09-09-2023 08:34 AM
سرايا - «نشيج الدودوك» لجلال برجس هي روايته الخامسة بعد «مقصلة الحالم» و»أفاعي النار وسيدات الحواس الخمس ودفاتر الوراق التي حصلت على جائزة البوكر للرواية العربية عام 2022. هذه الرواية أو السيرة هي عبارةٌ عن قصيدةِ شِعرٍ عاطفيةٍ طويلةٍ يبوح بها جلال برجس بهواجس طفولته ومنابع تجربته المرتبطة عميقاً بأسرته الممتدة (الجد والجدة والأعمام والأب والأم والأخوة والأخوات)، وتنعكس هذه الحميمية الأسرية على لغة الرواية فتنعكس عاطفةً شعريةً جياشةً كان الراوي -جلال برجس– يوزع شحناتها على مدار الفصول الثلاثة التي توزعت عليها سرديته الذاتية والحميمة في تبادلٍ حاذقٍ للسرد عندما ينتقل من اللحظة الراهنة التي يتحدث عنها الراوي والطفولة والأسرة والمراهقة والعسكرية التي عاشها لتتقاطع أيضاً مع هاتين اللحظتين لحظةٌ ثالثةٌ هي الكتاب الذي يرافقه في كلِّ رحلةٍ من رحلاته الثلاث.
الفصل الأول أو الرحلة الأولى تبدأ بمقدمةٍ شعريةٍ طلليةٍ يتبعها الحديث عن الرحلة إلى الجزائر ورواية الغريب لكامو وكأن جلال يقدم قراءةً متأخرةً لهذه الرواية ولا يزيد عن ترديد ما قاله اداوارد سعيد عن غريب كامو في الاستشراق، يتخلل هذه القراءة للرواية وصف لبعض الأماكن الجزائرية وبعض الأحاديث وبعض التاريخ ويتخللها عوداتٌ متقطعةٌ للأسرة وشلال ذكريات الطفولة والصبا.
الفصل الثاني كانت الرحلة إلى لندن وكانت ترافقه رواية الطيب صالح الذائعة الصيت «موسم الهجرة إلى الشمال» ويعيد قراءتها وقراءة شخصيتها المنفصمة «مصطفى سعيد» في تكرارٍ شبيهٍ بقراءته لغريب كامو.
في الفصل الثالث والأخير ورحلته لأرمينيا وترافقه « داغستان بلدي « لرسول حمزاتوف الشاعر القرغيزي، وكم كنت أتمنى أن تكون رواية هذه الرحلة رواية لسارويان أو أيٍّ من المبدعين الأرمن، ومن هذا الفصل الثالث أخذت الرواية أو السيرة اسمها «نشيج الدودوك» والدودوك هو الناي الأرمني الذي يختزن الحزن والشجن والعذابَ الأرمني عبر التاريخ، ولا أدري لماذا اختار جلال هذا الاسم الذي يحمل الحزن الأرمني وعذاباته مع أن الحزن العربي ونشيجَ زرازيره وناياتهِ وأعواده يفوق حزن الدودوك؟.
يستذكر جلال برجس في سرديته هذه ذكرياته مع أصدقائه القريبين وعلى رأسهم الشاعر علي شنينات الذي شكَّل في مرحلةٍ مع جلال ثنائياً ثقافياً نشيطاً ومميزاً، كذلك ذكرياته مع الشاعر الدكتور عمر العامري والروائي الراحل مؤنس الرزاز والروائي الراحل جمال ناجي وبعضَ أصدقائه القريبين من حياته وتجربته.
في مقطعٍ من سردية زيارته للندن أحسستُ بردة فعل العربي واستلابه عندما يرى هذا التطور وهذه الطبيعة وهذه الحياة الطرية في الغرب، عندما قال في هذه السردية: «قلتُ له: ماذا يحتاجُ إنسانٌ أكثر من هذه البلاد ليكون ما يريد؟» ص144.
في هذه الرواية شحنةٌ عاطفيةٌ عاليةٌ خصوصاً نحو الأسرة: الأم العظيمة التي كان حزن رحيلها واحداً من ضربات هذه السردية الأشد تأثيراً وصدقاً وعمقاً، الأب المكافح العسكري في الجيش العربي والجد بفروسيته والجدة بحزنها وحكاياتها والعم الشيوعي عزيز بحزنه ورحيله.. كلُّ هذا الحزن كان ضرباتٍ عنيفةً في متن هذه السردية العاطفية والجياشة والتي تكاد سطورها تنبض بأسماء هؤلاء الراحلين عن الدنيا والساكنين في قلب هذا النص: ويؤكد ذلك الراوي بإهدائه هذا العمل: إلى أمي، شمسٌ في روحي. إلى أبي، أنيسي الأبديّ، ضد كل الليالي الموحشة.
يتطرق الراوي في سيرته الحزينة لبعض أجواء ولادة رواياته السابقة كمقصلة الحالم التي ما زلت أقول إنها الرواية الأهم في منجز جلال برجس الروائي ولم يستطع في أعماله اللاحقة تجاوزها، ويسرد كيف ولدت أفاعي النار وسيدات الحواس الخمس والوراق.
هذه السيرة الذاتية العاطفية الإيقاع والتي يتداخل فيها سرد الراوي ويتنقل فيها بين طفولته وشبابه وتجاربه وحاضره متذكراً كلَّ الأشياء الجميلة والحزينة والحميمة، والتي يقول لنا جلال بها أنها شكَّلت شخصيته الإنسانية والروائية.
أبارك لصديقي جلال برجس هذا العمل الجميل والذي أعتبره استراحة المحارب لالتقاط أنفاسه والبدء بعملٍ روائيٍ جديدٍ يتحفنا به هذا الروائي الذي ما زال يختزن الكثير ليقوله.