25-06-2023 08:54 AM
سرايا - الميتاسرد، في الجوهر، وعي ذاتي مقصود بالكتابة القصصية أو الروائية يتمثّل أحيانًا في الاشتغال على إنجاز عمل كتابي أو البحث عن مخطوطة أو مذكّرات مفقودة، وغالبًا ما يكشف فيها الراوي أو البطل عن انشغالات فنية بشروط الكتابة، مثل انهماك الراوي بتلمّس طبيعة الكتابة الروائية.
إن ثقافة ما بعد الحداثة لم تفرز أجناسًا سردية جديدة فقط، بل أفرزت أيضًا أنماطًا سردية جديدة، أغنت أسلوبية الروي، منها «الميتاسرد».
وإلى هذا النمط من الكتابة السردية تنتمي رواية (أفاعي النار) للأديب الأردني جلال برجس والفائزة بجائزة كتارا 2015، وهي حكاية وراء الرواية أو حكاية داخل الرواية، لذلك كان هناك عنوانان:
الأول (أفاعي النّار)، يخصّ الرواية، تخييلي بصري، ثم تكرّر ذكره حتى أصبح رمزًا استعاريًّا.
والثاني (حكاية العاشق علي بن محمود القصّاد) يخصّ الحكاية، دلالي سيميائي مباشر، بإسناد إلى شخصية علَم (علي بن محمود القصّاد)، والإحالة إلى الحكاية السيرية لبطل الحكاية
على المستوى اللساني والجمالي:
مما لا شك فيه، أن فكرة أدلجة السرد وحمولة الكلمة تكنولوجيًا، وفق التغيرات الأسلوبية التي طرحتها ثقافة ما بعد الحداثة وخصوصًا بعد الثورة التكنولوجية في عالم الاتصالات والتطور الخيالي الذي ناله العلم تكنولوجيًّا، حيث وفّر اليسر والسهولة في البيت والشارع وجعل العالم الأرضي قرية صغيرة يحكمها المحمول، وهذا التغيير شمل اللغة تكنولوجيا، فما عادت اللغة أداة للتواصل بل أصبحت حيّزًا تكنولوجيًّا يتعامل مع العقل، ما عبّد الطريق تكنولوجيًّا لظهور الرواية السردية التي تتوافق زمكانيًّا مع هذا التغيير التكنولوجي الموسوم به هذا العصر، وهذا ما فرض معايير جديدة تُقاس عليها أسلوبية النص وجماليته الأدبية، حين خرج الجمال من مجاله الفلسفي القديم ودخل في مجال العلم، علم الجمال Aestheticsالذي، كما يقول (شارل لاولو): «لا يوجد في الطبيعة قيمة جمالية إلّا عندما ننظر إليها من خلال فن من الفنون، أو عندما تكون ترجمت إلى لغة أو إلى أعمال أبدعتها عقلية أو شكّلها فن وتقنية».
بنى الكاتب للجمال قيَمَه وهو يشكّل من عناصر الطبيعة لَبناتٍ يدسّها بين أحجار بنائه اللغوي، فغدا الوصف صورة من الفن التشكيلي التجريدي Abstract Art حين جاءت الصور الجمالية الأدبية على هيئة محاكاة أو انعكاسات للعالم الباطني أو الخيالي للقصّاص أو الروائي.
الآن وبعد كل ما جرى، وفي غمرة هذا العشب والأزهار البرية، التي غمرت المقبرة، تحرس سكينة الموتى.
الآن في لحظة العصاري، والشمس تلملم شعرها، وتحشر في العروات أزرار قميصها الذهبي، ترشق الأشياء بماء الشفق، فتبدو الكائنات أسيرة رتم حزن شفيف، يعبث بالقلوب فيجهشها.
ولا شك أن للكاتب ثقافته الأدبية التي مكّنته من إتقان بناء عمله الفني هذا، ومكّنته من خوض مغامرة التجريب، وتوظيف أجناس أدبية مختلفة، سردية وشعرية، وإجادة مسك خيوط اللعبة الميتاسردية، مدركًا تمامًا أن هذا النمط الميتا سردي قد يقترب من نوع السيرة، والحكاية، ويقبل المقالة الاجتماعية، بل ويحتاج المذكرات المكتوبة أو المخطوطات أو المدوّنات والرسائل، كما أنه يفرّ إلى الحلم والتهويمات نافضًا عن كاهله مسؤولية المساءلة الفكرية والمحاكمة السلطوية، فالنائم لا يُساءل عن اللامنطقية ولا يُحاكم على الآراء.
الكاتب يدرك أن من الأهمية بمكان أن هذا اللون من ال (ميتا) يفترض القبول بالعقد الافتراضي بين المؤلف والمتلقي، على اعتبار هذا النص لعبة كتابة صرفة، ولذلك كتب مدخلًا للرواية كعتبة نصية سابقة لمتن النص الروائي، مميزًا بين الرواية والحكاية :
الآن في هذه اللحظة، وبعد كل ما حدث، بإمكان ذاكرتي أن تستعيد كل التفاصيل، دون عناء، فتكون الحكاية...
وعبر ديناميكية المستوى المتحرك، وإجرائية المستوى النفسي:
الملفت للنظر عند هذا الكاتب أنه ارتكز على خطأ أو أثر نفسي لحادث الحريق حرك في ذاته تقنية الاندماج بين الواقع الموضوعي الحقيقي والواقع الخيالي: وهذا الاندماج التقني أنتج مخرجات جديدة لتقنية أخرى وهي تقنية التوالد في الأحداث، فبدأ أحداث التقنية الأولى كأحداث جديدة في التقنية الثانية، وهذا ما زاد في درجة التشويق لكونه تفوّق إبداعي في وظيفة المفردات في السرد.
استخدم الكاتب محركات نفسية لاستذكار ما نساه من أحداث الرواية، ولم يكن أمامه من خسائر سوى روايته التي كتبها ومسحت من ذهنه، فأراد البحث عن مَرْوَد ينبش فيه ما نساه عقله وما حفظه على كمبيوتره، فلم يجد سوى الوضع النفسي بين مخزَني العقل، الوعي واللاوعي والفارق بينهم، فكان المرود الرابط بينهما هو ميثولوجية الحكاية التي نجدها في عقولنا جميعًا، سردتها لنا جدّاتنا وأمهاتنا على مواقد الشتاء، وبما أن الحياة أوسع من الأحداث فلابدّ لكل حدث منسي أن يمرّ علينا مرة أخرى بالتذكّر الحكائي، وهي طريقة « لإعادة بناء الذاكرة Memory Reconstruction»، لذلك اشتعلت عنده شعلة الحكايات حتى وصلت إلى نهايتها بتذكّر روايته كاملة عبر الحلم، وهذه الحالة أراد الكاتب توصيلها بشكل منطقي للمتلقي لكنها لا تشبه الواقع، لأنها تميل نحو الحلم أو الخيال، وهذه حالة سردية عميقة استطاع كاتبنا أن يوصل بها صوته الغارق في أعماق النسيان نحو وعي المتلقي بتقنية الحلم، وهي شبيهة بتقنية تيار الوعي، ومن خلال هذه التقنية نفذ الكاتب من المساءلة عن منطقية الأحداث، وهذا تخريج نقدي علمي¸يكشف التوازي بين كتابة القصة سرديًّا وكتابتها نقديًّا من خلال عقلانية التناص التوليدية.
استخدم الكاتب تقنية الشخصنة السردية: وهي تعني إعطاء عناصر السرد الأساسية (العقل، الذات، النفس، الخاطر، الضمير، اليد، أي الأشياء الثابتة التي تساهم بالكتابة، أي العقل ومكوناته)، وما خرج عنها (القلم، الحبر، الورقة، كومبيوتر... أي محتويات أو أدوات الكتابة) مهمة أو وظيفة سردية، بمعنى أن (محتويات العقل+ محتويات الكتابة) حين نحمّلها وظيفة الشخصية في سياقات السرد، نعتبرها تقنية شخصنة سردية، وقد شخصن الكاتب جهاز الكومبيوتر وجعله بمقام الضمير وهو يواجه خاطر.
تقنية التماثل:
بنى الكاتب فنيًّا التشابك السردي بحبكتين، حبكة روائية وحبكة حكائية، وبالتالي كان هناك عقدتين رئيستين، عقدة الرواية تمثّلت بحدث الحريق الذي نتج عنه احتراق الكومبيوتر وصورة الأم، أعقبها حالة نفسية سيئة لبطل الرواية خاطر، نسي خلالها أحداث روايته التي كتبها على الكومبيوتر دون حفظ، فخلق حالة من التماثل بين الذاكرة البيولوجية والذاكرة الإنتاجية التكنولوجية، حيث مُسِحت الرواية من كلا الذاكرتين، وهي لعبة فنية، ليولّد الكاتب من خلالها أحداثًا جديدة تنقلنا إلى حبكة الحكاية، العقدة الرئيسة الثانية كانت في حادث الحريق الثاني الذي طال بطل الحكاية (علي بن محمود القصّاد) وأدى إلى تشويهه في المرة الأولى وموته في الثانية، أراد الكاتب في الاحتراق الثاني خلق تماثل بين الكومبيوتر المحترق ورأس علي بن القصّاد بعد الاحتراق، ليتعمّق بخبايا الظلم، وليخلق تمازجًا أخلاقيًّا لرسالة ينقلها إلى المجتمع حول حالات الملاحقة للإنسان العليم، فلم تقتصر على خسارته الأولى التي دفعها كعربون للظلم من تشويه أعضائه الفيزيائية، والتي أحدث فيها مقارنة باحتراق الشخصية في مجتمع ليس فيه مكان للإنسان العالم المستنير، وبين منتجه العلمي الذكي الكومبيوتر، كلاهما، العقل التكنولوجي، ممثلًا بالكومبيوتر، مع العقل البشري وصاحبه الإنسان المستنير، لم يسلما من نيران الظلم وتشويهات الجهل.
تعدّد العقد السردية :
استطاع الكاتب في هذا العمل السردي أن يقوّي درجة التشويق بتقنية تعدد العقد، فقد استخدم حدث الحريق أربع مرات، وفي كل مرة، يزيد نار التشويق إوارًا بنقل الحدث السردي من حالة إلى أخرى من خلال حادثة احتراق معينة بدأها من احتراق الكومبيوتر التي غيّرت مجرى الأحداث الواقعية باتجاه أحداث خيالية، الحريق الثاني الذي أحدثه عند تنامي الصراع بين بطل الحكاية (علي بن محمود القصّاد) مع أخوة بارعة الذي انتهى إلى إشعالهم النار في غرفته في عمّان، هروبه إلى فرنسا وتغيّر اتجاه الأحداث لينال الماجستير والدكتوراه، الحريق الثالث الذي طال غرفته في فرنسا من قبل جماعة متطرّفة، وأعطاه أزمة نفسية هي التشوه الخلقي التي حول مجرى حياته هناك تمامًا، وعودته إلى عمّان مشوّهًا فقيرًا يتسوّل معيشته، الاحتراق الرابع، الذي طال منزله في البستان وأعطاه الموت، العقدة الخامسة هي نوم خاطر تحت الشجرة واستغراقه في حلم أعطاه ذاكرة جديدة تذكّر فيها روايته حرفيًّا. فنرى مقدرة الكاتب وتمكّنه من تغيير مجرى الأحداث بتقنية راقية لم نألفها من قبل، هذا التعدد في العقد يزيد العمل الأدبي المحبوك تشويقًا، لكونه حالة فنية معصرنة تجعل المتلقي يتنقل بعقله من عقدة إلى عقدة وكأنه كتب عدّة روايات، تُحسب تلك الحالة للكاتب كعصرنة غير معروفة من قبل.
الرمز العام:
تكرّر حدث الحريق يدفعنا إلى اعتبار الحريق رمز، فبعد كل حريق هناك حدث سلبي، ينتج عنه تحوّل سلبي، يعطي رمزًا زمكانيًّا بديلًا للعقدة، القصدية من جعل الحريق رمزًا عامًا هو مواجهة لعبة الحظ السيء، في كل مرة يقدم البطل على عمل جيد يُواجه بحريق، وهي حالة سيئة عوّضت عن تعدّد العقد في الرواية ب:
تقنية العقدة الزمكانية أو الحدث الزمكاني بديلًا للعقدة يعطي توضيحًا بأن الحريق هو تغيّر حدثي رمزي استخدمه الكاتب كحالة تفاعلية عكسية، تعرض للمتلقي كمية البؤس والإحباط التي تواجهها شخصيات الرواية، ليعكس حالة اليأس والتشاؤم في الصراع مع الحياة.
هناك تقنيات سردية أخرى معروفة استخدمها الكاتب:
كتقنية التدوير، والمذكّرات، والحوار المسرود¸والديالوج¸
معادل موضوعي أقامه الكاتب بين صورة الأم المحترقة وبين الذاكرة الممسوحة التي اعترت بطل الرواية (خاطر)، فالأم ذاكرة الابن التي يستلهم من صورتها كل تفاصيل الحكاية، ارتأى المؤلف أن يقابل هذه الخسارة والغياب ب تعويض نفسي وهو الحضور عبر تقنية الأحلام لرأب صدع الذاكرة المصدومة بالخسارات.
إن الرواية المعصرنة هي رواية نفسية، تنطلق من تداعيات الوعي الذاتي، لا تحتمل وجود سارد عليم، لذلك، ومن خلال إدراك الأديب جلال برجس لهذه الحيثية، أعطى الشخصيات الساردة في الرواية (خاطر) والحكاية (علي بن محمود القصّاد- لمعة – بارعة) مساحاتها في تولي مهمة السرد الروائي والحكائي، ليكون السرد الذاتي بضمير الأنا ناسفًا لسرد الغائب العليم، وبذات الوقت يفسح المجال للشخصية للتعبير عن الثيمة أو القيمة الموضوعية التي تحملها من خلال الكسف عن أبعادها الجسدية والأيديولوجية والاجتماعية والنفسية.
فمن أهم مقومات وركائز الميتاسرد، ظاهرة الذاتية، أو المرجعية الذاتية auto – refrence، حيث يوظّف المؤلف ضمير المتكلم في الروي، فتبدو الرواية قريبة من السيرة الذاتية، وقد يبدو هذا النوع من التقنيات السردية نسفًا للراوي العليم، كما أسلفنا، وتدخلًا سافرًا من المؤلف الذي يقتحم سير الأحداث فارضًا صوته وفكره على شخصيات الرواية، ضاربًا عرض الحائط بتقاليد الكتابة السردية التخييلية، حتى أن البعض نظر إليه بوصفه رواية مضادة anti- novel، أو رواية مقالة أدبية واجتماعية.
البؤرة الفكرية واستراتيجية الكاتب :
سبق وقرأت للروائي جلال برجس بعض الإصدار، وتأخذني الذاكرة نحو رواية (دفاتر الوراق)، ولاحظت أنه يستخدم نفس التقنية الميتاسردية، وهذا يدفعنا لاعتبارها استراتيجية سردية معتمدة من قبله في معظم أعماله. نستشف في هذا العمل أيديولوجية الكاتب، من خلال آرائه الفكرية التي طرحها على لسان الشخصيات الرئيسة، والتي تشكل دعوة واضحة لمقاومة الأفكار الظلامية ودعاتها، والوقوف في وجه الجهل والتجهيل، معتبرًا الكلمة الطيبة والفكرة النيرة سلاحًا نافعًا يمكنه اجتثاث العفن الذي استشرى في عقول معطّلة إلا عن الأفكار الهدّامة التي لا يقرّها شرع ولا علم ولا عرف، لكنه في النهاية، أيقن أن الظن لا يغني عن الواقع، وما جذّرته السنون العجاف لا يقتلعه قلم أو ريشة أو وتر.
هناك ثنائيات كثيرة تتواجه وتتصارع في هذه الرواية، الحب والكره، القبح والجمال، الظلم والعدل، العلم والجهل، التسامح والحقد، التطرّف والاعتدال، التحضّر والتخلّف......الخ، وكلها ثيمات متفرعة عن قطبي الثيمتين الأساسيتين، الخير والشر، والصراع الإنساني بينهما على مسرح الحياة.
المستوى الأخلاقي Moral Level:
فنيًّا، كان من الممكن أن تنتهي الرواية عند حدث الاستفاقة من الحلم، وتعافي ذاكرة خاطر، وتذكّره أنه نام تحت شجرة التوت المعمرة، واكتشافه أن الحكاية كانت عبارة عن حلم طويل مات فيه ابن القصّاد، وأن الحكاءة هي أمه بارعة التي ماتت منذ سنين، لكن الكاتب أراد أن يرسل رسالة وجدانية إلى المتلقي، فأضاف حدث مضي خاطر إلى المقبرة لزيارة أمه، ورؤيته في الطريق لأطياف من شعبه الأردني، ويقصد الشعب العربي بالعموم، وشاشة تلفاز وهي تعرض حادثة قطع رأس لفتاة كتبت بضع كلمات عن الحب من قبل جماعة متطرفة، ثم فيلمًا عن الجماعة نفسها تهدم مساجد وكنائس، وطوائف ينحر بعضهم بعضًا، رسالة يشجب فيها الكاتب كل هذه الأعمال التي تخلّ بالمنظومة الأخلاقية الإنسانية العالمية، الطائفية والتطرف والإرهاب مرفوض بكل أشكاله، ومهما كانت مسوغاته، فهي جهل وظلامية لا تجرّ على المجتمع إلا الخراب والموت، ولن تكفي معها الكلمة، بل لابد من حلول أخرى، لم يصرّح عنها الكاتب لأنه يجهلها، تملك من القوة ما يمكّنها من السيطرة ومسك زمام الأمور.