27-05-2023 11:01 AM
بقلم : محمد كامل العمري
شاهدت باهتمام بالغ مقالة السيد أيمن الخطيب، التي دارت حول فكر المجتمع المدني وأسس عمله أردنياً، حيث ناقش تشابك المجتمع المدني في بعض دهاليز السلطة، وسيطرة نمط ثقافي معين لهذه المنظمات بما بتساوق والرأي العام للسلطة، ولذا -من وجهة نظر أيمن- علينا الانخراط بقوة في تغيير هذه البنية، التي ستعني إنتاج مجال ثقافي مؤثر على الوعي العام بدلا من النمط المترسخ حالياً.
ولكن لو ابتعدنا قليلاً عن مقاصدية أيمن الخطيب، وتحدثنا بشكل اكثر تفصيلاً، في سياق آخر، عن المنظمات غير الحكومية (التي هي العماد الأساسي للمجتمع المدني) سنجد في سياقنا المحلي أنها -لدى جزء منها وليس جميعها- باتت تمتلك هيمنة ثقافية وسياسية مرعبة، من حيث الوظائف والمنح المعطاة لهذا الطرف أو ذاك، ومن حيث سيطرتها على الإنتاج الثقافي في سياق "النخبة" أو "التقدم" أو "التمدن". طبعاً إضافة إلى ذلك ورشات التمكين، وأقسام التحليل الخاصة بالتجارب الذاتية (التي استفدت من بعضها للأمانة وأثرت إيجابياً على تكويني الفكري). كل ذلك لا مشكلة فيه لولا إغلاق هذه المنظمات لصالح مجموعات بعينها دون غيرها.
المشكلة الأساسية في المنظمات غير الحكومية أنها تتبع برنامجاً محدداً لموظفيها، دون نقاش وأخذ ورد، وكأنهم في كنائس مغلقة، الأمر الذي يؤدي بهؤلاء الموظفين إلى زيادة إنتاج الشكوى والتظلم في إطار الاستماع لقضايا الناس، وذلك دون بحث حقيقي عن أسباب التأزم الحاصل في المجتمع، حيث ينظرون إلى الذات على أنها ذرة فردية، وأن الحراك الاجتماعي لا يمكنه تحقيق شيء يذكر. إن بعض موظفي الإن جي أوز مستعدون لتغيير قناعتهم ما دامت لا تتوافق مع الممول، وتراهم يغيرون قصصهم وأبحاثهم بمجرد الانتقال إلى طرف آخر. هؤلاء يمثلون أكبر عدو للمجتمع المدني، ويعكسون صورة سيئة جداً.
وعليه، فإن من المآخذ الكثيرة على المنظمات غير الحكومية أنها تنتج تمدناً مزيفاً، طبقة مستفيدة وغير منتخبة، مسيطرة على المجال التداولي، وتملك مفاتيح تعريف الحق من الخطأ. هذه النخبة باتت تورث سيطرتها دون اشتباك حقيقي مع المجتمع (إلا بعضاً منهم للأمانة)، لذا قد تجد ذكورياً مثلاً يعمل في منظمة لتمكين المرأة، وقد تجد متطرفاً يسوق للنموذج الليبرالي!.. المهم هو قدرتك على عقد التشابكات وإتقانك لبعض اللغات.
ولكي نضع النقاط على الحروف، فإن لهذه المنظمات دور كبير في تحديث المجال الثقافي، وفي اكتساب بعض الحقوق الخاصة بالمرأة والطفل، فضلاً عن دورها في محاربة التطرف، الديني والذكوري (نظرياً على الأقل)، ولكن يبقى لثغرة الفساد دور بارز في تقليل ثقة الناس؛ إذ كيف يمكنني أن اقتنع بشخص قام بتأسيس مجموعة عشائرية في مواقع التواصل الاجتماعي، وعمل على بث سمومه وتحرضيه على فئة وشريحة محددة، بالاشتراك مع متابعي هذه المنصة الذين يتجاوزن الثلاثين ألف متابع، كيف يمكنني أن اقتنع بدور المنظمات غير الحكومية وهذا الشخص كان يعمل في "المرصد الوطني لحقوق الإنسان" ضمن قسم "رئيس لجنة النزاهة والشفافية"!
إن بعض أعضاء المنظمات غير الحكومية يمارسون دوراً ماكراً، فعندما تكون مثلاً عضواً في اتحاد الليبراليين الدولي، وتمارس مهنة الدفاع عن قمع دولة ما تجاه الأقليات الجنسية، وتدعي أن الليبرالية لا تتعارض مع الخصوصية الثقافية بنسف واضح للقيم الكونية، عندها -يقيناً- لا يبقى لديك إلا التشكيك بدور هذه المنظمات. وعندما تجد مئات الهيئات الوهمية لهذه المنظمات أو غير الفاعلة على الأرض، يتقاضى أفرادها رواتب على مشاريع بطعمة وبلا طعمة، سيتكون لديك تصور أن هذه المنح بهذا السخاء قد تكون تعويضاً عن "عقدة ذنب الرجل الأبيض".
وبالعودة إلى الموضوع، فإن انتقاد الكثيرين لمنظمات المجتمع المدني نابع من تخوف حقيقي مصدره انتقائية هذه المنظمات، وتغييب المجال السياسي في المجتمع، على اعتبار أن بعض المنظمات غير الحكومية جهات غير سياسية ولا تتعاطى بالسياسة، وبالتالي فإنها لا تعرف نفسها كايدلوجيا، فضلاً عن انتقاص جزء من هذه المنظمات لعامل الصوابية لدى موظفيها، فلا يمكن أخلاقياً ومهنياً أن يدافع عضو في هيئة ليبرالية عن ممارسات متخلفة. هنا يجب أن تمارس الصوابية وأن تمنع مثل هذه التصريحات. ويمكن القول إن الفساد في بعض هذه المنظمات، وتوغل شخصيات متطرفة فيها، أنتجت طبقة لا تؤمن بالدور المديني، ولا بقيادة الحراك الثقافي لدى الناس، بل اكتفت بالتنافس الشديد على المنح والتمويلات حتى لدى بعض النسويات اللواتي ضربن مفهوم "الأختية" عرض الحائط...
ختاماً؛ لا يمكن لأحد أن يقلل دور المجتمع المدني كوسيط ما بين الدولة والمجتمع، ولا يمكن كذلك التقليل من بعض المنظمات غير الحكومية المساهمة فعلاً في تشكيل الوعي العام، ولكن يجب التذكير بضرورة الانتباه والنقد من بعض من يساهمون في إفشال هذه المنظمات خاصة مع تزايد مجال التشويه لها من قبل المتطرفين عشائرياً ودينياً. أما عن النقد فيجب أن يكون عقلانياً ومسؤولاً، لأن الكاتب الناقد عليه مهمة تجاوز الحساسيات التي تنطوي عليها الانفعالات السلبية (الكره، الحقد، الغيرة، سوء الظن..)، وعلى القارئ أن يعرف أن مهمته تكمن في تنويع قراءته حتى مع نماذج مغايرة تماماً.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-05-2023 11:01 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |