18-05-2023 05:40 PM
بقلم : الدكتورة جمانة مفيد السّالم
عشيّة انطلاق أعمال المؤتمر الدولي الرابع للوعي الإستراتيجي والحوكمة موسومًا بـ (الحوكمة الرّقميّة)، تتجه الأنظار صوب جامعة الشرق الأوسط، حاضنة المؤتمر الذي ينظمه مجلس حوكمة الجامعات العربية المنبثق عن اتحاد الجامعات العربية، بالتعاون مع كليتي الأعمال والآداب والعلوم التربوية؛ فمنذ اتخذ المؤتمر العام لاتحاد الجامعات العربية في دورته الثامنة والأربعين عام 2015 قراره بتبني مبادرة لحوكمة الجامعات العربية، أطلقها سعادة العين الدكتور يعقوب ناصر الدين رئيس مجلس أمناء الجامعة؛ صارت جامعة الشرق الشرق الأوسط مقرًّا للأمانة العامة لمجلس حوكمة الجامعات العربية برئاسة سعادته.
ومن قبلُ ومن بعدُ، أخذت جامعة الشرق الأوسط على عاتقها - قولًا وفعلًا- مهمة تطبيق رؤية المجلس: (تبني الجامعات العربيّة لإطار تنظيمي عام للحوكمة)، وتحقيق رسالته: (الجدية والالتزام في ممارسة معايير الحوكمة؛ لرفع مستوى جودة التعليم العالي العربي). ومن يجيل النظر في محاور المؤتمرات، والندوات، والاجتماعات، وورش العمل التي نظّمها مجلس حوكمة الجامعات العربية بالتعاون مع جامعة الشرق الأوسط، منذ تأسيسه وصولًا إلى مؤتمره الرابع، يتبيّن أن فكرة حوكمة الجامعات تحوّلت في سنوات قليلة معدودة إلى واقع ملموس، واستحالت إلى مشروع بل مشاريع ضخمة، طالت مؤسسات التعليم العالي بعامة، والمناهج المدرسية، والإعلام، والتدريب؛ وفتحت الآفاق واسعة أمام حوكمة قطاعات أخرى عديدة، أيقنت بدورها أن تطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة: التشاركية، والشفافية، والمساءلة، خير طريق لتمكين الإدارات الفاعلة، ولتخصيب بيئات العمل بالأيدي العاملة المنتجة، ولتحقيق الممارسات الفضلى على أعلى مستوى في مجالات العمل المختلفة.
وعلى وفق التطورات الحياتية المتسارعة، والتكنولوجية منها على وجه الخصوص، تطوّرت النظرة إلى الحوكمة، وسرعان ما تعلّقت الأذهان بفكرة الحوكمة الرقمية التي تكاد تفرض نفسها في عالمنا الذي أصبح رقميًّا بامتياز، وإن كان هناك تفاوت في فهم فكرة الرقمنة من جهة، وفي مستويات تطبيقها أو إمكانات ذلك من جهة ثانية.
ومع أنّني مطلعة منذ شهور مضت على التحضيرات الجادّة لمؤتمر (الحوكمة الرقميّة) آنف الذكر، جزى الله القائمين عليه خير الجزاء؛ إلا أنّ قرب انعقاده فعليًّا أيقظ في نفسي رغبة في الوقوف سريعًا على مفهوم الجامعة الذكية في إطار تطبيق الحوكمة الرقمية؛ ذلك أنّ إرساء قواعد التحول الرقمي للحوكمة ومنهجيات تطبيقها في الجامعات العربية أحد أهم أهداف المؤتمر، في الوقت الذي صارت فيه الجامعة الذكية مطمحًا للقائمين على العمليّة التعليميّة، ووجهة لطلبة العلم في عصر الرقمنة، ومسعى للمستثمرين في مجال التعليم الملبّي لمتطلبات سوق العمل. واللافت أن لفظة (الذكاء) غدت حاضرة في حياتنا حضورًا طاغيًا، فرضته مصطلحات: الذكاء الاصطناعي، وذكاء الأعمال، والتعليم الذكي، والصف الذكي، والأجهزة الذكية، وكذلك الجامعات الذكية، ليضاف هذا كلّه إلى ما نعرفه من ذكاءات منبثقة عن نظرية الذكاءات المتعددة، التي نجد أصولها وشواهد عليها في كتاب الله الكريم، وفي أحاديث النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام.
حملت لفظة (الذكاء) في معاجم اللغة معنى: حدة الفؤاد، وسرعة الفطنة، وجاء في تفسير الذكاء في الفهم: أن يكون فهمًا تامًّا سريع القبول، واصطلح علماء مجمع اللغة العربية في القاهرة على أن الذكاء: قدرة على التحليل، والتركيب، والتمييز، والاختيار، وعلى التكيّف إزاء المواقف المختلفة؛ والمتأمل في مجموع المعاني السابقة يجدها متناغمة في دلالاتها مع ما يقتضيه العيش في عالم الرقمنة من سرعة، وفطنة، وقدرة على استثمار الفرص، ومواجهة التحديات، ومحاربة المعوقات، في إطار سعي دؤوب ورغبة حقيقية باتجاه رفع كفاءة العمل والعمليات المرتبطة به، وتقليل تكاليفه، وزيادة إنتاجيته وعوائده، على المستويات كافة: البشريّة، والماديّة، والماليّة، وفي مختلف أنواع الأعمال ومجالاتها.
وفي أردنّنا الحبيب، كما في سائر البلاد العربية الشقيقة، تُعدّ التحديات التي تواجه المنظومة التعليميّة الهاجس الأكبر في نفوس القائمين عليها، والمهتمّين بها؛ لأنه يمسّ الفئة الأهم في مجتمعاتنا، وعمودها المتين، فئة أطفال الغد، وشباب المستقبل؛ الأمر الذي يتطلب توحيد الجهود باتجاه ما يمكّن طلبة العلم من تلقي علومهم في المجالات المختلفة باستخدام أحدث الوسائل التعليمية التفاعليّة الذكية، وفي أرقى البيئات التعليميّة وأكثرها حرصًا على تهيئة حرم تعليميّ ذكيّ على مستوى البنية التحتيّة، والتقنيّة، والماديّة، وتوفير موارد بشرية ذكية، تتعامل بحبّ، وبتقبّل، وباستيعاب مع أنظمة الإدارة، وأنظمة التعلّم الحديثة الذكية، وسائر الذكاءات الحديثة المفروضة، في إطار عمل تشاركيّ مسؤول، يضمن النزاهة والشفافيّة، ويستوعب المساءلة الهادفة البنّاءة، الأمر الذي سيُحيل طالب العلم في عصرنا إلى منتج للمعرفة بدلًا من أن يظلّ متلقّيًا لها، وسيدفعه إلى بناء ذاته، ويمنحه القدرة على تقديرها، وسيعزّز في نفسه حب التعلّم الذاتي، وممارسة القيادة الفاعلة، وتبنّي الحوارات الهادفة، في جو حيوي يتيح أمامه سبل الاتصال الناجح، والتواصل الإيجابيّ الفاعل.
والمأمول أن تتيح توصيات بحوث مؤتمر (الحوكمة الرقمية) المختصة بشؤونها في قطاع التعليم العالي، والتي أعلن عنها في كتيّب المؤتمر، فرصة ثمينة أمام الباحثين، والدارسين، والمهتمين بفكرة الجامعات الذكية في عصر الرقمنة؛ لغايات تطوير هذه الفكرة، وتوسيع آفاقها على مستوى الأداء المؤسسي بعامة، في إطار توضيح لدور الحوكمة الرقميّة، والتحوّل الرقميّ في تطوير القيادة الإستراتيجية في الجامعات وتعزيز أدوارها، وتأثيرهما في فاعلية قراراتها، وفي تعزيز الريادة الرقميّة فيها، وبحث إمكانات تمهيد السبل أمام امتلاك مهارات الثقافة الرقمية لدى منتسبيها، بالإضافة إلى الوقوف على حيثيات تجارب التعلم الإلكتروني، والكشف عن الخبرات التعلميّة المكتسبة منها، وغير ذلك من الموضوعات التي ستميط اللثام عن صورة الجامعة الذكية في عيون الحوكمة الرقميّة.
بارك الله جهود القائمين على المؤتمر، وبارك سعي المؤتمِرين؛ ووفقهم جميعا لما فيه خير البلاد والعباد.