21-10-2023 12:29 AM
سرايا - قراءة الدكتور كايد الركيبات - بالتزامن مع الدورة 22 لمعرض عمان الدولي للكتاب، الذي افتتح بتاريخ 21/ 09/ 2023، صدر في عمان عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، رواية "شبرمة صاحب المزمار"، للدكتور صالح علي الشوره، وهو أكاديمي وباحث ومؤلف أردني متخصص في الدراسات التاريخية، وقد جاءت الرواية في 354 صفحة من القطع المتوسط، زُيّن غلافها بلوحة تعبيرية تتضمن مشهد تصويري للواجهة الأمامية للخزنة، وهي واحدة من أشهر معالم مدينة البتراء السياحية، أيضاً زُيّن الغلاف بصورة مقاطع صخرية تشبه تلك المقاطع التي تكونت منها جبال رم وتلال حسمى وآثار منطقة العُلا والحِجر، والتي كانت امتداداً لدولة الأنباط في سالف عصرها، وتقاطع مع هذه الصور الرمزية بشكل شبه عرضي رسماً لمزمار به سبعة معاطف، تماهت ألوانه وزينته مع ألوان المقاطع الصخرية في لوحة الغلاف.
وحتى يُخرِج الراوي قُراء روايته من دوامة الرمزية في اختيار اسم الرواية، جال خياله وابتدأها في ذكر قصة الطفل اللقيط الذي وجِد قُرب صخرة في مرسى خليج لحيان (خليج أيلة/ العقبة) ملفعاً في العراء وبجانبه مزمار، احتَضنت زوجة ملك الأنباط الطفل واتخذته ابناً لها، وأطلقت عليه اسم ابنها شبرمة، الذي سبق أن قُتل في معركة من معارك الأنباط، وبذلك أصبح شبرمة أخاً في الرضاعة للحارث الذي سيغدو ملكاً، وجعل الراوي من شبرمة بطلاً يروي أحداث الرواية التي ستذهب بالقارئ بعيداً إذ تخرجه من العلاقات الأنسانية الطارئة، إلى جوهر هذه العلاقة وبنيتها الفطرية السليمة، فالحب والوفاء والتسامح والأخلاق النبيلة هي الإشارة التي تستدعيها المحاور الموضوعية للرواية.
جاءت أحداث الرواية مسايرة لسطوع نجم دولة الأنباط، وشاهدةً على حماسهم وإصرارهم المستميت في استعادة أمجاد أسلافهم من الثموديين، وتحرير بلادهم من الأدوميين الذين استولوا على الرِقِيم ــ وهو الاسم القديم لمدينة البتراء ــ فوقفت على ذكر الكثير من رموز المملكة النبطية، كدلالة النسر في رايتهم، وآلهتهم ذو الشرى وتماثيل الآلهة التي عبدوها كاللات والعزى، ووصف المذابح المصنوعة من الخشب، مع هذا، لا تحاول الرواية أن تُقدم سرداً تاريخياً يؤرخ لمرحلة نشوء المملكة النبطية، أو رواية تفاصيل أحداث الصراع الأدومي النبطي، وأن الرسالة التي تبعثها في هذا السياق تتبنى الرأي القائل بأن الملك النبطي الحارث هو أول ملوك الأنباط، يقول الراوي: "قد اقتلعت ريح الحارث حظوظ غيره" (ص: 134)، بعد أن تمكن من القضاء على الأدوميين، وبملكه صدرت شهادة الميلاد لمملكة الأنباط.
وقد جاءت الكثير من الأحداث المروية في سياق الرواية لتساعد في بناء الإطار الموضوعي للرواية، فمن خلال الأحداث التي عاشها شبرمة والحارث تمكن الراوي من نسج حبكة الرواية، ويروي الراوي على لسان شبرمة قوله: "والأهم أن ثدي أمي ظل لنا مورد حياة أنا والحارث، وكأن الأقدار أرادت لغاياتنا أن تلتقي: هو يصنع التاريخ وأنا أرويه" (ص: 22).
قسم الراوي روايته إلى أربعة فصول، كل فصل منها تضمن عناوين فرعية تمثل اُطراً موضوعية تُسهل على القارئ الانتقال بين اجزاء الرواية بسلاسة وتصور ذهني مترابط.
العشق فاتحة كل خير، يقول الشاعر العربي جميل بثينة:
وَأَوَّلُ ما قادَ المَوَدَّةَ بَينَنا**** بِوادي بَغيضٍ يا بُثَينَ سِبابُ
أما في حالة شبرمة الدعي النبطي صاحب المزمار، فأن ما قاد المودة بينه وبين "لطف" ابنة كاهنة القبيلة وطبيبتها، كان عراكاً مع ثلاثة فرسان تطاولوا عليها عند بئر الماء، ومن تدخله هذا دخل قلبها، ودخلت قلبه، يقول الراوي على لسان شبرمة: "وهناك زُرعت بذرة، لا أدري أهي بذرة شقائي أم بذرة سعادتي!؟" (ص: 11)، ثم يُنقل شبرمة لخيمة أم لطف لتُعالِج جراحه التي أصابته نتيجة عِراكه مع الفرسان دفاعاً عن لطف، وتبدأ قصة العشق، قال الراوي على لسان شبرمة "تلك كانت بداية حكايتي مع لطف وقد قدّمتها على غيرها لأنها هي قصّتي التي تستحق أن تروى وما دونها فأحلام تتحقق" (ص: 18)، لِيُسطر لنا الراوي قصة عشق تفوقت في عُذريتها ما عُرف عن شُعراء بني عُذرة، قال فيها على لسان شبرمة: "وقد اتعبتني جوارحي وهي تتطاول نحوها وأنا أحاول ضبطها لئلا تقترف ما لا يحق ولا يصلح في حق مثل لطف" (ص: 152).
أما المزمار فكانت تتعلق به روح شبرمة فمنذ وجِد كان هذا المزمار بجانبه، أما نسبته لهذا المزمار وتلقيبه بصاحب المزمار فكان على لسان معشوقته لطف، قال شبرمة: "مع أنني منذ الصغر أحتفظ بمزماري، بل أراه وُلد معي فلم يكن يخطر على ذهن أي شخص أن ينسبني له، حتى التقيت بلطف فأصبح لها قصب السبق بإطلاق اللقب" (ص: 40)، وقال: "كنت في بعض أيامي ألعن مزماري الذي علّقني بلطف وعلّقها بي وفعل بي وبها الأفاعيل" (ص: 91)، وفي الوقت الذي فارق فيه مِزماره وتَرَكه على الشاطئ أبت روحه أن تكون حبيسة جسده، قال في ذلك: "قبل أن نصعد على المركب تركت المزمار على الشاطئ في ذات المكان ووضعته بذات الهيئة وقد همست له بأنه هنا بدأت حكايتنا وهنا تنتهي" (ص: 353)، ورَكِب قاربه بصحبة زوجته لطف وأبحرا في عرض البحر ليفارقا الدنيا غرقا.
تبحث الرواية في تقلبات العواطف الإنسانية، وتظهر أن المرأة صنو الرجل، في الحب والتضحية والوفاء، ورعاية شؤونها، والاهتمام بكل التفاصيل التي يهتم بها الرجل وتشغل باله. ومن القيم الإنسانية التي أشعلت خيال الراوي كانت الصحبة الصادقة التي جسدها في شخصية "الحارث"، وشخصية "خلدو"، ومثلت شخصية "أَنيَب" دور الفارس المتمرد على صوت الحكمة في انتزاع حقوق القبيلة، أما الأخلاق السلبية كالغدر والخيانة والحقد فمثلتها شخصية "قوس" ابن أخ الملك "الباتر" الأدومي وزوج ابنته، ومثلت شخصية "وثّاب" دور الزعيم التابع الذي يوالي عدوه ويبيع مصالح قبيلته لتحقيق مكاسبه الخاصة، تتعدد القيم الإنسانية السلبية منها والإيجابية التي تجسدها شخصيات الرواية وحري بنا أن نترك للقارئ معايشة شخصيات الرواية للتعرف عليهم وعلى الأسلوب الجمالي الذي انتهجه الراوي في سردية الرواية.
لم ينساق الراوي وراء نغمة الحداثة أو ما بعد الحداثة، وتمكن من انتقاء الألفاظ المناسبة متى دعت الحاجة، وكنى بما يليق عند اللزوم، على ألسنة شخصيات الرواية، فحين جاء السياق يتطلب السب والشتم قال: "يدك عنّي يا ابن اللخناء" (ص: 11)، وعند الذم والقدح قال: "أيها الصفيق الجاهل" (ص: 223)، وعند الحديث عن العلاقة الزوجية قال الراوي: "فانتزعت منه الوعد ثم توجهت إلى السراج فأطفأته. فعلت أنفاس الأشواق على العتب والملام" (ص: 178)، وأودع الراوي في سياق الرواية عبارات جميلة تُعبر عن المشاعر والأحاسيس تُضيء صفحات الرواية، منها قوله: "الإنسان يتمنى وما عليه إلا أن يصدّق، فربّ حتف امرئٍ حيث تمناه" (ص: 138)، ومنها: "فعرفت بأن لكل منّا حزنه، ولكني لم أعرف الأسباب" (ص: 209) وهذه العبارة تحديداً استهل بها الراوي روايته (ص: 8)، وختمت أنا بها قرائتي الانطباعية عن هذه الرواية المتماسكة المعبرة.