23-08-2023 11:00 AM
بقلم : يوسف المرافي
ما زلت أسرد لكم القصص الواقعية لعلها تكون عبرة و موعظة للبعض، فأنا اليوم بصدد سرد قصة واقعية مؤثرة جدا أتركها للقارىء للحكم عليها مع زميلي الطالب الجامعي حدثت قبل (٢٢) سنة عندما كنت أدرس في الجامعة ، حيث أن معظم ما حدث معي وسردته لكم مؤخرا تختلف عن سابقاتها و هذا السرد كان من باب الحقيقة والإقناع للناس و من باب الموعظة والحيادية لكي أسرد الأحداث كما هي دون تزييف ، لذلك من باب النزاهة في الكتابة و الحيادية التي عرفتموها عني سوف نذكر محاسن زميل لي ومواقفه المشرفة التي أسأت الظن به ، و بعض الأخطاء غير المقصودة التي وقعت بها تجاه زميلي الذي لم أكن أعرف أنه يعمل الخير في تلك الحادثة .
بداية قبل سرد الحادثة كنت في السنتين الأوليتين من دراستي الجامعية أعيش في غرفة شبه مهجورة تنعدم فيها وسائل السلامة العامة ، كنت مجبراً على عدم ترك الغرفة المهجورة ، فقد كنت مستأجرها ب ( ١٥ ) دينارا دون دفع فاتورة الماء ولا الكهرباء ؛ لأنني كنت أقوم بتشغيل لمبة واحدة وبعض الأحيان أستخدم فانوس الكاز في حالة انقطاع الكهرباء ، وفي الشتاء لا أقوم بتشغيل التدفئة الكهربائية ، وعندما أشعر بالبرد القارص أقوم بتشغيل البابور وأضع عليه غطاء من الحديد لزيادة الحرارة في تدفئة الغرفة ، وكنت أستغله وهو مشتعل لتسخين الماء ؛ لكي أغسل ثيابي وملابسي و تارة أخرى للاستحمام لعدم وجود القيزر و غير ذلك ، كما كنت أستغله لعمل قلاية بندورة يوميا ؛ كون سعر البندورة في ذلك الوقت رخيص .
بعدها بسنتين انضم لي بعض الزملاء في السكن وقمنا بعمل صيانة خفيفة للغرفة و تشاركنا في أجرتها ومصروفها الأسبوعي وتحسن الوضع قليلا .
شعرت بعد انضمام زميلين أن أحد الطلبة يتعمد ألا يأكل معنا وجبتي الغداء و العشاء ، فقد كان يضع له مقدار بسيط من الطعام و يذهب لتناوله في المسجد القديم المجاور لنا كما كنا نظن في البداية ، لا أخفيكم سرًا أنني كنت أنزعج كثيراً من تصرفه وتضايقت من سلوكه هذا ، و كنت أشعر بالندم لأنني أسكنته معي ، وكان الشيء الوحيد الذي يعزيني في ذلك الطالب أنه كثير التدين؛ فهو يمضي وقته في القراءة ومطالعة كتبه الجامعية و قراءة القرآن الكريم ، وفي الليل يمضي وقته في التهجد وسط الظلام ، حيث كنت أصحو بالليل وأجده يصلي ، فقد كان يتعمد أن ينام مبكراً ، بينما نحن نمضي الوقت حتى ساعات متأخرة في الحوار والبعض الآخر يلعب الشدة ، و كان عندما يأتي من المسجد متأخرا يقوم بطرح السلام علينا و على من يأتي عندنا من زملاء حتى يمضوا معنا السهرة في الغرفة ، بينما هو يتعذر ، و يقول :" عن إذنكم، رايح أنام حتى لا تضيع عليَّ صلاةَ الفجر " كان الزملاء يستغربون تصرفه و كانوا يقولون:" شو هالطبع هذا و لا كأنه جالس مع ناس ما زال الوقت مبكراً كأنه مش حاب يجلس معنا " و كنت أقول لهم:" اتركوه حتى الطعام لا يتناوله معنا!!! يذهب إلى المسجد و يأكل هناك الغذاء و العشاء بعد أن يأخذ القليل معه .
كان لا يذهب معنا للسهرة عند الشباب بالليل، يتذرع بالدراسة وأنه ينام مبكرا ، و كان يقول :" أنتم بتمضوها تتدارسوا في أمور الدنيا الفانية ناموا بكير حتى تستيقظوا لصلاة الفجر بدل ما بصلوها في البيت متأخرا هذا الفراغ سوف تسألون عنه يوم القيامة "!!! .
الغريب العجيب أننا في الأيام التي كنا فيها نذهب عند الزملاء أرجع مبكرا للبيت و لا أجده و عندما يأتي يقول:" كنت في المسجد " . فأرد عليه مستهزءاً :" أنت كل وقتك في المسجد لازم تخالط الشباب و تجلس معهم الشيء الذي تعمله غلط الكل زعلان منك أنا صابر عليك لأنك متدين و عندك قيام ليل ولكن تأكل لوحدك و لا تشاركنا الطعام ما بنساها لك مش مصدق أرحل من هالغرفة وتظل لحالك " وقتها يرد عليّ بترديد آيات قرآنية وشعر قريب للحكم .
في السنة الرابعة قبل التخرج تحسن الوضع وانتقلت إلى بيت حديث عند زملاء و زميلي الآخر ذهب كذلك عند زملاء يعرفهم و تركنا زميلنا في تلك الغرفة القديمة بعدما ابلغناه أننا راحلون و كان في كل مرة يقول :" الله معكم، نسأل الله لكم الهداية و التوفيق، سوف أبقى لوحدي في الغرفة، فقد بقي على تخرجي فصل واحد فقط .
بعدما انتقلنا إلى بيت آخر شبه انقطعت علاقتنا مع زميلنا الذي بقي في تلك الغرفة ، حيث كنت أشاهده في الجامعة و أسلم عليه وأسأله عن حاله فيجيب : أنا مبسوط وبقي أشهر وأتخرج" . كان ينام وحده في تلك الغرفة ، فلما اقترب تخرجنا و بقي أسبوع فقط على انتهاء آخر امتحان ، رغبت بالذهاب عنده لكي أشاهده و أودعه لأني لن أحضر حفلة التخريج بسبب الظروف الإقتصادية و لأن تخرجي على الفصل الأول و التخريج يكونوا عادة في الفصل الثاني في الصيف في ذلك الوقت ، وعندما وصلت غرفته وجدت عنده شيخا كبيرا طاعنا في السن، يشرب الشاي معه و عندما دخلت الغرفة استقبلني زميلي أمام الشيخ الكبير في السن بحفاوة كبيرة وبدأ يرحب بي، ثم علمت بعدها أن الرجل في العقد الثامن ، و كان يقول للشيخ:" هذا أخي يوسف الذي حدثتك عنه و الذي كان يسكن معي و يطبخ لنا و كنت أرتاح ، للسكن معه حيث غادر إلى بيت مجاور للجامعة بعدما خيرني للذهاب معه " وقتها نهض الرجل الكبير و كأنه يريد معانقتي ، و كان يردد:" الله يبارك فيك، يا ابني! والله إنك ما قصرت، كنت ترسل لي طعام الغداء والعشاء مع زميلك كوني أعيش وحدي في البيت بعدما توفيت زوجتي الختيارة، حيث ليس لديّ أبناء، وربنا أرسلكم لي أنت وزميلك الذي ما قصر معي دائما يأتي لي بالطعام و ينتظرني حتى أفرغ ، وثم يتفقدني ويشتري لي حاجياتي ،حيث أنني امتنعت عنوة عن الذهاب عند أقربائي، وكنت أقول: الشباب الطلبة المجاورين لنا ما بقصروا دائما عندي وأنا أذهب أتونس عندهم. الله يحفظك - يا ابني- يا يوسف ، الله يوفقك على هالتربية، بهنىء والديك فيك و في أخلاقك " .
لا أخفيكم أنني شعرت في تلك اللحظة بالخجل الشديد ، فقد التزمت الصمت، و شعرت بالذهول، والختيار يمتدحني ،و أنا لم أقدم له شيئا !! و تمنيت أن تبتلعني الأرض من شدة الخجل و تأنيب الضمير لعدم معرفتي عما كان يفعله صديقي مع الرجل المسن. كان صديقي أفضل منا خلقا ودينًا ، فقد كنا نحسبه لا يحب تناول الطعام معنا تكبراً، وكنت أستغرب تصرفاته في ذهابه للمسجد طوال الوقت رغم أنه كان كثير قراءة القرآن و قيام الليل ، فقد علمت من الختيار أن زميلي كان يمضي الوقت معه، وأنه سوف يذهب إلى أقاربه بعدما يتخرج زميلي كونه كان يعتني به " .
وعندما هممت بالمغادرة، قمت بتوديع الختيار، و أخذت زميلي جانباً لكي أُعاتبه لسوء ظننا به، فقد قلت له :" سامحك الله !!! ليش ما حكيت النا عن هذه الحادثة، وأنك دائما بتوخذ الأكل للختيار ، و تمضي الوقت معه، لقد شككنا فيك واتهمناك بالكبر و التخلف!!! و أنت اليوم أحرجتني أمام الختيار المسكين الذي يمتدحني و أنا لم أقدم له خيرا قط. أنت يا صديقي الذي كنت تقدم الخير للختيار لو حكيت النا أقلها كان بنزود الأكل لك خاصة في شهر رمضان، سامحك الله.!!
كانت إجابة صديقي لي صادمة، حيث قال :" أخي يوسف لا يجوز لي أن أذكر المعروف هذا بيني و بين الله و يعلم الله أنني لا أكن لك إلا الإحترام و أنت ما قصرت كنت تطبخ لنا وسكنتني عندك وأنا كنت أقول للختيار في كل مرة أذهب عنده هذا زميلي يوسف طبخ وحسب حسابك وقتها شعرت بالفخر من زميلي الذي كان يمتدحني ونحن كارهون لتصرفه ،حيث غادرت و دعوت له بالتوفيق في حياته العملية بعدما أنهى امتحاناته الأخيرة في الجامعة. وغادرت من عند صديقي وهو يردد قوله تعالى( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ).
كم نحن نخسر بسوء الظن ببعضنا البعض، وكم نخسر من الحسنات وكم نكسب من هذه الغفلة من سيئات أعمالنا وسوء ظننا في من يحبون لنا الخير ولكن يخفونه تقربا إلى الله.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
23-08-2023 11:00 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |