23-07-2023 01:16 PM
بقلم : السفير قيس شقير
اللغة هي وعاءُ الفكر، ولا يستقيم الفكر دون وعاءٍ قادرٍ على استيعابه وإبرازه في إطارٍ يليق به. ولغتنا العربية هي أمُّ اللغات، نَهل غيرُها منها وتأثّر بها، والشواهد على ذلك لا تحصى، وتكفي الإشارة إلى الفارق بين عدد مفرداتها والذي تجاوز اثني عشر مليونًا، وعدد مفردات اللغة الإنجليزية التي تليها، - وهي الأكثر استخدامًا اليوم – بما لا يزيد كثيرًا عن ستمئة ألف فقط.
فما هو واقع لغتنا اليوم؟ وما حالنا نحن معها؟ أهي في المكانة التي تليق بها وعاءً لفكرنا، وحافظةً لتاريخنا؟ وأما تزال واسطة التخاطب والتفاعل والإبداع بصنوف الأدب شعرًا ونثرُا وفنًا؟ وهل نحسن استخدامها ونمسك بناصيتها؟
إن نظرةً خاطفةً على واقع اللغة العربية اليوم، تقتضي أن نسأل كيف نحمي لغتنا؟ وأين لغتنا الفصحى اليوم بثرائها، وعذوبتها، وجزالة ألفاظها، وسعة صورها بيانًا، ورصانة نحوها وصرفها، من اللهجات العامية التي طغت في مجتمعاتنا، فغدت جلُّ برامج التلفاز بالعامية، والحوارات على وسائط التواصل الاجتماعي كذلك، ممجوجةً باللغة الإنجليزية، والتي غدت منافسةً للاثنتين: الفصحى والعامية، إلى حدِّ كتابة أسماء الفنانين على شارات الأفلام والمسلسلات العربية باللغة الإنجليزية، فأبدلنا الضاد دالًا، وبتنا نقرأ اسم طلعت بالتاء وليس بالطاء، افتتانًا بحروف اللغة الإنجليزية. وغدا تخاطب أولادنا بها مدعاة مباهاةٍ اجتماعيةٍ، فتتحدث العائلة في البيت بخليطٍ من اللغتين بزعم أنّ الإنجليزية أسهل للتواصل، فهي لغة التخاطب في عالم الأعمال والإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، وفي التعليم، إذ للمدارس الأجنبية أفضليةٌ لمن يبحث عن جودةٍ قد لا نجدها في معظم مدارسنا الحكومية لشديد الأسف.
ويزداد المشهد قتامةً إذ نرى من القيّمين على اللغة العربية أساتذةً وأدباءَ وشعراءَ لا يتقنون الحديث بالفصحى، ويُخطئ بعضهم بكتابتها وقراءتها. فنقرأ مقالاتٍ لمختصين لا يفرّقون بين التاء المربوطة والهاء في آخر الكلمة، ويمضي بعضهم في كتابة قصصٍ قصيرةٍ باللهجة العامية متناسيًا أنه أستاذٌ للغة العربية، ويسوّغ لنفسه هذا بأن الهدف هو إيصال الفكرة، وكأنما العمل الأدبي قائمٌ على تمرير الأفكار دون ما إبداع في اللغة، ولا في الأسلوب، ولا في الصياغة. وحدّث ولا حرج، فكم من مسؤولٍ يخلط بين الفاعل والمفعول؟ وكم من مذيعٍ لا يراعي الفرق بين الممنوع من الصّرف والمصروف. وليس هذا مظهرٌ لتردي حالنا مع لغتنا فحسب، بل هو أيضًا من أسباب الخلل في مسار التعليم كلّه، فكيف لمن يدرّسنا اللغة العربية ألّا يكون متمكنًا من قواعدها نحوًا وصرفًا؟ وكيف له أن يجذبنا إليها، وهو بعيدٌ عن فضاء الإبداع لغةً وفكرًا وأدبًا، فيكتفي بإيصال المعلومة إلى الدارس كيفما اتفق؟ ومن سيحمي الفصحى، وحتى العامية، والتي باتت هي أيضًا في مرمى تيار التغريب ومدّعي "الحداثة" بذريعة الواقعية، والتفكير العملي المواكب "للتطور"؟
لقد سعت الحكومة – مشكورةً – لحماية اللغة بوضع قانون " حماية اللغة العربية" عام 2015، منعت بموجبه التخاطب الرسمي ما بين المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني بغير اللغة العربية، وحثّت على استخدام العربية في البحث العلمي، ومجالاتٍ أُخر تعزّز بالفعل من واقع اللغة العربية، وهو الأمر الذي انتهجته أيضًا دولٌ عربيةٌ أخرى كمصر، والعراق، وقطر.
وبرزت مبادراتٌ فرديةٌ لوضع برامجَ مماثلةٍ لبرامج التأهيل باللغة الإنجليزية كالتوفل مثلًا، لرفد من يتقدم لوظيفةٍ، أو لبرامج دراساتٍ عليا، بسويةٍ معقولةٍ في اللغة العربية قراءةً، وكتابةً، ومحادثةً لمذيع نشرة الأخبار، وللموظف العام، وللمعلم، ولأستاذ الجامعة وغيرهم، ممن يمثلون البلد في محافلَ أكاديميةٍ أو سياسيةٍ، وغيرها، على مختلف المستويات محليًا ودوليًا.
إن مبادرات كهذه تستحق الثناء، من جهةٍ، والرعاية الرسمية من جهة أخرى، ولا يجوز أن تظل حبيسة رؤى أفرادٍ، فهي تسهم في تعويض النقص الحاصل في تعليم اللغة العربية، والذي نلمسه واضحًا عند طالب المدرسة الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة بها، حتى بعد التحاقه بالجامعة.
وللأمانة، فإن المشكلة لا تنحصر في التعليم المدرسي، وبمنهاجه الذي أُعلن قبل أيامٍ عن اعتماد نسخةٍ محدّثةٍ منه للبدء في تعليمها في المدارس في العام الدراسي المقبل، بل وفي التعليم العالي، وفي كفاية بعضٍ من هيئات التدريس. فكيف لنا أن نعتدّ بمن يحوز على رتبةٍ جامعيةٍ بأبحاثٍ معدّةٍ سلفًا تُباع وتُشترى، كما أظهرت تحقيقاتٌ صحفيّةٌ محليّةٌ؟ وكيف لبعض من حمل رتبة أستاذٍ مشاركٍ ثم أستاذٍ بقرار لجنة ترقيةٍ الحسم فيها لرئيس الجامعة الخاصة، أن يُسهم في تخريج جيلٍ مبدعٍ في ميادين العلم والعمل؟
إن ضعفنا باللغة العربية هو مؤشرٌ على ضعفٍ عامٍ في نظامنا التعليمي، نقرُّ به دومًا، لكننا لا نتصدى له بما يستدعيه من أولويةٍ تُعطى لمعالجته ضمن إستراتيجيةٍ شاملةٍ تنهض بنظامنا التعليمي، تواكب تجارب من سبقنا في هذا المجال، ولا نتبنى نماذجَ جاهزةً بحجّة مواءمتها العصر. علينا أن نركن إلى خبراءَ ينتظرون الفرصة لتقديم حصيلةٍ ثريةٍ تجمّعت لديهم عبر سنين عملٍ طويلةٍ في حقل التعليم في مدارسنا وجامعاتنا. وقد تكون السبيل إلى ذلك مبادرةً ترعاها الدولة للنهوض بواقعنا التعليمي، تضمّ أصحاب الشأن والخبرة في سياق جهدٍ وطنيٍ يهدف إلى انطلاقةٍ للتعليم القائم على أسسٍ منهجيةٍ توائم مجتمعنا ثقافةً وفكرًا وحضارةً، ديدنها إعلاء قيمنا، محصلةً لبناء دولةٍ راسخة البنيان، تُفسح المجال للإبداع، والفكر المستنير، دونما تطرفٍ ولا تعصبٍ ولا انغلاقٍ.
وحريٌّ التأكيد أن الغاية المرجوّة ليست القفز عن الواقع، وإحلال الفصحى مكانها الصحيح بين ليلةٍ وضحاها، بل إن فهم الواقع يدفعنا للتعاطي بموضوعيةٍ مع الأمر، فلا يمكن لأحدٍ تصور نقلةٍ بقبسة قابسٍ، فنتجاوز لغتنا المحكية وما شاع بيننا من مفرداتٍ إنجليزيةٍ وأعجميةٍ عمومًا، نُضمّنها أحاديثنا كالتلفزيون، والإنترنت، والمول وغيرها، ممّا درجت عليها ألسنتنا، إذ يمكننا التعايش مع هذا الواقع ببعض المرونة، بحيث يظلُّ الهدف الأسمى التمّكن من لغتنا الفصحى، والتمسّك بها، والتمتّع بما تهبه لنا من غنىً في التعابير، وجزالةٍ في الألفاظ، ورقيٍّ في التخاطب. ولعلّ هذا هو شأن المختصين لتقريب اللغة العربية الفصحى منّا، وجذبنا إليها، حتى تقف لهجاتنا ضمن سياقاتها الاجتماعية المحددة، واللغات الأجنبية، وأهمها الإنجليزية، عند حدود كونها لغةً ثانيةً، علينا تعلّمها وإتقانها.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
23-07-2023 01:16 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |