27-05-2023 09:23 AM
سرايا - إبراهيم خليل
في كانون الثاني من العام 1999 توفي الشاعر فواز عيد الذي صدر ديوانه الأول (في شمسي دوار) عن دار الآداب 1963 و في حينه عدَّ هذا الديوان بشارة ميلاد لشاعر يقف إلى جانب الكبار من رواد الشعر العربي الحديث أمثال السياب والبياتي والحيدري وأدونيس ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور وغيره ممن وطأوا الطريق ومهدوا السبيل للحداثة بالفعل والقوة لا بالإدعاءات الزائفة، والشعارات التي لا تستند للواقع.
فقد ولد هذا الشاعر في سمخ بفلسطين سنة 1938 وبعيد النكبة كتب عليه أن يعيش مع ذويه في سقيفة متواضعة بمخيم في حي جوبر، وبعده في حي القَدَم، قريبا من دمشق. وأتيح له على الرغم من الظروف السيئة أن يتابع دراسته في جامعة دمشق، وأن يظفر بالشهادة الجامعية الأولى، وأن يعمل مدرسا لوقت غير قصير في السعودية، ويتابع نشر قصائده في مجلة الآداب إلى جانب نزار قباني، والسياب، وأدونيس، ومحمد بوسنة، وحسن توفيق، وعز الدين المناصرة، و صلاح عبد الصبور، ومحمد عفيفي مطر. وفي العام 1963 صدر ديوانه المذكور عن الدار المذكورة ، ثم تبعته أربعة دواوين : أعناق الجياد النافرة : دار الآداب 1969 و ومن فوق أنحل من أنين 1982 وديوان بباب البساتين والنوم 1986 و أخيرًا في ارتباك الأقحوان 1999 وقد صدر هذا الديوان بعَيْد وفاته.
إلى جانب الشعر، كتب فواز عيد المسلسلات الإذاعية، وقد ظلمه الدارسون، ونقَدَةُ الأدب ظلما شديدًا. فباستثناء مقالة واحدة عن ديوانه الأول لرشاد أبو شاور نشرت في الآداب 1963 وأخرى أقصر منها بكثير نشرت في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين (مج 6 ص 76) لا يجد الدارس عنه شيئا مذكورًا. فالدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي - رحمها الله – تجاهلته في موسوعة الأدب الفلسطيني (1996) المجلد الخاص بالشعر تجاهلا مثيرًا للريبة. مع أنها نشرت ديوانها الأول (العودة من النبع الحالم) 1960 عن دار النشر نفسها التي نشرت ديوانه في شمسي دوار، ولا يُتوقع أن تكون على غير دراية به وبشعره. علاوة على أن من يؤلف موسوعة عن أدب ما، فلسطينيا كان أم غير فلسطيني، يفترض أن يكون متابعا ملما بجل صغيرة وكبيرة عن هذا الأدب. فهذا تبعا لذلك تجاهل يجعل القارئ يقف إلى جانب المرحوم عز الدين المناصرة (1946- 2021) الذي حمل عليها حملة شعواء، واتهمها فيها بعدم الاطلاع على الشعر الفلسطيني، وبالتحيُّز لنفر من صغار الشعراء ممن منحتهم فرصة التلاعب بمادة الموسوعة في أثناء الطباعة، والتحرير الذي يسبق النشر عادةً، ومع هذا التلاعب، وجّهت لهم الشكر الجزيل على ما فعلوه.
وكغيره من شعراء ذلك الزمن غلب عليه موضوعُ الحزن، ومشاعر السأم، والقلق، والتوتر، من الحياة في المدن، والإحساس باللاجدوى، وبالضياع، نظرا للأوضاع التي تكتنف الواقع العربي. يقول في واحدة من قصائده (السحب العريقة) عن السفر، وما يعقبه من إحساس بالعبث، واللاجدوى:
عَبَرَ القطارُ
فصِحْتُ أين يمر ؟ لا أدري
وينكفئ النهار
قدحٌ من البلور نافذتي،
وبعض لفافةٍ ووميض نار
وشجيرتان قديمتان يشم طيبهما القطار
وشرائط الأنهار تشربها الحقول
وتخور أعمدة النهار(ص91)
ومن غريب ما يلاحظه الدارس في شعره الحرصُ اللافت للنظر على غنائيته العذبة، وثرائه الموسيقي. فالقارئ يجد في هذه الغنائية مفتاح شاعريته، وسرَّ جماله الفني الذي يميزه عن غير من الشعراء المعاصرين، إن كانوا من جيله، أو ممن جاءوا بعده. ففيه يجد الدارس والقارئ على حد سواء نسقا يجمع بين الشعر القائم على وحدة التفعيلة، والشعر القائم على أوزان الخليل، وبحور الشعر العربي. فهو لا يفتأ يمزج بين اللونين من النظم، ولا سيما في القصيدة التي تشهد إلى جانب استقلال البيت عما يليه اعتماد التدوير اعتمادًا يتيح لبعض الأبيات أن تتواصل، لا من خلال المعنى وحده، ولكن من خلال النسق أو المبنى العروضي أيضا:
لخطوكِ إذ يرفّ الليلُ واحاتُ
نسيج من نعاس النخل والأسفار والشجنِ
حديث البحر، زرقته المذابة، خبأتهُ عنِ
الموانئ والشموسِ
عن انهمار الريحِ
والأسماء ، عنْ
بحارة السفنِ
حديث الرمل والتيهِ
رواه الترمذي ودلسوا فيهِ
وواحة موجعٍ حتى العروق أنا
وقفتُ عليه أبكيهِ
فالأبياتُ بدءًا من حديث البحر، إلى حديث الرمل، أبياتٌ متواصلة دلالةً ووزنا ومبنى، ومع أن الشاعر لم يتخلّ عن هذا التدوير فقد أبدى- مع ذلك - حرصا على الفواصل الوزنية. فبحارة السفن تعيدنا إلى الأسفار والشجنِ. وتعيدنا عبارته: وقفت عليه أبكيه، لقوله: ودلسوا فيهِ. فالمزج والتدوير لا يستبعدان الجرس المترتب على تكرار القافية، والتوقف إزاء الفاصلة الوزنية، وهذا يدعو للشعور بمراعاة الجانب الغنائي، ووضوح الجرْس الصوتي في شعره.
ومن قصائدهِ التي ينْبهر بها القارئ لما فيها من إيقاع موسيقي مرتفع النبرة، عذب اللحن، رخيّ الإيقاع، قصيدة وسمها بعنوان موسيقي هو « دان. دان. « وهما صوتان يحاكي بهما الصوت الصادر عن التصفيق بالأيدي على وفق اللحن المرافق لراقص سبعيني ينتشي فرحًا بهذا العُرس. فالكلمتان دان. دان. تتكرران فيما يشبه اللازمة في اللحن الموسيقي:
كان شيخا خلفه سبعون عاما وصحارى
وعلى الخصر نطاق
وعلى الساح تلوبُ القدمان
تخفق الراحة كالنسْر على الأخرى
وتعدو الساق خلف الساق
يلتفُّ ويستعطي أكفَّ المنشدين
يتعرّى راقصًا من عمره السبعين
ينفضّ جبين بارقٌ
تبكي إذا أوجعهُ اللحن شفاه ٌ ويدان
ويغني طائفا بالساحة الكبرى
فتنهدّ أكفٌّ : دان. دان
ويواصل الشاعر فواز عيد هذا النظم، متنقلا من مقطع لآخر، مع الحفاظ على هذه اللازمة دان. دان. بيد أنه مع اقتراب النص من آخره، والأغنية من النغمة الأخيرة، نجد اللازمة دان. دان تتكرر في مواقع متقاربة جدًا، كأنها أغنية تعلن عن قرب توقف المغني عن الغناء توقفا يمهد له اللحن بإيقاع مفرط في سرعته، وفي هذا يقول:
فمتى أرجع كالنهر إليها
دان . دان
وأراها مثلما كانت صبية
دان. دان.
آكل الخبزَ، وأصفرّ إذا قلتُ: وداعا
دان. دان..
تتدانى إن بكت يومًا على النهر بصمتٍ ضفتان
دان .دان.
ولهذه القصيدة، ذات الإيقاع البديع، والجرْس الموسيقي العذب الرفيع، نظائرُ في شعره. ففي قصيدة بعنوان» المنقوش في البردي « يتخذ من بعض الألفاظ أصواتا تشبه دان. دان. مثل الجدران، والألوان، مع ما يتناوب بينها من قوافٍ أخرى لا تغيب عنها الألف المهموزة في مثل: ماء وجاء وأسماء:
هلمي وافتحي الجدران
أيا من تسكنين الماءَ
تضطربين في الألوانْ
ايا من تحرسين الماءْ
تردّين الجواد إليَّ .. والصيفَ الذي ما جاء
تردين الذي ضيعتُه للناس من أسماءْ
فأنقشها على الجدران
فالشاعر- ها هنا - يكرِّر كلمة الماء، ويوازن بين تسكنين وتحرسين وتردين، وتضطربين، وبين جاء وأسماء وماء، وهذه التوازنات تُضفي على القصيدة الرائق من النغم، والمطرب من حسن التأليف، والاتساق الصوتي. ولهذا لا نعجب إذا وجدنا ثراءهُ الموسيقي ينتقلُ، فيما يشبه العدوى، لأشعار آخرين من أمثال: محمد القيسي، ومحمود درويش. فها نحن أولاء نقرأ للقيسي في ناي على أيامنا(1996) ما يأتي:
دخان على القلب هذا الدخانْ
دخانٌ دخان
خرجتُ من النور أم خانني النصُّ
حتى ليزدادَ أو يتجدَّد هذا الغياب
وتنأى ظلال النهار
وينأى الأمان
دخانٌ . دخان
ولم يُنكر المرحوم محمد القيسي تأثره بقصيدة « دان. دان «. فبعد أن اطلع على مقال لي نشر في الرأي الثقافي بتاريخ 5/ 3/ 1999 وكنتُ قد أشرت لهذا الأثر، قال معلقا: إن القصيدة المذكورة من أكثر القصائد تأثيرًا فيّ. أما محمود درويش، فقد استحضر إيقاع « دان. دان « في واحدة من قصائد ديوانه « لماذا تركتَ الحصانَ وحيدا؟ « (1996) وفيها يتخذ من كلمة(جيتارتان) وترديدها، معادلا صوتيا لكلمتي دان. دان. وقد أشاعت الكلمة المذكورة في القصيدة مناخا صوتيا وموسيقيا يشبه المناخ المهيمن على قصيدة فواز عيد المذكورة، يقول درويش في تلك القصيدة ما يأتي:
جيتارتان
تتبادلان موشّحا
وتقطِّعان
بحرير بأسهما
رخام غيابنا
عن بابنا
وتُرقِّصان السنديان
جيتارتان
ومن قصائده التي تجذب الانتباه قصيدة بعنوان « الأشياء حتى النصف» ففيها يكرر كلمة نصف في مطلع كل بيت :
نصف المئزر
نصف الوجه على الشرفة
نصف الإفصاح
ونصف التلميح المجروح
ونصف الذكرى
وهذا التجنيس يتكرر في ما يكاد يربو على نصف القصيدة إلى أن يتحول لضربات إيقاعية جديدة تبدأ بتكرار ياء النداء. جاعلا من هذا التكرار ترديدا ذا نغمة صاعدة في أول كل بيت إلى جانب تكراره كلمات أخرى:
يا امرأةً عليا
يا طفلا في أرجوحته العليا
يا سيد عزلته العليا
مع من أتكلم بالفصحى
أو أشرحه طورا بالصمت
وطورا بالإيماء
ويتخذ الشاعر فواز عيد من عبارة (هل تأذنين لي بأن أحبك) استهلالا لعدد غير قليل من أبيات قصيدة بهذا العنوان. فهي لا زمة موسيقية تقع في أول المقطع الشعري لا في آخره. والقصيدة من أربعة مقاطع؛ ثلاثة منها تبدأ بهذه اللازمة. أما الأخير فهو متحرر منها، ولكن الشاعر يمهد لهذا التخلي عن اللازمة بسلسة من الأبيات التي لا يخفى ما فيها من نغم يقوم على مبدأ تداعي الأصوات لتداعي المعاني:
خمسون عاما من دم
ووجوه من أحببت ليلٌ
بين بلورٍ ونارْ
سفرٌ وأمتعةٌ من الأحزانِ
موتى واقفون على رصيف الليلِ
قاعاتُ انتظارْ
موتى وأحبابٌ
وليلٌ في قطار
والترديد الإيقاعي هو إحدى الأدوات التي يلتزم بها فواز عيد من حين لآخر. ففي قصيدة عنوانها « بباب البساتين والنوم « يكثر من هذا الترديد من قبيل:
معا يرسمون
طيورا وماءْ
زهورا وماءْ
بيوتا وماءْ
حقولا وماءْ
إلى جانب كل الذي يرسمون
يضيفون ماءْ
وهذا ترديد غير عشوائي، وإنما هو مبني على توازن دقيق، فليس يخفى على المتابع ما في كلمات: طيور وزهور وبيوت وحقول من تجانس صرفي، تسهم واو المد فيها بدور لافت في إيجاد نغمة متكررة. كذلك تكراره لكلمة ماء، بما فيها من مد سببه وقوع الهمزة الساكنة بعد الصائت الطويل، مما يزيد في طول الألف زيادة كبيرة. وأما قصيدته:» بجانب الوردة والجرح» (ص255) فتشد الانتباه بما فيها من مقاطع يبدأ كل منها بشبه الجملة (لذلك) تليها سلسلة من الجمل التي تضيف ما الذي يعنيه الشاعر باسم الإشارة (ذلك) فينشأ من تواتر هذا الأسلوب الشعري إيقاع يعتمد على تكرير النغمة التي يأنس إليها المتلقي لسببين؛ أولهما: التأثر بالنغم، وثانيهما حاجته لمعرفة ما الذي يعنيه الشاعر باسم الإشارة:
لذلك الذي
يأتي من البستان في الظهيرة
يرسم لي
بيتا على اليدين
وفرحةً ضريرهْ
صفوة القول، وزبدة الحديث، هي أن غنائية فواز عيد غنائيةٌ لافتة للنظر في مجموعتيه الأولى، والثانية. وحتى الأخيرة. ولم تضعف، أو تتراجع في أيٍّ منها نغمته العالية، ونبرته الصافية، وإيقاعه الفاتن، الذي يغلّف معانيه بسحر الموسيقى، ويكسوها بغلالةٍ من الغناء الرخيم.