18-06-2023 09:02 AM
سرايا - توضح رواية «حدائق شائكة» لصبحي فحماوي أن للفلسطينيين، الذين امتلكوا عبر الزمن، وأينما حلوا أو ارتحلوا، القدرة على البقاء، وعلى تحقيق أمنهم الغذائي، فضلا عن ما يميزهم من قدرات على المقاومة لتحقيق أمنهم الوجودي، لديهم، أيضا، يقول السارد:» ولذلك تجدينهم يزرعون النباتات والأشجار حيثما رحلوا.. إنهم يزرعون جناتهم بأيديهم ليتذوقوا طعمها قبل الحشر والنشر الذي يمارس عليهم في هذه الحياة الدنيا.. ويضيف:
قرأت أن الفلسطينيين المشردين ممن لم يبادوا في مخيم تل الزعتر، التجأوا إلى منطقة شاطئية لبنانية، فكان أول عمل قاموا به هو أن زرعوا الخضار والأشجار منذ وصولهم إلى الأرض المتداخلة بالمخيم الجديد، فارتفعت أوراق البصل الخضراء يانعة خلال شهرين من ذلك الوصول». وما دامت لديهم هذه القدرة القادرة، فلماذا لا ترتفع أسراب المسيرات الحربية المبرمجة من هناك لتصيب المحتل في مقتل، ردا على» إغارة الطائرات الإسرائيلية على عمارات مدنية في غزة التي تنهار من عليائها، وتقتل الناس المدنيين شيوخا ونساء وأطفالا.. تقتل العمارات ومحتوياتها، وذلك لتصد الصواريخ الباليستية التي تنطلق من غزة، فتدمر مراكز استراتيجية في مواقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين».
في روايته «حدائق شائكة» نشاهد مدينة عربية من منتجات (فايكنجية) شمالية وغربية اسمها «إرم ذات العماد» مدينة مهنية حديثة يقابلها/ من الضاحية الشرقية مخيم للاجئين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين وغيرهم»، حيث النظر -يقول السارد- إلى مكبات النفايات التي تحيط به وهو ينتشر ويتوسع تختزل كل المعاناة التي يكابدون بأعدادهم التي» تزيد على مليون ونصف المليون مهجرـ يقول السارد ـ من نيران أعداء الوطن العربي، وهم كثر.. ربما كان تجمع المهجرين هذا، كتأكيد وحدة الوطن العربي» كلنا في المنفى إخوة».. وعلى الأقل وحدة بلاد الجزيرة والهلال الخصيب». وحدة أكدتها انتخابات جمعية المهندسين الزراعيين في ولاية» إرم ذات العماد» حين قرر السارد، لما كان يعمل» في وظيفة رئيس الإعلام الزراعي»، النزول مع عدد من المرشحين كتلة واحدة لمنافسة رئيس الجمعية الذي عمر طويلا في منصبه منذ أن تأسست، يقول السارد:» أمام تجمعنا الوطني الجديد»، فكانت النتيجة أن سقط سقوطا مدويا.
كما يمكننا، من جهة ثانية، أن نلاحظ كذلك في هذا التكتل/ التجمع، الذي فعلته جمعية المهندسين الزراعيين، تحولا مهما في مسألة تحديد طبيعة الحكاية، ذلك بأنه تحول يقود القارئ، ليس إلى رصد كيف يتعامل النص الروائي مع فضاء المدن الجديدة، عبر سرد قصة بناء مدينة (الفضاء والمكان)؟ ولكن يوجهه إلى كيف يرى الزمن وهو يسرع إيقاع الحياة الحضرية الجديدة؟. وحيث إننا نتابع تقدم الحدث/ المخطط» موازاة مع سلسلة من الاستطرادات التي يجري تفجيرها عن طريق التجارب السريعة والذكريات التي تطلقها هذه التجارب، وتقدم بذلك قصة الزمن الذي لا يخضع لتعاقب مستقيم»([1]).
وحيث إننا أمام سارد يروم، استنادا إلى ما سبق، توجيه قارئ رواية» حدائق شائكة» نحو سلاحٍ فتاكٍ من أسلحة مواجهة المحتل والمستقبل معا، إذ يقول السارد:» جلست وحدي محسورا.. فتحت جهازي الخلوي.. فوجئت بأكثر من خبر وتعليق حول انطلاق أسراب من طائرات الدرون الخفية فوق الجزيرة العربية، متجهة نحو الغرب.. قيل إنها كانت تشبه أسراب الجراد بتكاثفها، وصغر أحجامها، وكانت سرعتها كلمح البصر.. وفي خبر آخر وصلني الآن، قرأت أنها إيرانية المصدر حسب آراء المحللين السياسيين.. وذكر مركز الأخبار أن أقمارهم الاصطناعية استطاعت تصوير المواقع الاستراتيجية بدقة.. وصرح موقع إخباري آخر أنها تنفذ الآن عملا عسكريا لم يسبق له مثيل، سيقلب الموازين».
الفردوس والكابوس:
وهنا أوجد صبحي فحماوي مدينة «إرم ذات العماد» للتعبير عن هذه المواقف في مواجهة» الظلال/ القيم الطوباوية التي باتت تغزو العالم المديني. وفي سياق ذلك، يوضح السارد عاطفته تجاه أرضه فلسطين وهو يرد على» عشتار»، سكرتيرة مدير العطاءات والمباني في البنك العظيم، عندما سألته: كيف ابتدأ مهنة» الحدائق الشائكة»؟، قال جبريل عرسال: «كنت صغيرا أركض في بدايات اخضرار الربيع على ربوات تلال فلسطين المعشوشبة، وذلك بعد هطول الأمطار.. أجمع من بين أعشابها زهور النرجس البيضاء بقلب أصفر فاقع، والزنابق البرية الحمراء والزهرية والصفراء».
وبهذا المعنى، تبدو مهمة التوافق بين فضاء الطبيعية البكر مع العامل المديني وأفضية الواقع الجديد الذي احتوته التكنولوجيا الحديثة، والقائم على مهمة» ضبط الساعة على الوقت»، وعلى البيوت الزجاجية. ذلك بأن خط ناطحات السحاب وكفاءة السيارة والوفاء بالالتزامات والتعهدات، زيادة على حسن ودقة التصاميم، بقدر ما تشكل ملامح المدينة/ العالم الجديد وتضفي عليها طابعا فردوسيا، بقدر ما تؤرق السارد، وهو المرحل والمهجر والمسافر دوما يحمل معه، منذ أن فتح عينيه على الحياة، بيته وهمه وقضيته أينما حل أو ارتحل على أمل العودة إلى الوطن الأم، أرض فلسطين، فارتباطه العميق بأرضه الجميلة فلسطين ووطنه الجميل والشاسع من البحر إلى البحر، أكسبه وعيا مبكرا بواقع البؤس المذهل لأبناء وطنه.
وفي الرواية: سألته صديقته، الفتاة الإنجليزية «ساندرا»، التي كان يراسلها وهو ابن الخمس عشرة سنة، بعدما أبدى لها اندهاشه من اللباس الذي يبديها شبه عارية في الصورة التي أهدته. فأشارت له إلى أنها ملابس السباحة في البحر، قائلة:» أليس لكم بحر تسبحون فيه؟»، قال لها:» لم أسبح طيلة حياتي، ذلك لأن الصهاينة احتلوا بلدنا حيفا، وطردونا من البحر، وقتلوا من بقي صامدا في قريتنا، فحرمونا من مشاهدة مايوهات البحر هذه، التي أشعر باكتئاب حين أراها، خاصة وأنني فلاح من غابات الكرمل». لذا، أهدته، بعد أن حزنت وتألمت لحاله بذور» أزهار الزينيا»، فزرعها واعتنى بها حتى» نمت وتفرعت، وتفتحت منها أزهار بهيجة عالية متشعبة... كانت مذهلة التفتح، ومختلفة الألوان المتلألئة، مما جعل المارين في الطريق المجاور لبيتنا ينظرون إليها باندهاش وتمتع لكونها الأزهار الوحيدة التي كانت ظاهرة بكثافة وألوان ليس لها مثيل في المخيم»... هكذا قاده عشقه للزهور إلى دراسة هندسة الحدائق في جامعة الإسكندرية، يقول:» حيث كنت استمتع أيما استمتاع بمعرض زهور الربيع في حدائق قصر المنتزه، وأجلس أتصور بوقفات مختلفة هناك متمددا بين تجمعات الزهور المكثفة، في معرض زهور الخريف الذي كان يقام في حديقة انطونيادس.. إلى أن تخرجت.. وبعدها ذهبت لأتخصص في هندسة الحدائق في كاليفورنيا، وصرت عضوا في الجمعية الأمريكية لمهندسي الحدائق، وهذا ما أهلني للحصول على مشروع الحدائق الكبير هذا».
من هنا، فإن تعبير السارد عن بدايات ومراحل علاقاته بالحدائق يكشف عن طبيعة العلاقة الجدلية القائمة بينه وبين الطبيعة من جهة أولى، وبينه وبين المجتمع من جهة ثانية. فبقدر ما كانت نظرته إلى الطبيعة نظرة ساكنة تقوم على التمتع والإستمتاع وعلى الخضوع والاندهاش، وفي هذا السياق، يذكر مفارقة من المفارقات التي اعترضت تجربته في تصميم الحدائق وإنجازها منها» قصة رجل بدوي بنى قصرا مهولا بعد أن اغتنى ببيع الأراضي للمهجرين، طلب منه أن ينجز له حديقة مميزة، لكنه لما سأله، يقول السارد، إن كان يريد أن يعمل» في إحدى الزوايا حديقة صخرية، تحوي صبارات ونباتات شوكية، للتماهي مع الصحراء بصفته رجلا صحراويا؟ فقال لي:» لا تذكر لي كلمة نباتات شوكية.. أو صبارات».. رفع قدمه وطبل على أسفلها وهو يقول:» لقد قضيت معظم عمري حافيا أرعى الغنم، والشوك أكل من رجلي لحما وأنزف منها دماء كثيرة.. ولهذا فأنا أكره الصبارات والصخور».
هكذا يعرض السارد مشهد زيارته إلى مركز الزهور ونباتات الزينة الدولي في هولندا، فيقول:» رافقني لبعض الوقت جاك روك مدير الشركة الهولندية الأوربية، الذي استورد منه الزهور ونباتات الزينة الداخلية.. ذهلت وأنا أتجول بين الشركات الزراعية لمستلزمات الحدائق، وأشاهد البيوت الزجاجية التي تحفظ نباتات الزينة الداخلية المضبوطة الحرارة والضوء والرطوبة والأسمدة، إلى أن يأتي وقت بيعها.. سألني:» هل توجد لديكم زراعة في بيوت زجاجية؟.» قلت له:» لا.. ولكن يوجد لدينا الكثير من البيوت البلاستيكية.» قال:» لماذا لا تستخدمون البيوت الزجاجية، وهي الأكفأ؟». قلت:» لأن العدو الإسرائيلي يحتل مساحات جديدة من بلادنا كل عشر سنوات تقريبا، فيضطرنا لخلع بيوتنا البلاستيكية القابلة للنقل، والرحيل إلى أرض أخرى بعيدة داخل الصحراء.. ولكن البيوت الزجاجية مصممة لتعيش بثبات فوق الخمسين سنة، فكيف لنا أن نتنقل بها تحت هذا الاحتلال المتلاحق؟» فقال لي:» أنت تعرف كيف تعبر عن مشاعرك الوطنية بطريقة بسيطة يتعاطف معها الآخر».
إن تعبير السارد عن مشاعره الوطنية بأسلوب سهل وسلس تكسبه تعاطف الآخرين، وإصراره على إنجاح مشروعه الحدائقي داخل فضاء» إرم ذات العماد» ينبع من عشق العميق والصادق والأصيل للأرض بنباتاتها» خاصة الجميلة منها، وأينما سرت ـ يقول السارد ـ في هذه المدينة، أجدني أنظر إلى أشجاري التي زرعتها، وأراقب كيف نمت وتضخت، وأوجدت مساكن وأعشاشا للطيور التي تنام على أغصانها المتشابكة».
أن السارد، وهو مهندس الحدائق الناجح والفاعل الجمعوي النشيط، سبق له أن عمل» في وظيفة رئيس الإعلام الزراعي»، ويدرك جيدا أهمية السلطة الجديدة لشبكات الإعلام في تشكيل العالم الجديد، لذا، نلاحظ حرصه وتنصيصه على مركزية عنصر التخطيط/ السناريو/ الحدث» في صياغة السياسة الاتصالية وتنفيذها (فهو أي التخطيط ) يتضمن سلسلة من الخطوات تسعى لغرض نهائي هو إنجاز أهداف المشروع سواء على المدى القصير أو الطويل، ويبدأ بتحديد الواقع (أين نحن الآن؟) ويتم ذلك من خلال عملية جمع البيانات وإجراء البحوث وتقييم الاحتياجات وتقويمها وتحديد الأهداف (ماذا نريد ولماذا؟)»([2]).
لذلك، نجد «جبريل عرسال» يتخذ، منذ بداياته في «إرم ذات العماد» حسن التخطيط، أسلوبه وشعاره بين متاهاتها وشبكاتها.
والحالة هذه، يجدر بنا أن نشير هنا إلى أن رغبة سارد رواية» حدائق شائكة» في عرض الفجوات القائمة بين الشمال والجنوب، ومن ثم عرض تداعيات الحرب الإعلامية على حركات التحرر الوطني في ما يطلق عليه دول العالم الثالث، فضلا عن سعيه نحو إبراز أثر الصراع الحضاري والسياسي والاجتماعي على منطقة الشرق الأوسط بوجه عام وعلى القضية الفلسطينية بشكل خاص بعد سقوط المعسكر الاشتراكي الأوروبي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالساحة الدولية، ناهيك عن اتساع نطاق وفضاء آثار الثورة العلمية والتكنولوجية، وعن تنامي الاهتمام بقضايا البيئة والسكان، كل هذا كان ينبئ برسم وتشكيل وبلورة خرائط كونية جديدة، كما يكشف عن الرواية/» الرسالة النبوئية» التي تميز رواية» حدائق شائكة»، بصفتها أول رواية عربية، في اعتقادي، توظف الطائرات المسيرة والهجمات السيبرانية في مقاومة الاحتلال الصهيوني، وتتنبأ بأسراب طائرات الدرون وهي تدمر الكيان المحتل. .. يقول السارد في الفقرات الأخيرة من الرواية:» الضغط النفسي يكاد يخنقني في هذه الأيام الثائرة، أفتح الخلوي الذي لا بد من فتحه بين الحين والآخر، فأشاهد فيه أخبار تفجيرات تضيء أقصى سماء الغرب، ترافقها أصوات تهد الجبال، وانفجارات تزلزل الأرض من تحتنا، نحن الذين نبتعد مئات الكيلومترات عن مواقع الأحداث.. فكيف بالذين هم هناك.. تركت كل شيء ورحت أتابع صور الأخبار المذهلة؟(...) وقالت وكالة أنباء رئيسة إن حربا سيبرانية قطعت وسائل الاتصال لدى العدو كلها، ومعها الماء والكهرباء.. وإن ملايين الإسرائيليين يركبون البحر في هذه الساعات، مهاجرين إلى مواطنهم الأصلية التي جاؤوا منها، وذلك بسفن مثل التي جلبوا بها إلى فلسطين.. حيث إن المطارات كلها قد عطلت سيبرانيا. (...) وبسبب هذه المعطيات الجديدة، ـ يضيف السارد ـ توقفنا عن العمل، وبدأنا التفكير بالاستعداد للمرحلة القادمة».
على سبيل الختم:
يشدد سارد رواية» حدائق شائكة» على وحدة ارتباطه الوجودية بأرض فلسطين، فيسرد حكاية ميله إلى الحرية معاناة المهجرين الفلسطينيين والعرب معا في وتشوهاتهم الاجتماعية أمام المحتل الصهيوني المدعوم بالقوى الإمبريالية التي تستمد استقرارها من حكام متواطئين معها على تخلف شعوبهم، فيلتقط، روائيا، ما هو طبيعي اجتماعي (رواية الأرض) ويقرنه بروح التطور لحضارة العصر وبالثورات المعرفية والتكنولوجية والمعلوماتية، ليشجب هذا الواقع الذي يجب أن يختفي (النبوءة الأيدولوجية للرواية). وحيث إن الفن الروائي يمتلك قدرته الإبداعية في إنجاز واجباته السياسية، فقد أفادت، رواية» حدائق شائكة»، كذلك، من هذا التكامل، عند المؤلف المبدع صبحي فحماوي، بين الإبداعين الفني والأدبي ـ بوصفه فنان حدائق يشعر بالنبات وينتعش به وبصفته مؤلف قصص ينشر الوعي والمعرفة بين القراء ـ وسعيه الحثيث نحو لفت انتباه القارئ إلى أهمية الاتحاد في جمعيات مناضلة تدرس الواقع المعيش، وتعطي دروسا نضالية لشعوب مهجرة، أنهكها الجور والجوع والأمية، لكنها مقاومة ومؤمنة بالنصر القريب على العدو المحتل والعودة إلى أرض الأجداد.