مليونين إنسان؟
ولما كانت إسرائيل تأمل في انسحابها من غزة عام ٢٠٠٥ تكرار سيناريو حركة فتح، أي أن يحكم الفلسطينيون أنفسهم عبر كيانات ذاتية، الأمر الذي يخلصها من تكلفة إدارة مليوني فلسطيني، فإن المواجهة الأخيرة (التي كانت في مقدمتها حركة "الجهاد الإسلامي" وغابت عنها حركة "حماس")، أثبتت منطقية هذا التصور: حماس تحولت فعلياً إلى سلطة سياسية تؤمن بالتفاهمات وتحترم الحدود المرسومة. أما شعارات المقاومة و"الموت لإسرائيل" فقد أصبحت أداة تصلح للاستهلاك الداخلي وتضفي الشرعية على حكم الفصائل بما يضمن لها السيطرة على القطاع وإسكات أي شخص يحاول التمرد أو الاعتراض على الواقع المعيشي، وذلك بحجة "العمالة" أو "وهن نفسية المقاومين"، أو كما يقول بعضهم: "لا يفتي قاعد لمجاهد"!
وهكذا تستثمر الدورة الشعبوية في قطاع غزة في تضخيم القدرات المحلية، وذلك من قبل مختصين ومحللين يتقاضون آلاف الدولارات شهرياً نظير ما يروجون حول القدرات الكبيرة للفصائل! في حين يكون الطرح المتوازن البعيد عن الرغبوية مصدر إزعاج يستجلب كل أنواع الضغط والانتهاك. وبالتالي يصبح التيار العقلاني الذي يطرح الأمور وفق توازنات منطقية وعلمية في حالة يرثى لها؛ إذ لا يجد رواده قوت يومهم (ومنهم كاتب هذه السطور)؛ ويرمون بكل الاتهامات الشريرة. هنا ليس أمامك سوى أن تتوافق مع المألوف جماهيرياً وإلا تكون "عميلاً" يستحق العقاب. الحديث العقلاني المتسائل عن جدوى كل هذه الحروب يجابه على أكثر من سياق؛ بدءاً بالاستغراب من منطقية طرحك، مروراً بالتهم المعلبة التي توجه لك، وصولاً إلى التضييق على من يخالف النسق الناظم للجماهير. أو، في سياق متصل، أن تحصرك التحليلات (من قبل دعاة الوطنية الجدد) في إطار إلزامية الفلسطينيين بالجهاد والمقاومة مقابل عدم قبول طرحك الذي يحاول أن يجد حلولاً تساعد الناس على العيش ضمن أجواء بعيدة عن صخب الحرب، حيث يتمكنون فيها من إنتاج تمثلات فنية وجمالية تعبر عن تنوعهم. طبعاً غياب التمثلات الإنسانية غالباً ما تؤطر -من قبل دعاية المقاومة- بأنه "مش وقته" و"نحن في حالة حرب واستنزاف"، ولكن لماذا ما زالت إسرائيل قادرة على إنتاج تمثلات إنسانية كبيرة في المجال الحقوقي النسائي أو الطبي أو الاقتصادي في حين هي نفسها تعيش حالة صراع دائمة؟
إن العقلانية تستوجب التساؤل تجاه أي شيء وضمن مساحات مفتوحة لا تقيد بقيم أو نظم أمنية. وعلى الرغم أن الأجواء العامة تتحيز تلقائياً لأصحاب العلاقات التشابكية الفاسدة، أو أولئك الذين يبالغون في تضخيم النرجسية الشعبية وزيادة الكره للآخر، إلا أن المسار العقلاني المتشكك دوماً، الباحث عن إجابات في المواضيع الإشكالية، والمتبحر في تحليلاته، هو ما يجب أن يتصدر السياق العام في نهاية الأمر. وعلى أية حال، ومع استهلاك الحرب وفقدان شرطها الاجتماعي داخلياً وخارجياً، فالأكيد هو توجه التساؤلات العقلانية نحو الفوائد المتحققة من المسارات الحاكمية المفروضة. هذا ما أثبته التاريخ: عندما تستهلك الحرب لدى الجماهير (خاصة مع أعداء الأمة) تنتقل حالة الصراع نحو البنى الداخلية (إما الإطاحة بالسلطة الحاكمة أو الاقتتال الأهلي). ولكن، وبحكم التكرار، دائماً تعودنا أنظمة المقاومة (وضمن قدرتها على إنتاج آليات الصراع) على استمرار حالة العداء اللانهائية مع "الآخر"، وذلك كي لا تفقد أساس وجودها في الحكم.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
14-05-2023 04:58 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |