09-07-2023 08:14 AM
بقلم : المهندس خالد بدوان السماعنة
كان الله لك يا جنين ! وكان الله لكم يا أهل فلسطين الحبيبة! .. وثبت الله أقدامكم ونصركم الله على عدوه وعدوكم.
هالني والله ما قرأته تصريحا لرئيس بلدية جنين حين وصف المدينة وآثار العدوان عليها كأنها خرجت من بين براثن زلزال مدمر. لتبقى فلسطين دوما الخاصرة المصابة في جسد الوطن العربي عامة، والإسلامي خاصة، لتؤرق مضجعه كلما غفا أو حتى فكر أن ينام.
لكن هذه الخاصرة المتألمة لاينفك البعض أن يزيدها ألما من خلال الضغط عليها أكثر وأكثر ، وانا كأردني ويعنيني الشأن الأردني وتداعيات هذه الأحداث على الأردن ملكا وحكومة وشعبا .. جاشت في نفسي كلمات .. فأحببت أن أدلي بدلوي .. في وقت تكثر فيه المطالبات من البعض بإعلان موقف رسمي يتسم بالصرامة والحزم والقطيعة مع كيان الحكومة الإسرائيلية !
علمتني القراءة والتأمل في حياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام أن الحياة نَسيج خيارات متعددة، والعبقرية الفذة لا تكمن في معرفة الخير من الشر .. بل إنها تظهر جلية في فكر المحنك وذي المنطق الذي يحسن الاختيار، فيفرق بين خيرين ليختار أرجحهما في الخيرية، ويدفع أشد الشرين باختيار أقلهما شرا.
عبقرية فذة يحتاجها صاحب القرار في مثل هذه الحلك من الظلام ..وفكر مستنير يخرج به ليفكر خارج الصندوق.
لو سافرنا في آلة الزمن ووقفنا على مجريات صلح الحديبية.. وتلك الشروط القاسية من أهل مكة يومها على رسول الله .. " ... أن يردَّ (الرسول) محمد كل مَن أتى إليه مسلمًا إلى قريش، ولا ترد قريش مَن أتى مُرتدًّا من المسلمين".
هل تريد أن تفهم عمق الغضب الذي تركه هذا الشرط في نفوس المسلمين يومها؟! ..
انظر إلى حال الفاروق عمر وهو يجادل رسول الله في ذلك ويقول:
" .. فعلام نُعطي الدنيَّةَ في ديننا، ونرجعُ ولما يحكمُ اللهُ بيننا وبينهم؟ ". وهو عمر! ملهم هذه الأمة ومحدثها !
فكيف بغيره ممن هو أقل علما وصحبة لرسول الله !!
واقعنا اليوم مع كيان الحكومة الإسرائيلية شبيه بواقع المسلمين في مكة وأول قدومهم المدينة النبوية ..
فالضعف باد، وسطوة العدو وديكتاتوريته واضحة كالشمس في رابعة النهار. وكأني برسول الله يمر على عمار بن ياسر وهو يعذب مع والديه أشد العذاب فلا يزيد عن قوله:" صبرا ال ياسر فإن موعدكم الجنة" .. وكأني به حين أتاه خباب بن الأرت يشكو له شدة العذاب الذي ألم به، ويسأله أن يدعو له ! فلا يزيد عليه السلام على أن يذكره بصمود من قبلهم من الأمم في وجه الطغاة: «ولكنكم تستعجلون ».
نعم .. نحن في الأردن لدينا موقف حساس وحرج جدا مع كيان الحكومة الإسرائيلية .. والضغط الشعبي والسياسي يزيد الخاصرة المتألمة ألما .. والموقف الرسمي بين خيارات محدودة أحلاها مر كالحنظل.
رجالات قُريش - يوم الحديبية- أوجدوا معضلة بشرطهم الدكتاتوري في وثيقة الصلح، وكل مَن قرأ هذا الشرط وعى حجم هذه المعضلة، ووعى أيضا أنه وليستطيع حل هذه المعضلة فلن يكون ذلك ضمن مستوى تفكير من أوجدها، بل لابد من التعالي في حدود التفكير.
« أبو بصير » هذا الصحابي كان من أوائل الممتحنين بهذا الشرط .. وصل المدينة هاربا بدينه .. فلحقته رسل قريش يطلبون محمدا بتنفيذ الشرط .. فعلم أبو بصير أن لا مناص من العودة معهم ..
لم ينشغل أبو بصير بتحميل القيادة الإسلامية في المدينة يومها عبأ تصرفه المضاد لنص المعاهدة ! لم يتهم القيادة بأي تهمة! بل رضخ وأذعن وصبر بل عاد أسيرا مع رسل قريش .. وبدهائه قتل أحدهما وفر منه الآخر .. ثم عاد أبو بصير إلى القيادة النبوية وقال مخاطبا: "يا نبي الله، قد أوفى الله ذمَّتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم".
هنا يستشعَر الرسول صدق وقوة عزيمة أبي بصير فناصره بقوله: ((ويل أمه؛ مِسعَر حرب لو كان معه أحد))، واللبيب بالإشارة يفهم ! ..
كان أبو بصير مركز تجمع كل من كان حاله كحاله .. فمن يفر من مكة مسلما يلحق بأبي بصير ولا يأتي رسول الله في المدينة حتى لا يسبب الحرج لرسول الله .. فتكونت عصبة من الرجال جعلوا هدفهم ضرب عمود قريش الاقتصادي .. القوافل التجارية ..فلم تجد قريش مناصا من أن تناشد رسول الله بالله والرحم أن يضمهم إليه ليرتاحوا من تربصهم بقوافلهم .. وهكذا كانت وستبقى ساعة العدل على الظالم أشدُّ من ساعة الجور على المظلوم.
الخلاصة .. إن الواقع السياسي والاقتصادي الذي يعيشه الأردن اليوم يفرض سياسة تتسم بالحكمة وتراعي الواقع السيء الذي تمر به المنطقة بأسرها، وكم من المشكلات في حياتنا تحتاج إلى الحلول المقننة، والدقة في الاختيار، والشجاعة في قول مافيه صلاح البلاد والعباد وإن كان لا ينسجم مع مايريده الكثير من الناس.
لقد قبل رسول الله بشرط قريش الديكتاتوري لأنه رأى أن في نجاح توقيع هذا الصلح تحقيقا لأمن المسلمين في المدينة، وأنه وإن وقع القهر بأفراد فإن الغالبية سيعيشون بأمن يستطيعون من خلاله دفع عجلة التنمية والقوة.
ولقد صدقت رؤية رسول الله في صلح الحديبية حتى سماه الله فتحا .. { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } .. ففتح الله به لأهل مكة - فيما بعد - باب أمن واسع، فدخل منه الناس في دين الله أفواجا.
ثقتنا بالقيادة الهاشمية وحكمتها وبعد نظرها تجعلنا نلتف حولها مؤمنين أن أبا الحسين من أكثر الناس حرصا على سلامة الأردن وأمنه، وأن عينه وإن كانت لا تغفل عن سلامة أراضيه، فعينه الأخرى على أهل فلسطين وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على ثرى فلسطين.