23-08-2023 11:08 AM
بقلم : الدكتور فارس محمد العمارات
مع ظهور ثورة التكنولوجيا الرّقميّة، التي صاحبها ثورة معرفيّة وثقافيّة ضخمة؛ أصبح الإنترنت بتطبيقاته الهائلة وإمكاناته الّلامتناهية، وبخدماته التي تتميز بالسرعة والدّقة وسِعة التخزين العالية؛ جزءاً لا يتجزأ من مكون مُجتمعاتنا المعاصرة حيث بسط نفوذَه وسلطَته على جميع مناحي الحياة، فصار المرتكز الأساسي لتشكيل وعي الأفراد والمؤسسات والمجتمعات على اختلاف انتماءاتها الجغرافيّة والثقافيّة والدينيّة. وبهذا التطور غير المعهود استطاعت التّقنيات الوليدة إعادة إنتاج بُنْيَة الثقافة الدينيّة وبشكل جديد لا يرقى إلى ما يجب ان يكون عليه ، ونَحَى في نفس الوقت بها منحىً مُختلف عما كانت عليه من قبل، إذ اصبحت المعلومة الدينيّة على بُعد نقرة زر من المُستخدم، وفي الوقت نفسه فرضت أنماطاً جديدة من العلاقة بين الدّين وأتباعه الافتراضيين، ممّا أدّى إلى الاستغناء عن خدمات المؤسّسة الدينيّة التقليديّة التي تتحمل مسؤولية الفتوى والاجوبة على الاسئلة الدينية التي تطرح ، والاستعاضة عنها بالّلجوء إلى العالم الافتراضي بُغية الحصول على ما هو مُراد واستجابةً للاحتياجات الدينيّة التي تُناسب كل فرد وبما تهوي الانفس ، وتماشياً مع إيقاع الحياة اليوميةالتي قد تكون في حالاتها الاخرى لا تتوائم وما جاء به الدين .
إن رقمنة التدين، مُصطلح يُشير إلى دلالة المعنى من خلال مفرداته، فالتّدين هو ممارسة نشر الدين وطرح المعلومات المتعلّقة بهذا الدين من خلال الأجهزة الإلكترونية والبرامج والتطبيقات التي أصبحت مُتاحة بوفرة وتجاوزت حدود المكان والزمان ، وبتكاليف يستطيعها الجميع. ان يحصل عليها فرقمنة التدين؛ ما هو إلّا عملية اتصالية تتبلور في ممارسة نشر الدين والدّعوة من خلال الشاشات الإلكترونية ما بين مُرسل ومُستقبل ورسالة (مضمون) لإحداث تأثير مُتوقع، وعادة ما تكون عبر مقاطع سمعبصريّة أو مقالات مكتوبة أو منشورات قصيرة أو اقتباسات مجتزئة.
وقد نحى هذا التوجه بأشباه العلماء والمؤسسات الدينيّة وشركات تجاريّة وحتى كأفراد عاديّين إلى تكريس استخدام التقنيّة والتكنولوجيا في نشر الدعوة والثقافة الشرعيّة؛ لكسب أعلى قدر من الجماهير وتحقيق نسبة مشاهدات عالية لأسباب وأهداف ربما تكون سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو شخصيّة. فكل شخص أصبح بإمكانه من خلال هذه التقنيّات الرقميّة أن يكون مُنْتِجَاً للمعلومة ومُصَدِّراً للفتاوى ومُنافِحاً عن الدّين من خلال تصوره وفهمه هو! فغدا الدين يُنظر إليه من خلال عيون هذا المُنْتِجْ، وذاك المُصَدِّر، دون رقيب ودون حارس بوابة أمين يسمح أو يمنع، حتى غدَت المعلومات تسبح في نهر من الفوضى، وأصبح لزاماً على المُسْتَقْبِل تفَحّص المعلومة والسؤال عن مصدرها والتوثق من صحتها، في ظل فضاء مفتوح غير محكوم وغير مقيد.
وبالرغم من كثرة الإيجابيات لرقمنة التدين، وقدرته على إحداث وعي ديني حقيقي لدى عامة الناس -كانوا سابقا عاجزين عن الظفر به- إلا أن هناك سلبيات طاغية عليه، لا يمكن إغفالها، وتشخيص المرض هو أول مراحل العلاج، وأذكر هنا -على سبيل المثال لا الحصر- بعضاً من الحلول التي تساعد على تجاوز هذه السلبيات؛ ضرورة التأكد من موثوقيّة المعلومة والتّثبت من قوة المصادر والمراجع، وعدم الانخداع بالخطابات الإعلاميّة الدعويّة والتي أصبحت مُنتشرة على وسائل التواصل بكثرة، وتجنب الولوج في نقاشات حواريّة من شأنها أن تتسبب في الفتنة، والابتعاد عن الصفحات التي تستغل الدين للتّرويِج للسّياسة ،وعدم إعادة نشر المعلومة الدينيّة "إلا بعد التثبت من مصداقيتها"، والابتعاد عن الصفحات المشبوهة، وعدم الانبهار بالشخصيات المشهورة الزائفة.
واليوم فان المُجتمع امام تحدٍ كبير وخطير؛ بين تقَبُّل كل جديد من أفكار وتقنيات ومخترعات من شأنها أن تُعْلِي من انتاجية الصناعة الدعوية ومحاولة توظيفها لخدمة الدين، وبين الغرق في فوضى المعلومات الدينيّة "المشيخة المُسلعنة" والكم الهائل من الرسائل التي لا ترقى دائماً لدرجة المصداقية العالية. وإن شُح المصادر وحداثة الموضوع؛ تُبْقِى الأسئلة المحوريّة في موضوع رقمنة التدين مفتوحة، وتحتاج إلى إجابات دقيقة عبر معالجات موضوعيّة حثيثة؛ لمَا للموضوع من أهميّة بالغة في تغيير نمط وسلوكيات المُجتمعات كاملة، وتحول ثقافات فكرية عميقة قد لا ترقى الى مستوى القيم الدينية ،وسوف تكون رقمنة التدين عاملاً مُساعداً على التّقليل من قداسة المحتوى الديني والسمو الروحي به.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
23-08-2023 11:08 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |