حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,23 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 8162

فصول من «أوراق متناثرة في مهب الريح .. من بصيرا إلى تورنتو»

فصول من «أوراق متناثرة في مهب الريح .. من بصيرا إلى تورنتو»

فصول من «أوراق متناثرة في مهب الريح ..  من بصيرا إلى تورنتو»

29-10-2023 09:34 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - يكتبها: فيصل عوده الرفوع السعودي
اعتاد الإنسان أن يقرأ مذكرات تتحدث عن الماضي، سواءً كانت تلك المذكرات سيراً ذاتية تتحدث عن حياة شخص بعينه، أو قصصاً تأريخية لشعب ما، تشرح إنجازاته وبطولاته والتحديات التي قهرها خلال مسيرته، وربما كانت تلك المذكرات، تأريخاً لحادثة فارقة في وجه الزمان، كأن تكون معركة عظيمة، كعين جالوت، أو بناء إعجازياً، كمدينة البتراء وأهرامات مصر المحروسة وسور الصين العظيم، أو خيانة لا تتكرر، كقصة طروادة. وفي كثير من الأحايين قد تكون قصة إنسان ما، بغض النظر عن طبقته الاقتصادية، أو موقعه الاجتماعي أو هويته الثقافية.

وحين يكتب قلم التأريخ حدثاً ما، أو يجسد تأريخاً معيناً، أو يسجل محطات مهمة في حياة الإنسان، أي إنسان، فإن الهدف من ذلك ليس إظهاراً للكاتب بأمسه وماضيه الذي خبره جيداً، أو أنه تأريخ لقصة حياته، لأن الكاتب، نفسه، عاش ذلك الحدث وعرفه جيداً، بل إن الغاية من تسجيل تلك الأحداث وتأريخ تلك المحطات، واجب سامٍ، وغاية مقدسة، هدفها تخليد تلك العصارة المعجونة بوجع السنين وصرخات العمر من صدر الكاتب، وتجسيدها على أوراق كتاب، على أمل أن تستفيد منها الأجيال التي لم تعاصر تلك الحقبة التي عاشها الكاتب؛ فربما تتخذها معولاً يعينها في بناء مستقبلها، وتذكرةً قد تجنبها مزالق الأيام ومطبّات الدهر، وكأن الكاتب يشاطر الناس مشاعره؛ وأحزانه، وأفراحه، وعقله.

ومهما كان الكاتب متواضعاً ونزيهاً، وربما لا يرى في سيرته ذلك الإلهام الكامن الذي قد يُستفاد منه، وفي خبرته حكايات لا ترقى إلى مصاف الحكمة والمُثل، وقد تمنعه قناعاته تلك مِن تسطير خبرته تلك ومشاركتها مع الجموع، فإن تلك السيرة والخبرات قد تكون مصدر إلهام لكثير من انكسارات غيره، ومصباحاً من نور يضيء دروب الكثيرين مِمّن استعصت عليهم تعرجاتها وعقباتها.

وحين يقرر أحدهم أن يضع تفاصيل حياته في كتاب، فإن كل صفحة من ذلك الكتاب، قد يقدر لها أن تصبح ترياقاً يشفي سموم ملدوغ، أو بلسماً يداوي جرح مكلوم، أو قطرة ماء تنقذ حياة تائه عَطِش في صحراء اليأس، تُبَلِّل شفتيه بعد جَفاف وتمنحه بارقة أمل لبدء حياة أخرى غير تلك التي كانت على شفا الأُفول؛ وبالتالي، فإنّ رصد الأحداث واستِلهام العِبَر من تجارب الآخرين، يمثل، بالتأكيد، سلاحاً يمكن أن يستعين به الإنسان على مواجهة الظروف القاسية التي قد تصادفه، وفي أحايين كثيرة، لابتلاع آلامه، واحتواء أوجاعه التي نثرها الزمن في صدره، ووضعتها في دربه تقادير الأيام.

اليوم المفصلي

في ذلك اليوم المفصلي، الخميس الثامن من تموز سنة 2021، حيث كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحاً، ينظر فيصل، من خلال نافذة مكتبه، القابع في الطابق الثاني من قسم العلوم السياسية في كلية «غليندون Glendon» في جامعة «يورك York»، من خلال النافذة المطلة على غابات «تورونتو Toronto» الأخّاذة، مستمتعاً بجمال صيفها وسِحرها الذي لا يقاوم، ليسافر به عقله غير الواعي، في تلك اللحظة، إلى جبال الهملايا السّاحرة، والتي اعتادت أن تشكل بشموخها حداً طبيعياً يفصل بين حضارتي الصين والهند، التي وطأتها قدماه في يوم قائض من أيام صيف 1985 برفقة ابنة «هانوفر Hanover» الألمانية «باربرا دتا Barbara Dutta»، تلك الرفيقة الرائعة، التي عاصرت فيصل ردحاً جميلاً من الزمن.

وعلى الرغم من قِصر تلك العشرة الرائعة؛ فقد كانت بحق نِعْمَ الصُحْبة، حيث وقفت مع فيصل في أصعب الظروف التي واجهها آنذاك، حين كان، وقتها، يُعِد لتقديم أطروحة الدكتوراه في العاصمة الهندية «نيودلهي New Delhi».

كان يجلس في مكتبه، ويفكر بشوق في لقاء رفيقة دربه ولصيقة روحه وأيامه ولياليه، سحر المجالي، التي كانت قد وصلت من عمّان في الليلة السابقة، وقد تملكه في تلك اللحظة ذلك الإصرار الذي لم يعد يستطيع كبح جماحه، بعد كلّ سنين التأجيل التي فرضتها الظروف والمشاغل أحياناً، والتكاسل أحياناً أخرى، والمتمثل في الإصرار على استذكار أمْسِه وتسطيره في كتاب، ذلك الأمس، بكل ما فيه وما له وما عليه؛ فقد بزغت فكرة تسطير تأريخ سيرته الذاتية، ذات يوم ربيعي، من عام ألفين وتسعة عشر، في الجامعة الأردنية وتحديداً يوم الأحد، 21/4/2019.

في تلك اللحظات، حزم فيصل أمره، واتخذ قراره، بأن يسطر مذكراته ويخط تجاربه بالقدر الذي تسعفه فيه ذاكرته، وأن يلملم أوراقَه المتناثرة في مهب الريح، ويحاول تلمس الماضي والمحطات العابرة التي مر بها في عمره، منذ بدأت ذاكِرَته تعي ما حوله حين كان طفلا، وحتى اللحظة التي يعيشها الآن، فارتسمت على وجهه تلك الابتسامة الواثقة، التي اعتادت أن تتربع فوق شفتيه كلما عزم أمراً، فلملم حاجياته داخل حقيبته، وأغلقها، وحملها منطلقاً باتجاه محطة القطار عائداً إلى شقتهِ المتواضعة، في مركز «تورونتو Down Town»، حيث تجلس سَحر، تلك الرفيقة الأزلية الناشبة في عمق جدران قلبه، تغزل أشواقها بلهفة منتظرة قدومه، ليلتقيا بعد أن طالت دروب الغياب. 

العَتبة الأولى، بصيرا

كأي ناجح متواضع، لم يَدُر بخلد فيصل يوماً أن يكتب مذكراته أو ينشر سيرته الذاتية ليَطّلع الآخرون عليها، فقد لازمته أغلب سنيّ عمره تلك الطبيعة الأردنية البدوية الخجولة التي تقدِّس الخصوصية، وتعدها حقاً حصرياً لصاحبها مهما كان ذا شأن ومهما علا مقامه وسما موقعه، وعلى الرغم من أن حياته كانت مملوءة بالمشقات والعقبات والمطبات، وتخللها الكثير من الأحداث المشوِّقة؛ فقد تمازج في تلك الحياة قمم فرح وقيعان حزن، والكثير من التساؤلات، وأيام صمت، ولحظات إقدام وتقهقر وانكفاء، وتريث واندفاع، وكانت كثيراً ما تقوده الرغبة العاصفة في الاكتشاف والمعرفة نحو البحث في الأعماق لمعرفة كل شيء واقتحام أي شيء؛ بما أتيح له من أدوات شحيحة في ذلك الزمن المُر بين يديه، وما كان ميسراً له في ذلك الوقت من وقت يستقطعه من بين أيامه المملوءة بالكَدِّ والتعب والشقاء.

فيجلس متأملاً ليستمع إلى صوت عصفور في «طُرة حامد بن عوده الغَنُّوميين» أو وادي «ابن عونيّه»، أو » نقب طبشان»، أو هطول مطر غيمة على «شلالة العرش» وما حولها، ويسير بين جبال بصيرا ووديانها ليحادثها ويسألها ويحاورها، وقد يُغضِبُ حبيبة قلبه بصيرا بإلحاحه عليها حيناً، ثم يعود ليسترضيها متمدداً باستكانةِ ورقة توت في فصل خريف فوق تراباتها، كما لو كان طفلاً غافياً في خدر أمه. كانت عيناه تجولان بفضولٍ في كل التفاصيل حوله، ليلتقط المعاني، يلملمها من هنا وهناك، ويسجل تموجات كل حركة شاردة وواردة للشجر أو الحجر أو قطعان المواشي التي كان يفهم لغتها وتفهم إشاراته. كان فيصل، الرّحالة باختصار، دفتراً مفتوحاً بقلم نابض بحبرٍ لا ينضب، يسجل ملاحظاته من خلال أي محطة عارضةٍ قد تصادفه في دربه.

كانت عينا فيصل تلتقطان، وعقله يسجل كل حكاية تطوف به، وكل أمثولة يمكن أن تصلح نوراً أو ناراً لِعَتْمَةِ الطريق، فتارة من عابر سبيل مَرَ في دروب بصيرا وشعابها التي لفحتها الشموس، كَمِثل ذاك «الدوّاج أبو أحمد»، الذي كان يتجول بِسِلاله بين جبال وهضاب بصيرا، من «الكولا غرباً إلى العَروض والشريعة وبئري سبع وصيدح شرقاً»، حيث أرهقته المسافات بين التلال المعزولة بالصمت والتعب المؤجل إلى حين، وتارةً مِنْ شَجَرة زيتون في بساتين العِبِر والجنّيين وبِطين الميس و"كريمات ريسا» وغرندل، أظلت جبينه الأسمر ذات عصر لاهب.

وقد يكون من نبع ماء؛ كعين لحظة واللِّبون وأم سراب والبريج وام زعرورة واللَصِبْ، والغابة، وعين قيس، مَدّ كَفّه إليها يوماً، وغرف منها ليروي عطشه، أو ربما من هطول غيمة عبرت فوق هامته في يوم من أيام الشتاء القارص في قرية من قرى الجنوب الأردني المتناثرة كثآليل الأصابع، حيث تنتشر البيوت الطينية وتتلاصق بدفء عاشقين، كعجائز يتسابقن في النعاس وتكرار الحكايات لاستجلاب طقوس النوم حول مواقد النار في الكوانين.

الحكمة الصافية

وربما كان فيصل يتشرب الحكمة الصافية من موعظة ذلك الشيخ «محمد الحلبي»، الذي مر ببصيرا في أواخر أربعينيات القرن الماضي، (القرن العشرين)، وهو عائد من رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، بعد أن انطلق قاصداً لها من حلب الشهباء في سوريا القلب النابض للأمة، وشاءت أقدار المولى عز وجل أن تهبط راحلته في بصيرا، ليقضي سنيناً من عمره فيها، خادماً لمسجد بصيرا الوحيد، الجامع، فعاش فيها شيخاً وَرِعاً في عيون أبنائِها، حريصاً على طرح سلام الله على كل من يصادفه في دربه، ليَكون، كما طَبْع أهل بصيرا كلهم، ناشراً للمودة والرحمة والسلام. وقد ظلت صورة ذلك الشيخ الجليل محفورة في قلب فيصل، ومواعظه في عقله تعينه على التفريق بين الحق والباطل، حتى أنه لم ينس أن يسأل الأهل عنه حين عاد إلى بصيرا حاملاً شهادة الدكتوراه في 12/6/1986، ليبلغوه أن الحنين والشوق إلى دياره قد أرجعاه مسافراً إلى مدينته، حلب الشهباء.

ولا يمكن أن يحيد عن ذاكرة الوفاء في صدر فيصل، ذلك الواعظ الحجازي الجليل، الداعية الشيخ «أحمد الدباغ»، الذي جاء إلى الطفيلة، واعظاً ومعلماً، ينشر علومه وحِكَمَهُ التي استقى فيصل وجيلهُ منها في صغره الكثير، وبقي يجوب قرى الطفيلة، ومنها بصيرا، يُعلم فتيانها ويُفتي لرجالها وشيبها، طمعاً في مرضاة الله، ولوجهه تعالى، وبقي ذلك الواعظ الذي تعلم فيصل على يديه كثيراً من معارفه عالقاً في غياهب ذاكرته، حتى أنه سأل عنه بلهفةٍ يوم عودته إلى بصيرا صيف عام 1986، وأحزن قلبه كثيراً حين علم أنه رحل إلى لقاء ربه، وأن أهل الطفيلة اتَّبَعوا وصيته بأن يُدفن في وطنه وفاءً لما قدمه لهم من خير، فعملوا جهدهم لكي يدفن بالبقيع في المدينة المنورة، وهكذا كان.

كانت سلال الحكمة الجنوبية الأردنية تتناثر كشلال غزير حول فيصل، الرحالة الصغير والكبير، حِكَم كانت تهبط حيناً من أفواه «تِعليلة» تحت شجرة، تَمَطّى في ظِلها مجموعة من رجالات بصيرا، السعوديين، «بوجوههم السمراء وملامحهم الحادة الصارمة، وهم يَسردون بالتناوب تلك الحكايات الغامضة المملوءة بصور الرجولة والبطولة، ويُقلّبون صفحات الزمن من واقعٍ مُعاشٍ تَوَارد إلى مسامعهم عبر الآباءِ والأجداد من زمن طويل، وكثيراً ما يأخذ تأويل النهايات المفتوحة الغامضة دوره في سردِ الحكايةِ المتداولةِ وتفسيرها"؛ سواء أكان في «بصيرا» ذاتها أم في أي قرية مجاورة؛ كغرندل وضانا والمعطن والسلع والنمتة وصنفحة وعابل وارويم وعيمة والجرف والحسا، أو حتى في الطفيلة ذاتها، أم في أي مكان ما في الجوار، ربما لم يشاهده فيصل عياناً، ولم يعاشره جهاراً نهاراً، ولكنه استطاع أن يرسمه في ذاكرته الواسعة من خلال الحكاية، بخياله الواسع الغزير وفكره الواعي لكل التفاصيل.

فحين تكون «طفلاً، ومستمعاً ضعيفاً بإدراكٍ محدودٍ، ومخيلةٍ قاصرةٍ؛ من الطبيعي أن تبقى أسيراً للانفعالات الظاهرة أمامك، تلك الممزوجة بخفة الأصابع حين تبدع برسم الإشارة المرافقة للحكاية، وحركة اليدين الناطقة كما لو أنها ريشة فنان مبدع في تجسيد الصورة، والإيقاع الصوتي المنبعث من الأفواه المغطاة بمساحة واسعة من الشّعْرِ الذي يلتحف الشفة العليا، الشاربين، اللّذين كانا عنواناً للرجولة والصّرامة؛ تلك الصفة التي كان يشترك فيها كل الرجال، لا في «بصيرا» وحدها، بل في سائر الجغرافيا البدوية والريفية الأردنية، باعتبار أن الشاربين يشكلان قيمة عُليا من قيْمِ الرجولة والشرفِ والثقةِ الكبيرةِ؛ لذا فقد كانت تلك الجلسات، وما تحمله من رائحة التراث وعبق التاريخ، جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة فيصل، ومحطة مهمة من محطات معرفته، ووسيلة ناجعة لتعلُّم القيم وأصول الاحترام، والتدرب على الاستماعِ، وتَقبّلِ الآخر والصبر، وتمرين المخيلة على الابتكار، وتحريض العقل على التساؤل والتفكير.

الغرائب والتعاليل

كان فيصل، واحداً من أولئك الصغار الذين جمعتهم المصادفة والعفوية بمثل هذه التجمعات الخاصة بالكبار في «بصيرا»، «يستمع بشغف وتركيز، ويختزن في ذاكرته كل مجريات الأحداث الغرائبية، والشِّعر البدوي الموزون بقوافيه الحادة، وأسماء الأشخاص والقرى والطرقات والعشائر والقبائل، ومسميات المواسم وما يحيط بها من طقوس، والوجوه القلقة، الخائفة حيناً، والمتوترة أحيانا أخرى تتسلل في نهاية الأمر إلى اللاوعي على شكل أسطورة وسِحرٍ يقودان إلى الحلم، ومحاولة تَمثّل بعض تلك الشخصيات وارتدائها، خاصة تلك التي امتلكت قدرة هائلة على تحطيم الصعاب، وخوض غمار سهول الظلام بعصا سحرية.

لذلك؛ «فقد كان فيصل ينتظر مثل تلك الجلسات، التّعَاليل، في ظلال البيوت الطينية القديمة الشاحبة، وعلى أطراف البيادر المتناثرة، في «الربص والظهور والحمرا»، والتي كانت تنعقد تحت شموس التلال الحارقة وفي بساتين العنب والتين والزيتون والتفاح، وبيوت الشّعر المتناثرة هنا وهناك في السهول والأودية وحول الينابيع، وفي زوايا حقول القمح الراقصة كالأمواج في المدى البعيد» لترسم في مجموعها حكاية خالدة ورواية كما في روايتي؛ ألف ليلة، وكليلة ودمنة».

في بصيرا، «كان لكل حكاية أسباب سردها ومقومات وجودها؛ وبالتأكيد المناسبة التي احتضنت حَبكَتَها، وكان لكل حدث طريقته المتميزة في سرده، فسرد الأحداث المُفرحة يتطلب ملامح منبسطة فرحة وأسارير مبتهجة، والحدث المرعب يحتاج إلى وجوه حذرة وعيون مندهشة وجلسة متوجسة.

أما «الحدث البطولي المتدثر بِأردية الشجاعة والإقدام؛ فهو، بالتأكيد، يحتاج في العادة، إلى قسمات متناهية في الجد، وهنا تأخذ السواعد دورها في رسم سرديته، ويساعدها الرأس بإكمال المشهد عبر إيماءاته الدقيقة، وقد كان لكل حكاية مئات التفاصيل، وتلك التفاصيل ما هي إلا جملة من الخيالات، والأحلام؛ تلك كانت أساطير القرى وخصوبة المخيلة البريئة؛ الممزوجة بالقليل من الواقع المُر، والكثير الكثير من التهويل اللاواقعي للأحداث جلباً للانتباه واستجراراً للدهشة، وخلط تلك المخيلة بثقافة شعبية مفرداتها محفورة جيداً في ذاكرة الأجداد والآباء، ومن بعدهم الأبناء والأحفاد».

كان فيصل، ذلك الكائن صغير الحجم، عميق التشوق للمعرفة، مشبعاً بلغة الكبار المحشوة بقوة الصوت ومرارة النبض، وقساوة الجغرافيا، وفقر التفسير خارج دائرة البحث الموروث، واختلاف الكبار في تفسير كيفية الموت، ناهيك عن تفسير كيفية الحياة؛ فكيف كان لذلك الطفل الصغير أن يفكر خارج دائرة الأساطير المملوءة بخطوات «الغولة»، والمغارة المسكونة بالجن، و"المارد» المتخفي في ظلام البيوت المهجورة، و"الجنّية» التي تترصد الحوامل عند منابع الماء، وطائر «البوم» ذي العينين الخَرَزيتين، الذي يحط على جدران البيوت في مساءات الخريف ليَسْلُب الأطفال حيواتهم، وغياب الرجال الذين أخذتهم عساكر «العصملي» إلى «السفربرلك» في سبيل حروب وفتوحات الدولة العثمانية، دون أي أمل بالعودة، أو احتمال بإطلالة أخرى.

وأولئك الذين ذهبوا إلى مواسم مؤجلة خلف جبال «الكولا» باتجاه فلسطين، أو ما وراء تلال «العروض» باتجاه الشرق والشمال؛ الطفيلة والكرك والبلقاء ومأدبا وعمّان والزرقاء والمفرق وعجلون وجرش وإربد وحوران، أو إلى ما بعد «الرشادية» باتجاه الشوبك والشراة ووادي موسى ومعان والعقبة وتبوك والحجاز، ولم يعودوا قط، وإن حدث وعاد بعضهم فقد عاد محملاً بالعجب العجاب، فأصبح عند الجمهور كما لو كان مخزناً للأسرار والإيهام، بل إنه صار منبعاً للإلهام؛ فكان الحقل رواية، والحجر قصيدة، وكان الهجيني موالاً متوجعاً لعزيز غاب، ولطفل جرفته السيول في الصباح من «شلالة العرش» على أطراف بصيرا، ولرجل مات قبل آوانه في التلال البعيدة، في «اللّصِبْ»، أو «المْسيكنه» أو «بقيع نجم» أو «البِقعة» أو » القعير» أو «عين لَحظة» أو «بطين الميس» او » المجدل»، دون معرفة الأسباب.

كانت تلك الأحداث التي تمثل في ذاكرة فيصل الطفولية ما يصل إلى المعجزات والعجائب، السبب الرئيس في تشكل تساؤلاته اللحوحة أمام صور الحياة، وبالتأكيد؛ فقد كان لها الدور الأكبر في تكوين الكثير من ملامح شخصيته–شخصية فيصل- في المستقبل، حيث إن قساوة الظروف المُعاشة، وتلك المعايير الأخلاقية ذات الرتبة العالية، التي لم تكن لتقبل بأقل من الإيمان الكامل، وتأكيد قيم الصبر والتحمل والتعايش، وتذليل الصعاب بالجهد والمثابرة، والإصرار على النجاح والتفوق، قد تَجذَّرت عميقاً جداً في قلب فيصل.

إذ لم يكن من المعقول أن لا يكون للمكان تأثير على مسيرة حياة فيصل التي بدأت من بصيرا، تلك القرية العريقة في جنوب الأردن، والتي شهدت مسقط رأسه، وخطواته الأولى في اكتشاف الحياة؛ فكان لا بد له من نقل جميع الصور المختزنة في مسامات تلك الذاكرة بكل تفاصيلها الدقيقة، وترجمتها إلى حروف وكلمات وجمل استلقت بكامل وضوحها وأناقتها، على صفحات كتاب، وتسجيل كل شيء بحرفيته، وإعطاء أبطاله حقوقهم من قيمة الرواية بكل عدالة وأمانة وإخلاص، لتشكل ولادتها على يديه، مرجعاً للأجيال التالية، لكي ترى فيصل المقاتل، إن جاز التعبير، بكل وضوحه وبساطته وعفويته، وتتعرف إلى ساحات معاركه الحياتية في بصيرا والطفيلة، والعقبة، وعمّان، وبغداد، ونيودلهي، لا بل؛ وفي العديد من زوايا هذا العالم.

والأهم من ذلك، كان إعطاء بصيرا، تلك البيئة التي احتضنت مشروع «فيصل بن غنّوم الرفوع السعودي» قبل سبع وستين عاماً، حقها في الثناء، وحصتها في كل تلك الغنائم التي جناها بفضل الله أولاً؛ ومن ثم انتماء فيصل القومي العميق لأمته العربية، وجهده وتعبه ومثابرته وعرق جبينه ثانياً، وبفضل الأردن وبصيرا ثالثاً.








طباعة
  • المشاهدات: 8162
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
29-10-2023 09:34 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم