حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأحد ,24 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 7129

من الأدب الشعبي الأردني

من الأدب الشعبي الأردني

من الأدب الشعبي الأردني

09-09-2023 09:14 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : رايق المجالي /ابو عناد
مما سمعت من الكرام عن الكرام :
أنا من مواليد آواخر 1969وقد ولدت ونشأت في قريتي حينها والبلدة والمدينة الآن (القصر ) في شمال الكرك لأسرة متوسطة الحال وكل الأسر في ذلك الوقت في نفس المستوى من حيث احوالها واساليب المعيشة وإذا وجد تباين أو فرق فيما تمتلك الأسر من المال فقد كان الاملاك من الأرض والثروة الحيوانية من المواشي, فكان هناك من يملكون مساحات من الارض وأعدادا من قطعان المواشي فقط فلا تظهر الفوارق في طريقة المعيشة فالجميع يسكنون ما يتشابه من المنازل التي كانت بيوت الطين وبيوت الشعر والفرق قد يكون في اتساع تلك البيوت وأحجامها فقط ثم بدأت أساليب العمران الأحدث من بيوت الإسمنت تظهر شيئا فشيئا .
وأنا ولدت وكنت الأصغر بين الذكور وقبل الأخير من الذكور والإناث وتصغرني أخت واحدة من أسرة مكونة من خمسة ذكور وستة إناث لأب حين ولدت كان في الجيش (عسكري ) وأم ربة منزل -رحمهما الله -وكلاهما لا يعرف القراءة والكتابة ووالدي هو الإبن الثاني لجدي (فلاح ابراهيم المجالي ) والذي كان قبل ولادتي وقبل وفاته _رحمه الله - من أصحاب الثروة الحيوانية وكان جدي ممن كان يعمل لديه بالإضافة لأبنائه عدد من الأشخاص في مهن (راعي ) و(مرابعي ) ولكنه توفي بعد فترة مرض طويلة مرت معها ظروف تلاشت معها الثروة الحيوانية حتى إذا وافته المنية لم يكن قد تبقى من الثروة الحيوانية شيء ,فأنا وقبلي بعض اشقائي لم يدركوا الفترة التي كان لدى جدي قطعان الغنم ومن يقومون عليها من (رعيان ومرابعية ) ولم ندرك أيضا فترة عمل والدي -رحمه الله -مع والده والتي بدأت مبكرا جدا حيث كان الذكور يتحولون رجالا في سن مبكرة ربما بعد سن الخامسة فإذا بلغ أحدهم العاشرة أو الخامسة عشر يكون ذلك الرجل الذي قضى سنينا في تحمل المسؤوليات والعمل .
والدي- رحمه الله- كمعظم الأردنيين في البوادي والقرى كان الذهاب إلى الجيش لديهم يعتبر أمرا جيدا بل عظيما ومدعاة للفخر أيضا فالتحق بالعسكرية برتبة جندي وكان التحاق والدي بالعسكرية من اسباب ضياع الثروة الحيوانية التي كان هو مع جدي يجدان في حفظها ورعايتها ويمكن تسمية والدي حينها بأنه كان (كبير الرعيان والمرابعية ) فقد كان راعيا ومرابعيا في رزق والده ورزقه ومما سمعته بنفسي من والدي ومن والدتي _رحمهما الله - أن (الرعيان ) و(المرابعية) في ذلك الوقت لم يكونوا وافدين من خارج المنطقة الا ما ندر ولم يعتبروا طبقة اجتماعية متدنية فهم من كل الاسر في ذات المنطقة والعشيرة وهم عمالة يعملون لكسب رزقهم الحلال عند صاحب ثروة حيوانية وأراض زراعية أي انهم موظفون وليسوا كما يعتقد البعض بأنهم أشبه بعبيد الحقول في ثقافات اخرى ولدى شعوب غيرنا ,بل هم جزء من الأسرة وكانت أمي -رحمها الله - تقص من ذكرياتها كيف كان الرعيان والمرابعية يعد لهم الطعام ويجهز لهم كل احتياجاتهم في بيت جدي ويدخلون ويخرجون ويسهرون ويأكلون ويشربون مثلهم مثل والدي وعمي وكانت -رحمها الله تسهر على راحتهم بنفسها من اعداد الطعام قبل ان يأتوا لتناوله وكذلك تجهيز زوادة من يبقون بقرب اعمالهم .
وعن الكرماء في ذلك الزمن ومنهم جدي _رحمه الله- وعن فهمهم لمعنى الكرم وممارستهم لهذه الخصلة ولأني كما ذكرت في البداية بحكم عمري وترتيبي بين أخوتي فقد كنت الوحيد من الذكور من بقي مع والدي -رحمه الله - من فترة الطفولة وحتى مرحلة دخولي الجامعة بسبب تفرق اشقائي وابتعادهم عن البيت بحكم اعمالهم ووظائفهم ودراستهم فكنت انا من يتواجد الى جنب والدي طوال الوقت بعد ان انتهت خدمته العسكرية متقاعدا فأنا لا اتذكر والدي حتى وهو في العسكرية بل وعيت على الدنيا وهو متقاعد وقد عمل اعمالا مدنية بالإضافة إلى الزراعة الموسمية وبستان ورث حصته منه في القصر ,لذلك كله كنت الأقرب دائما لسماع ما يرويه والدي عن الماضي وعن أيام طفولته وشبابه في كنف والده وعن حياتهم بكل تفاصيلها وكذلك كانت أمي لا تتوقف عن سرد القصص والذكريات عن جدي وعن أعمامها وأخوالها وخصوصا من كانت لهم خصال بارزة وقصص في الكرم والجود .
ولأنني -ولله الحمد - إمتلك ذاكرة قد بدأت بالتخزين الجيد مبكرا ربما في في عمر ثلاث سنوات فقد مكنتني هذه الملكة من تسجيل وتخزين كل ما اسمعه من حديث في موقف أو في تعليلة ومن الجميع فقد حفظت باكرا أسماء وقصصا عن رجال من عشيرتنا عرفوا بالكرم بطرق مختلفة ,فسمعت عن (كريم بن فارس المجالي تليل اللحم ) و (عايد بن موسى المجالي ) و( شلاش بن فارس المجالي ) و(نوفل بن اسماعيل المجالي ) -رحمهم الله جميعهم - وكل واحد منهم وردت عنه على مسامعي قصص غريبة تدل على كرمه لا يتسع المجال لذكرها كلها بالتفصيل ولكن على سبيل المثال (فشلاش ) ربما خسر معظم حصصه من الأراضي لأنه انفق ثمنها او كان يأخذ مقابلا لها ما يقري به الضيوف وانه كان يهدي الضيوف ويهدي الناس في مجلسه من ثيابه فإذا رأى ان احدهم اعجب بثوبه او عبائته فيهديه اياها فورا ولا يخرج ذلك الشخص من مجلسه إلا وهو يحمل هديته حتى حصل في ليلة في مجلسه ان نطق لأحدهم بالثوب الذي يلبسه واراد ان ينزعه ليعطيه فنادى على معزبة بيته لتحضر ثوبا اخر يلبسه فلما دخل عليها قالت له :" يا ابو جزعه ما ظل عندك اللي تغير فيه لأنك اعطيت كل هدومك هدايا للناس " ..!.. (ونوفل) مثلا آخر سمعت انه كان أكثر الناس في المنطقة كان لديه او كان يملك أعدادا هائلة من قطعان الغنم (شلايا ) لا حصر لعددها ولكنه أفناها جميعها عن آخرها في إكرام الضيوف ,فأنا قد أدركت (نوفل ) -رحمه الله - والذي كان ايضا يلقب (بتليل اللحم ) ولم يكن حين وعيت عليه يملك شاة واحدة وكان والدي ووالدتي يكرران دائما أنه كان الأكثر امتلاكا للمواشي حتى ان إسمه صار علامة (ماركة ) لمدح منتجات الأغنام فيقال (لحم نوفلي ,سمن نوفلي ,لبن نوفلي ) وكانت هناك اهازيج لا تغنى الا فيه :" بالمراح مرمية ..سكينة نوفل " .
وعن (كريم ) و(عايد ) -رحمهما الله -قصص عظيمة وغريبة في الجود والكرم لكنها تحتاج ان تقص تفاصيلها وحدها وينضم إليهم ممن سمعت عنهم من رجالات القصر الكرام (فلاح المبيضين) رحمه الله وهو من أبناء عشيرة المبيضين الذين سكنوا القصر في شمال الكرك من بدايات القرن الماضي وكان رحمه الله ممن يبارون أقرانهم من جيرتهم من عشيرة المجالي في الكرم والجود وكل من ذكرت سابقا كما قلت لا يتسع المقام للتطرق لقصص عن كرمهم وسيرتهم بين الناس ولكن القصة او الأمر الأهم والمشترك بينهم جميعهم (كل هؤولاء الكرماء من عشيرتي ومن غيرها كفلاح المبيضين رحمهم الله جميعا ) ومما سمعت من أبي وأمي ومن كل من كنت أسجل أحاديثهم حتى صرت شابا وحتى رحلوا جميعهم من الرجال والنساء هي أنهم لم يكن كرمهم وسخائهم بإقامة الولائم (العزايم ) دون سبب بأن يجمعوا الناس كل فترة ليقدموا لهم الطعام بل كانت هذه حياتهم بأن بيوتهم دائما مفتوحة تستقبل الضيوف وتستقبل القادم من بعيد وكذلك كل قادم من قريب ويمارسون كرمهم عند كل مناسبة من فرح أو ترح حتى صارت بيوتهم معروفة ومشهورة فصارت مقصد كل ضيف او عابر سبيل أو حتى من ذات المنطقة كل صاحب حاجة من أي نوع والأهم أن بيوتهم صارت بيوت العقد والحل والإصلاح بين الناس وقضاء الحوائج فصارت لا تخلو ليلا ونهارا من الضيوف , فكان الكرم سجيتهم وطبيعتهم وليس متكلفا أو كرم المناسبات بأن يقرر أحدهم أن يطعم الناس حتى يحترموه وحتى يقدموه في المجلس أو يستمعوا له إذا تحدث .
وأعود لجدي -رحمه الله - (فلاح ابراهيم الغصوب المجالي ) والذي قطعا سمعت عنه من والدي ووالدتي وأيضا من كل من ادركتهم من الرجال والنساء أكثر القصص بحكم انه جدي وأن اهلي الاقرب والاقدر على قص سيرته , وكان كل من سجلت عنهم من غير أهلي قد عاشوا في زمنه بالغين او اطفالا وهم ممن حفظوا تاريخ اهلنا وسردوه دائما , وهو-اي جدي - واحد من أهله في القصر ومن عشيرته المجالي لكنه وجه فخذه (الغصوب ) وكبيرهم وعندما حصل في زمن معين ان اتفقت عشيرة المجالي برمتها على تقسيم الأراضي بالتراضي وجاءت قسمة مجالي السليمان في القصر للأراضي وتكريما وإعترافا بفضائل جدي وكرمه وحب ابناء عمومته من المجالي رغم أن مسكن جده الأصلي وتفرعه ليس في اراضي القصر والسليمان بل في اراضي المجالي الأولى في الكرك في جنوبها حيث تواجد للآن ( فرع قوم الجد ) في منطقة (مرود ) ,ولكن (فخذ الغصوب ) والجد (غصب ) وجد في القصر فغصب جد (سلامه وخليل ) لأمهم وهما ابناء مصطفى بن سليمان لذلك فكل افخاذ القصر هم ابناء سلامة وخليل ويقال لهم جميعا (السليمان ) لذلك فعندما قسمت الأراضي في القصر بين (السليمان ) إتفقوا جميعهم على إعطاء (ابن غصب ) وهو (جدي فلاح ) حصته من التقسيم فأعطوه مساحات في منطقة تسمى (مسحوب ) فكان ان اعلنوا أنه استحقها (بردها ) بالكرم والطيب ولكنه -رحمه الله - لم يقبل ان يخص نفسه بكل هذه الأرض ويتملكها لنفسه بالرغم من ان لا أحد كان سيحاسبه او يطلبه شيء من ابناء فخذه فهو كبيرهم وعمهم ولم يكن وقتها حتى الناس تهتم لمسألة تسجيل الاراضي او الحصول على قطعة ارض لأن الأرض تحتاج من يفلحها ويتعب من اجلها ,فقام جدي ومن تلقاء نفسه بتقسيم ما أعطي له كحصة خالصة على ابناء فخذ الغصوب لأنه اعتبر ذلك حقهم وليس حقه وحده واقتطع لنفسه حصة مساوية للحصص التي قسمها على اقاربه من فخذه وقد روى لي والدي وبعض أعمامي من نفس فخذنا بأن اخوة جدي وابناء عمومته عند التقسيم ارادوا ان يعطوه حصة زيادة على ما اخذه لنفسه (شرهة ) لكنه رفض وبشدة بل يقال انه غضب من العرض حتى .
هذه نفحات لخصتها عن رجال واسماء من الكرماء سمعتها وحفظت تفاصيل قصصهم من روايات متواترة من اجيال ثم اجيال عن كل واحد منهم وأعيد هذا التلخيص والكتابة به لأبين ما هي فلسفة الكرم عندهم وماذا يعني ان يكون الكرم خصلة وسجية وفضيلة من فضائل الرجل وأمر متأصل في نفسه فيكون السلوك العفوي دائما يعبر عن الكرم والجود لا ذلك الكرم المتصنع والمتكلف فقط لغايات الحصول على لقب كريم أو جواد أو لغايات الحصول على مكاسب لقاء البذل من المال والحلال وغاية القصد مما سردت ولخصت أن أقول أن (الكريم دائما خسران للمتاع والمال ) وأن ( الكرم والطيب ) ليسا هينين فلهما ضريبة تدفع من مال وجهد الكريم وأصل الكرم وجوهره أن يكون المرء زاهدا بمتاع الدنيا ولا يخشى التفريط بالمال والاملاك من اجل الناس ولوجه الله وخلاصة رأيي مما بحثته دائما في تاريخ الرجال شعبيا بأن (كل من يبتغي مكسبا من وراء بذل يبذله لا يستحق لفظ كريم حتى مجاملة ) ويخطر ببالي هنا مقولة تقول :" لو الطيب هين كان ما حد تردى ".!.
وأخيرا اسوق مثالا على وجه آخر (فنوفل رحمه الله )- وهو الوحيد الذي ادركته انا وهو على قيد الحياة من الأعمام والأخوال الذين ذكرتهم أعلاه - فقد توفي في ثمانينيات القرن الماضي لم أراه يوما يلبس العباءة المزركشة المقصبة ولم اسمع انه تحدث عن ماضيه بين اهله وعن (الشلايا ) التي افنيت بسكينته إكراما للضيوف وإطعاما للطعام ولم أسمع انه اجتهد أو دأب على دعوة المسؤولين في زمانه من (حكام اداريين وفرسان درك او ضباط الجيش او البادية والشرطة ) وحتى انه برغم كثرة اسماء الرجالات من العشيرة اللذين وصلوا اعلى المواقع وكذلك الزعامات في العشيرة على مستوى الكرك والوطن من الشيوخ أمثال (دليوان باشا ) الذي كان يقال له في الكرك كلها (جدوه ) وبرغم ذلك ووجود كل هؤولاء من الأساطير في الزعامة والجاه لم أسمع من يروي أن نوفل وأقرانه من كرماء العشيرة وهم -لله الحمد - كانوا كثيرين قد أقام احدهم وليمة لدليوان أو حابس أو هزاع ودعوة على شرف احدهم وجمع الناس بدعوة خاصة ومخصصة لذلك الزعيم او الشيخ وبقية القوم بالمعية .
وللحديث بقية عن الكرماء وعن معنى الكرم في ادبياتنا الشعبية التي غابت وتبدلت عن كل فضيلة من فضائل الرجال .








طباعة
  • المشاهدات: 7129
برأيك.. ما خيارات ترامب للتعامل مع إيران بعد فوزه بانتخابات الرئاسة الأمريكية؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم