بقلم : د. صلاح جرّار
شغلني موضوع الذوق كثيراً وكتبت عنه غير مرّة ولكنّني في كلّ مرّة أكتشف أنّ ثمّة جوانب من هذا الموضوع ما تزال في حاجة إلى مزيد من الإضاءة، لأهميّة موضوع الذوق في حياة الأمم والشعوب والأفراد.

وفي رأيي أنّ الذوق مقترن بالتحضّر، فكلّما تحلّى أبناء المجتمع بأصول الذوق في علاقاتهم وسلوكهم وتعاملاتهم دلّ ذلك على درجة التحضّر التي بلغوها، وكلّما ازدادت مظاهر التحضر في المجتمع ازدادت فرص التقدّم والنجاح والتميّز.

والذوق ليس محصوراً في سلوك معين أو مجموعة من السلوكات، بل هو متمثّل في كل سلوك يسلكه الفرد، حيث إنّ السلوك يمكن أن يصدر عن الشخص بطريقة مذمومة أو ممجوجة عند غياب الذوق، ويمكن أن يصدر بطريقة مقبولة ومأنوسة فيكون بذلك ممتزجاً مع الذوق، وقوام الذوق في هذه الحالة أن يأخذ الشخص في اعتباره كلّ الاحتمالات التي قد تنجم عن أي سلوك أو تصرّف وأثر تلك الاحتمالات على الآخرين الذين يتعامل معهم؛ فمن الناس من لا يبالي بنتائج أفعاله ووقعها على الآخرين، وهو صاحب الذوق السقيم، أمّا من يراعي التأثيرات المحتملة لسلوكه على الآخ?ين فهو صاحب الذوق السليم.

وللسلوك الذي يدلّ على التحلّي بالذوق صورٌ لا تحصى، وكذلك السلوك الذي يدلّ على غياب الذوق، ومتى رجح النوع الأخير هذا فإنّ المجتمع يكون في حاجة إلى إجراءات إصلاحية وتربوية.

لكنَّ ذلك لا يعني أنّ الذوق يمكن اكتسابه بالتعليم فقط، بل هو في الأصل إحساس خفيّ خاصّ ينعم به الله تعالى على الإنسان يشبه المنبّه الذي يجعل الشخص قادراً على إدراك ما ينبغي فعله تجنبّاً للإساءة للآخرين عن قصد أو عن غير قصد، كما يعمل هذا المنبّه على قاعدة الحديث النبويّ الشريف: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه».

ولئن كان من الناس من لا يملك الخاصيّة التي وهبها الله تعالى لأصحاب الذوق السليم فإنّه في هذه الحالة يمكن تعليم بعض قواعد الذوق وبعض أنماط السلوك التي تنبثق من الذوق للناس عبر وسائل التعليم المختلفة سواءً في المنزل أم في المدرسة أم في الجامعة أم غيرها، ويمكن إدخال بعض أنماط السلوك في القوانين التي يسير عليها المجتمع حتى يتحوّل السلوك الذي يدلّ على الذوق إلى سلوك مجتمعيّ عام يعاقب القانون على الإخلال به.

وقد يبدو غريباً أن أقول بأنّ لدى المخلوقات الحيّة الأخرى من طيور وحيوانات وحشرات وغيرها ما يدلّ على تحلّيها بالذوق في تصرّفاتها وتعاملاتها، ويتجلّى ذلك في بعض صور الاحترام والإيثار والتعاون والتزام النظام في سلوكها، وهي شروط رئيسية من شروط التحلّي بالذوق السليم عند بني البشر.

ومن القواعد التي يمكن الاستئناس بها في تعليم الذوق وإشاعة السلوك المزدان بالذوق مراعاة قاعدة «لكل مقام مقال» وقاعدة إنّ الله يحبّ الجمال، وقاعدة أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وبذلك يمكن الوصول إلى درجة عالية من السلم الاجتماعي والاستقرار والتقدّم والتميّز.

Email: Salahjarrar@hatmail.com