13-06-2023 03:44 PM
بقلم : احمد الكواملة
لحظات من الرهبة أحسستها و أنا أقف أول مرة , أمام باقة من الأطفال ، كان هذا في السنة الأولى التي أتصل فيها بتلاميذ الصف الأول الابتدائي ، حشدت كل ما لقنت من نظريات تربية وعلم نفس ، أحسست بخواء ثقيل ، حاجز يعمق الهوة بيني وبين هؤلاء الأطفال الرائعين ، لا أدري كيف استيقظ ذلك الشيء الغائب منذ ولادتي بعد طول سبات ، طفلاً بريئاً مشاكساً ودوداً، فر من صدري إلى تلك المقاعد الخشبية حيث تجلس تلك الباقة من الأزهار, عندها فقط تلاشت تلك الرهبة ، وتفتقت في ناظري عوالم فسيحة من البهجة , البراءة , الدهشة , الجمال .
يا لعالم الطفولة الفاتن , ظننت لفترة أنني اكتشفته ، عرفته كظاهر يدي، غير أني كنت أدرك في كل يوم , عاماً اثر عام أنني مازلت أجهد في اكتشافه من جديد , فضاء هائل من الاحتمالات , أنه عالم الطفولة الذي لا أظن أن احد يمكنه زعم إمساكه ، قد يقيم جسوراً من التواصل ، التي لا يتاح لأحد أن يقيمها إلا إذا فر من قلبه ذلك الطفل القديم , الغائب الذي فر من قلبي ذات يوم ، بغير هذا لن تتاح لأي مهتم أدنى مقاربة من عالم الطفولة ذاك، وبغير هذا لن يقيض لمبدع أن يقدم ثقافة تخاطبه ، لأنه ببساطة سيفرض عالمه هو " عالم الكبار وثقافة الكبار " وهذا تماماً ما يقع فيه كثير من يتنطعون لثقافة الطفل .
بعضهم يخضع عالم الطفولة لمقايسه العقلانية المسطحة ، والتي لا تتجاوز الاعتقاد بقصور مدركات الأطفال وضعف ملكاتهم ، فيقدم لهم ثقافة مسطحة مبتسرة ، لن افجأ إذا واجهها الأطفال بكثير من الاستياء والاستخفاف .
اقول أن إي مبدع لن تتاح له مقاربة عالم الطفولة مهما عظمت أسلحته الثقافية والأكاديمية، إذا لم يسبقها حضوره الطفولي , إذا لم يدع الأطفال يكتبون معه ما يكتب لهم , يلحنون معه ما يلحن لهم , يغنون معه ما يغني لهم ، يواجهون معه المواقف ويقترحون الحلول ، يضعون معه قاموسهم اللغوي والدلالي الحي، قيمهم الإنسانية العميقة الواعدة ، يعالج معهم في المرة الواحدة فكرة واحدة , أو عدداً محدوداً من الرؤى والأفكار , وليس حشداً من القيم التربوية , الخلقية , المعرفية.
الطفل يرى في قطته وطناً , لماذا نكرهه في مرحلة عمرية ما على غير هذه الرؤيا ، لماذا لا نتميز ذلك الوطن الذي يراه في قطته تلك , وفق هذه الرؤيا المختزلة والمختزنة , يمكن أن نخلق واقعاً ثقافياً جديراً بعالم الطفولة، عالم المستقبل الواعد .
وحيث أن مادتنا في هذا الكتاب تعنى فيما تعنى بأغنية الطفل ، فأنني استذكر بكثير من الغبطة والفرح و بما يعمق إيماني بما قلت , تلك التجربة الاستعراضية الغنائية المسرحية ، التي شاركني فيها الفنان " وضاح زقطان " رأيته كيف يبني مع الأطفال موسيقاه , أداءه , نبراته , إحساسه, كانت موسیقاهم , وكان أداؤهم , وكان إحساسهم ، تماماً كما يحبون ، لذلك كانوا يغنون بطفولة سعيدة , ما كان " وضاح " يغني معهم , فقط يغني معهم , ليتكم كنتم معنا لتروا كم كبر أولئك الأطفال في تلك الأيام القليلة .
وقريباً من هذا فعل الفنان " يحيى الترك" ، وطفلته المرهفة
" ربى ".
إن أغنية الطفل لا يمكن أن ترتقي إلى ما ينبغي لها , إلا إذا رددنا مع القائلين , دعوا الأطفال يغنون ... بل غنوا معهم أيها الكبار . لقد أنارت ابنتي الصغيرة طرقاتي وهي تقول : و أحب الأغنية ذات الكلمات السهلة ، الأفكار المحدودة , الموسيقى المرحة، يؤديها أطفال بعفوية وبساطة .
أن ما يشاهد وما يسمع عبر التلفاز والإذاعة في أكثره مسخ الأغنية الطفل ، بل مسخ لطفولته , وتشويه خطير لذائقته وقيمه الروحية والنفسية ، وإزهاق لطفولته الغضة , وخير مثال على ذلك , أغاني الكبار التي يدفع الأطفال إلى إعادة إنتاجها وفق نظام playback" " و المدهش أنها تقدم ضمن برامج الأطفال ، فقط المجرد أن أطفالا تم تصويرهم في هيئة من يؤدون ، علاوة على الإصرار على تقديم أغان مضى على تصويرها عشرات السنين، فقدت معناها وتواصلها حتى مع الأطفال أنفسهم ، مع أن الأرشيف يزخر بكل جديد مبدع , ثم لم هذا الإصرار الفج من كتابنا وفنانينا على تقديم القضايا الكبرى في كل حين وكيفما اتفق؟
إن للأطفال عالم آخر يجدر الحديث عنه , وكشف روائعه ... هذا تماماً ما قالت طفلتي الصغيرة دون كلام , وهي تختار أنشودة
" قمر الأطفال " من مجموعة قصائدي التي نشرتها بين يديها ... عند سؤالها عن مبرر اختيار هذه الأنشودة بالذات , قالت - قرأت فيه إحساسي، فانا أرى في القمر وجه طفل ينظر الي كلما نظرت إليه .
أن فرصة الإمساك بالمستقبل ما زالت بين أصابعنا ، أفاق ثقافة الطفل و أغنيته جزء منها تعد بالكثير, إذا عرفنا كيف نبدع بإحساس الطفل وإذا طرقنا بشدة جدران المؤسسات الثقافية المعنية , وأخطرها شأناً مؤسسة الإذاعة والتلفاز ، وإذا خلصنا من الذهنية الماضوية ، وخلعنا قيود النص الجاهز إلى فضاء الإبداع القادم ، إذا خرجنا من إطار المكان والزمان , إلى أفق الكون الإنساني الأرحب , عندها فقط نبدأ خطواتنا إلى المستقبل إلى وطن أكثر براء و رسوخا و حرية .
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-06-2023 03:44 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |