حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,23 ديسمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 1824

عندما أحنُّ إلى أربدْ

عندما أحنُّ إلى أربدْ

عندما أحنُّ إلى أربدْ

19-07-2023 11:13 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : م. أنس معابرة
عندما أحنُّ إلى أربدْ؛ أعودُ بالذكرياتِ إلى الماضي الذي لا أدركُ قُربه أو بُعده إلا من خلال عدّ السنواتِ، لأجدَ الزمن يُباعدُ بيني وبين ذكرياتيْ، وتزادُ الهوّةُ بيني وبين مدينتي الحبيبة.

عندما أحنُّ إلى أربدْ؛ أتذكّرُ الصباحاتْ الباردة وأنا أتوجهُ إلى مدرسةِ محمد بن القاسم الثقفيّ، ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقّاص، يبدأُ البقالونَ بفتحِ أبوابِ الدكاكين، أبو زهير وأبو عمر والديراوي – رحمهمْ الله جميعاً - أشتمُ رائحةَ الفلافلِ الصادرةِ عن مطعمِ الشيخ جهاد الحورانيّ من بداية الشارع، فلا أقاومُ تلك الرائحة، لتقودني خطواتي إليه.

عندما أحنُّ إلى أربدْ؛ أذكرُ المشوارَ الطويلَ إلى مدرسة أربد الثانوية، الرابضة على سفحِ تلّها الشهير، أحسستُ بالمسؤوليةِ في أولِ مشوارٍ لبُعد المسافة، أمرُّ بمستشفى الأميرة بسمة، وبمدرسة الراهبات الوردية، وأعبرُ أمام الكثيرِ من المحلاتِ والمخابزِ التي تفوحُ رائحةُ الخبزِ البلديّ منها، وعندما أصلُ إلى التل بأنفاسٍ مقطوعةٍ؛ أنظر إلى الكنيسة القديمة، ومدرسة حسن كامل الصباح، وإدارة الأمن العام بسجنها القديم، وبيت عرار.

عندما أحنُّ إلى أربدْ؛ أتذكّر مشواري من شارعِ فلسطين إلى جامعة اليرموك، مروراً بحي القَصيلةِ، وبالقربِ من حديقة إِعمار إربد، أصلُ إلى شارع الجامعة الصغير المزدحم، تترامى على جنباته المطاعم والمقاهي، ويتجاذبُ طلابُ الجامعة أطراف الحديث في كل مكان.

أدخلُ إلى اليرموك عادةً من البوابة الشمالية، أمرُّ من أمام الكشكِ لآخذ كوب قهوتي الصباحية، ربما اعتدتُ القهوة منذ تلك الأيام، أُكملُ طريقي دون أن ألتفت إلى أحد، أعبرُ دوّار شِعار الجامعةِ الشهير، وأصلُ إلى كلية الحجاوي التي تعلن سيادتها للجامعة من مكانها المُطلّ على الجامعة كلها.

عندما أحنُّ إلى أربدْ، أتذكّر منطقة الأسواق التي أحفظها عن ظهرِ قلبْ، فلقدْ عملتُ فيها لفترةٍ طويلةٍ، أذكُر سوق الخضار الممتدِ من مسجد أربد الغربيّ، وحتى دوار الساعةِ وكشكِ المكتبة، مروراً بمسجدِ أربد الكبير، وأسواقِ الحسبة الراسخة هناك منذ أمدٍ طويل.

أتذكّرُ سوق الذهبِ، وسوقَ الحمديةِ، وسوق البُخاريّةِ، وعلي الفوّال، وأحمد الفلافل، وياسين الفوّال، ومقهى الكمال، وسوق البالة؛ التي ألبستني لفترةٍ طويلةٍ من الزمان، أتذكّر شارع الهاشمي الطويل الواسع، كنت أعتقد أنه آخر المدينة، وبعده لن تجد سوى الخلاء.

أتذكّر شارع السينما – التي لم أدخلها يوماً – وكنت أعلمُ تماماً أنه من المستحيلِ أن أشتري شيئاً منْ هناك نظراً لأسعارها المرتفعةِ، وكانتْ زيارتنا لهُ محصورةٌ في عياداتِ الأطباءِ أو المختبراتِ فقط.

أتذكّرُ ميدان وصفي التل، ومُرطبات الشعب التي يجب أن أزورها كلما مررتُ من هناك، وكنافة العفوريّ التي تُعتبر واحدة من معالم المدينة القديمة، وعربة لحمة الرأس التي تقفُ هناك كلَّ مساء، ومحامصْ كردش، ومحلات كل شيء بدينار، وسرفيس أيدون.

أتذكّرُ مجمّع الأغوار القديم، بباصاتهِ وسياراتهِ وعرباتهِ وزحمتهِ المعهودةِ، ومطحنتهِ الشهيرةِ التي تستقرُ في رُكنه القصيِّ، تراقبُ الحركة المحمومة في المجمّع دوماً.

أذكرُ محلاتِ الحلوياتِ على أبوابِ المجمّع، يسيلُ لعابكَ من ألوانِ العوامةِ وكرابيجِ حلب وأصابعِ زينب الذهبية، والتي تقطرُ عسلاً، وتنادي عليكَ: أن تعال وتذوّق.

أتذكّرُ القرى الكثيرة التي تُحيطُ بقصبةِ المدينةِ من نواحيها الأربعِ كما يُحيط السِوارُ بالمعَصم، في الشرق؛ سال وبُشرى والمغيّر، وفي الجنوب؛ المزار وارحابا وأيدون والحصن، وفي الشمال؛ حوارة وبيتْ راس والتطوير الحضري والرمثا، وفي الغرب؛ كفريوبا وزحر وججّين ودوقرا وسوم وكفر أسد وير أبي سعيد وهام وناطفة، وغيرها العشرات من القرى.

عندما أحنُّ إلى أربدْ؛ أتذكّر الحيّ الشرقيّ، ودوار القيروان، والتعبئةِ، والمؤسسةِ الإستهلاكيةِ العسكريةِ، وحديقةِ الأمير راشد.

أتذكّرُ قريتي الحبيبة سوم، وباصاتها الأربع التي تأخذ وقتاً طويلاً لإيصالك إلى غايتك، أتذكّرُ مُرور باصها بالحيّ الشرقيّ والحيّ الغربيّ والحيّ الشماليّ للقرية، وأنا أتقلبُ على الجمر بإنتظارِ أن أصلَ إلى بيتي، وقد سبحَ جسدي في العرق أيام الصيف، أو أنني فقدتُ الإحساسَ بأصابع يديّ وقدميّ أيام الشتاء.

أتذكّرُ جديّ - رحمه الله – الذي علّمني أن أتعلّقَ بالأرضْ كما يتعلّقُ الولدُ بثوبِ أمه في زحمة السوق، أتذكرُ مجلسهُ العامر بكبراء القرية ومشايخها كل ليلة، ونقاشاتهم وحواراتهم التي لا تنتهي، أتذكرُ الحاجّ فريد الصيتان، والحاجّ أبو المنذر، والحاجّ أبو الوليد، والحاجّ علي السلامة، وعمي أبو غالب، وعمي قاسم أبو محمد، وعمتي أم محمد.

أتذكرُ المَسير في شوارعِ القريةِ الصغيرةِ الضيّقة، أشتمُ رائحة النعناع والزعتر والروز ماري والميرمية، وأشاهدُ كُتلَ الأشجارِ الخضراءِ المتراميةِ أمامَ المنازلِ وعلى أطرافِ الطرقِ، أشاهدُ شجرةَ الجُهنمية (المجنونة) بلونها الأحمر الدمويّ وأوراقها الخضراء، وقد ملأتْ زهراتها الشارع، أشاهدُ شجيراتِ مكنسةِ الجنة وهي تستجيبُ لنسمات الهواءِ بالإنحناءِ اللطيف، أشاهدُ أشجارَ الزيتونِ؛ التي تضربُ جِذراً عميقاً في الأرض، ربما أعمقُ من الإنسان ذاته.

أمرُّ من أمامِ مسجدِ عمر بن الخطاب بمأذنته الحديديّة التي طالَ الصداء بعضَ أجزاءها، وحديقتهِ الممتلئة بأشجار ِالزيتونِ، وهناك في الزاوية؛ ينظرُ الينا المسجدُ القديمُ بعيونٍ حزينةٍ، نتيجةَ تطاول المسجد الجديدِ عليه، وتصدّره للمشهد.

عندما أحنُّ إلى أربدْ؛ أتمنى لو كنتُ هناك، لأتجوّلَ في المدينة لساعاتٍ طويلةٍ، أتفقّدُ كافة جوانبها وأركانها، أن أتذوقَ طعمَ حباتِ الفلافلِ الساخنة، وأشتمَ رائحة المدينةِ القديمةِ التي لا تذهب من خيالي أبداً.

أعلم أنني نسيتُ من مدينتي أكثر َمما ذكرتْ، وبرغمِ كل هذا الحنين الجارف إليها؛ إلا أنني عندما أزورُ المدينة، يُستبدلُ شوقي بخوفٍ دفينْ، أخشى الحركة فيها قيد أُنمُلة، أخافُ أن أذهب الى دوار الساعةِ؛ ولا أجد كشك الكتب، أو أن أدخلَ الى حلويات العفوري؛ ولا أجدُ الحاجّ عزمي خلف مكتبه، أخافُ ألا أجدْ محلات الحلويات على أبواب مُجمّع الأغوار، أو أن يكون المجمّع خراباً بعد نقله إلى مكانٍ آخر، أخاف ألا أجد سيرفيس البارحةِ في مكانه بالقربِ من التل، أو أنه تم نقلُ مكتبة بلدية أربد الكبرى إلى مبنى جديد.

أخافُ أن أسمعَ بأسماءِ شوارع جديدة لم تكنْ هناك، أخاف أن أجدَ المنسف وقد أصبحَ يُباع في كأسٍ ورقيةٍ، وأنَّ المقاهي تقدّمُ الإسبريسو والفارباتشينو والموكا من خلال الماكينات، ولم تعدْ تغلي القهوة كما في السابق.

أخشى أن أدخلَ إلى الزقاق المقابل لمجمّعِ الأغوار ولا أجدُ المشتل هناك، أو أن يكونَ محل بيع الهريسة قد أقفل أو إنتقل، أو أنّ محل فوزي السلطيّ لم يعدْ في مكانهِ هناك في شارع الرشيد.

أخافُ أن أذهبَ إلى قريتي لأسأل عن أبطال طفولتي؛ جديّ ورفاقه، أو أعمام والدي، أو عمتي أم محمد، أو جيراننا هناك، فيدُلني الناس على قبورهم في مقبرةِ القريةِ بجوارِ مقام أبو الدرداء رضي الله عنه.

يتغلّبُ خوفي على رغبتي، أحاولُ إنعاش ذاكرتي بأكبر قدرٍ من الأماكنِ والأحداثِ التي عشتها في المدينة، أحافظُ على تلك الذكريات من خلال ترديدها فقط، لا أريد أن أرى مدينتي بشكلها الجديد، بل أتمنى أن تبقى في ذاكرتي تلك المدينة البسيطة "أربد".








طباعة
  • المشاهدات: 1824
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
19-07-2023 11:13 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
لا يمكنك التصويت او مشاهدة النتائج

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم