05-11-2023 09:31 AM
سرايا - أ. د. يوسف بكّار
(1)
فأستهل هذا المبحث بمقولة لعميد الأدب العربي طه حسين تنويراً لما فيه من إشادة علميّة واسعة موجزة، وتنبيهاً على هفوات طفيفة دلفت إلى الكتاب من مؤلفه ذاته وممن أُلف عنه. يقول طه حسين: «ليس على النّوابغ بأسٌ ألّا نقبلَ منهم كلّ ما تركوا لنا، وإنّما علينا نحن البأسُ كلّ البأس ألّا نقرأَهم ولا نفهمهم ولا ننقدَهم ولا نَصْدرَ في حكمنا عليهم عن القراءة والفهم والنّقد».
(2)
يعقوب العودات/ البدوي الملثّم، ومصطفى وهبي التّل (عِرار)، مشهوران في الأردن والوطن العربي والخارج، وليس ثمّة من حاجة إلى التعريف بهما، بيد أنّه لا مناص من أن أشير إلى قطوف من الكثير الذي قيل في العودات بعد وفاته (1). يقول صديقه المصري الأديب محمد عبد الغني حسن شعراً:
عيسويّ يُشيد فينا بطه
ويحيّي منارَه ولواءَهْ
ويقول صديقه المهاجري رياض معلوف اللّبناني:
فأنت غنيٌّ بما قد تركت
من الكُتْب والكتْبُ فيها الثّراءُ
ويقول الأديب الكويتي خالد سعود الزّيد نثراً: «بدأ حياته كما يبدأها العصاميّون النّجباء، فانتهت به إلى حيثُ يجب أن تنتهي به حياة العصاميّين النّجباء... وكان... عربيّاً مَحْتِداً ولساناً، بدويّاً صراحة وبياناً... فبدويّاً ذا خلق ودين».
ويقول عبد الله التّل: «كان أبو خالد مسلماً في أعماله وأقواله وعاداته وأخلاقه وكتاباته، وهو في ذلك، يمثّل الرّمز الحقيقيّ لوحدة الشّعب المسلم المسيحي في هذا البلد (الأردن)، ويضْرب المثل الأعلى للتّسامح والأُخوة الإسلاميّة المسيحيّة».
(3)
كتاب العودات «عرار شاعر الأردن» (2) هو العاشر (1958) بين مؤلفاته الاثنين والعشرين (22) المطبوعة، والثّالث من حيث دلالته التاريخيّة وأهميته في الكتابة عن (عِرار) بعد الذي كتبه محمود المطلق صديقه وخدينه في مقدمته المهمّة/ المصدر الأوّل للطبعة الأولى من ديوان «عشيّات وادي اليابس» (1954)، التي نهل معلوماتها من ديوان الشاعر ومذكّراته وآثاره المكتوبة بخطّ يده، ومن معلومات خاصة زوّده بها مريود ابن الشّاعر، ومن معرفته الشخصيّة به إذ كان صديقه وزميله وشريكه في مكتب للمحاماة بعمّان، وممّا دُبجّ عن الشاعر من مقالات ف? حياته ومماته؛ وبعد الذي كتبه ناصر الدّين الأسد في «الاتجاهات الأدبيّة الحديثة في فلسطين والأردن (القاهرة، 1957)، الذي ضمّه لاحقاً إلى كتابه «محاضرات في الشعر الحديث في فلسطين والأردن» (القاهرة، 1961) وأصدرهما في كتاب واحد بعنوان «الحياة الأدبيّة في فلسطين والأردن حتّى 1950» (المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 2000).
الكتاب واحد من كتب العودات «الأصلية» لأنّه عرف عراراً عن قرب وخالطه، وخالط أصدقاءه ومعارفه، ولم يألُ جَهْداً في أن يجمع كلّ ما أمكن من أخباره وأشعاره بالاتصال بالعارفين به والسّفر إليهم. ولقد كانت جهوده المضنية الجادّة في تأليف الكتاب، الذي يحوي معلومات وتفاصيل دقيقة عن الشّاعر الذي عرفه أوّل مرة في نيسان عام 1922م حين نزل ضيفاً على والده في بيتهم بالكرك؛ وآلت هذه المعرفة إلى صداقة سبعة وعشرين عاماً انتهت بوفاة عرار. وقد مكنّته هذه المدّة الطويلة أن يعرف دقائقَ وتفاصيل منه، ويسمعَ رواياتٍ وأخباراً كثيرة من?أصدقاء الشّاعر وزملائه ومعارفه ومن كانوا على صلة به من مثل والده والدكتور محمد صبحي أبو غنيمة وسامح حجازي وفرح إسحق والدكتور عمر فائق الشّلبي وعمر المدني وأحمد الظّاهر ورشدي المهتدي، عمّا كان يتجاذب حياتَه من مراراتٍ كثيرة وأفاويقَ قليلة.
لقد كان صلاح الدّين المختار اللّبناني الصّديق المشترك لعرار والعودات يرغب في أن يؤلف كتاباً عن عرار، بيد أنّه صرف نظره بعد صدور كتاب البدوي الملثم (3). يقول:
«كنت أودّ أن أكون سبّاقاً في جمع نوادر عرار وأخباره لكنّ البدوي الملثّم كان له فضل السَّبْق بكتابه الماتع النّفيس... إذ لم يترك لي فصلاً أُخلِّد به صديق الشّباب بعد أن اختاره الله إليه». ويصف الكتاب بأنّه «يجمع بين صفحاته صِدْقَ الرّواية، وإبداعَ الوصف مع السموّ عن الابتذال، فتقرأ لغة عربية صافية"؛ وأنّه «قطعة من الأدب العالي صوّرتْ واقع فقيد الأدب العربي الكبير (عرار) من جِدّ وهزلْ، وسلبيّة وإيجابيّة، ورصانة وفوضى».
حسب البدوي الملثم أنّه كان أوّل من نبّه على طفولة عرار وبداياته الإبداعيّة الشعريّة، وأولَ من كشف عن معرفته باللّغة الفارسيّة واهتمامه بعمر الخيّام والرباعيات التي ترجمها عن الفارسيّة والتركيّة معاً عام 1922، فكان أول من ترجمها عن غير الإنجليزية من العرب.
وحسبه، أيضاً، أنّه تصدّى، من خلال معرفته الدقيقة بعرار وثقافته، للردّ على محمود المطلق في إنكاره سَعَة اطلاع عرار وثقافته ومعرفته. ويكفيه أنّه قيّد كثيراً من خصائص الشّاعر وسجاياه الشّخصية ونوادره ومفارقاته ودعاباته ومواقفه الوطنيّة والقوميّة والإنسانية ونوادرَ من رسائله إلى ابنه البكْر وصفي قد تكون ممّا أوحى إلى العودات أن يكتب «رسائل إلى ولدي خالد». كما أنّه أثبت مطارحاتِه ومساجلاته الشعريّة مع عدد غفير من شعراء الأردن والوافدين عليه من أصدقائه ومعارفه، كخليل مطران، وأحمد الشّهابي، ووديع البستاني، وإبراه?م طوقان، وأبي سلمى (عبد الكريم الكرمي)، وجميل ذياب. ولولاه لما ظفر الأدب العربي الحديث بهذه الأشعار الكثيرة التي تنمّ على الاهتمام بالشّعر وطبيعته موضوعاً وفنّاً في ذلك الوقت المبكّر من القرن العشرين.
وفي الكتاب، كذلك، مباحثُ موضوعيّةٌ وفنية لجوانب من شعر عرار، كالتّصوير الفنيّ، والومَضات الفلسفيّة، ونزعة التشاؤم، ما يؤكد مقولةَ المؤلف عينه وكانت صلتي بـِ (عرار) وثيقةَ العرى، عميقةَ الجذور، ترجع إلى عهد بعيد مضى كنت خلالهَ أستقصي أخباره، وأستاف آثاره وأقف على كلّ صغيرة وكبيرة في حياته».
كان الكتاب منبعاً ثرّاً، ومصدراً أصيلاً ومهماً لكلّ من ألّف في عرار وكتب عنه، وقد كان من أهمّ مصادري المساندة وأنا أُحقق ترجمة مصطفى لرباعيّات الخيام التي طبعت إلى الآن خمس (5) طبعات في لبنان والأردن؛ فهو الذي هداني إلى الجدل المثير الذي توقف فجأة، بين عرار والشّاعر اللّبناني المعروف أمين نخلة على صفحات مجلة «منيرڤا» اللبنانيّة الشهريّة، التي كانت تصدرها ماري يني عطا الله ببيروت، إثر ترجمة نخلة عدداً من الرباعيّات. فأمّا الآخرون سواءٌ من حقّق ديوان الشّاعر أم ألّف فيه كتاباً، أم كتب عنه بحثاً أو مقالاً -وه? كُثر- فقد نهلوا جميعاً وعلّوا من معينه، وأفادوا منه أيّما إفادة، دون أن يخلو الأمر من إضافة وتعليق ومأخذ أحياناً؛ ولو قيّض للاستشهادات عنه والنقول منه أن تحصى لكان مؤلفه الأوّل أو من الأوائل في هذه البابة العلميّة الحديثة التي يركز عليها في ميادين البحث العلمي الآن، ودخل العودات موسوعة «غينيس» للأرقام القياسيّة آمناً مطمئناً دون منازع. وسوف يظلّ هذا السِّفر مصدراً أوّل لكلّ من يلج باب الكتابة عن مصطفى وعن العودات.
(4)
لكن، أنّى عُدِمتْ الحسناءُ ذامّاً؟ فما الكمال إلّا لله وحده. فقد استوقفتني في الكتاب أمور وقضايا صدرت عن العودات وعن صديقه مصطفى أراها جديرة بأن يُنبّه عليها وفاء لهما واستجابة للأمانة العلميّة، وإنصافاً لمن لهم عُلْقةٌ بها.
1. يذكر البدوي المثّلم (ص 33) أنّ مصطفى «ولد بمدينة إربد في السّاعة الحادية عشرة من صباح الأربعاء الموافق 25 أيّار عام 1897». غير أنّ طلال حجازي ينقل عن أوراق عمّه سامح حجازي صديق مصطفى التي لمّا تُطبع أنّ الشاعر ولد في 22/5/1898 خلافاً للمتداول وهو 25/5/1899 الذي كان محمود المطلق أول من ذكره في نشرته لديوان الشّاعر، ثم أكّده زياد الزعبي نقلاً عن مذكّرات خاصة لوالد الشّاعر وأُخرى لنجله «مريود». والله أعلم.
***
2. يقول البدوي الملثّم (ص88 و239 كذلك):
«بارح عرار إربد... إلى دمشق، وفي نفسه هوًى للخيّام... وعكف على الرّباعيّات بالفارسيّة والعربيّة. وكان المرحوم وديع البستاني أوّل من ترجمها...».
ربما نقل البدوي الملثّم هذا عن مصطفى نفسه، الذي يقول (4): «سبق لرباعيّات الخيّام أن استهوتني عندما اطّلعت قبل سنوات على ترجمتها الشعريّة والأولى في بابها بالعربيّة بقلم الأديب وديع البستاني».
ليس مصطفى والبدوي الملثّم وحدهما من ذهب إلى أن البستانيّ كان أوّل من ترجم مختاراتٍ من الرباعيّات إلى العربيّة، فثمّة كثيرون غيرهما أيضاً (5).
الصحيح أنّ أوّل من ترجم بعض الرّباعيّات إلى العربيّة في العصر الحديث هو أحمد حافظ عوض من مصر (1877-1950). الذي ترجمها نثراً عن ترجمة «وينفلد» (E. H. Whinfield) الإنجليزية (6)، ونشرها عام 1901 في «المجلة المصرية» (7) التي كان يصدرها الشّاعر خليل مطران. وفي عام 1910 نشر عيسى إسكندر المعلوف رباعيّاتٍ ترجمها نظماً عن الإنجليزيّة في مجلة «الهلال» (8). وجعلت الترجمات العربيّة شعراً ونثراً وباللّهجات المحليّة عن الفارسيّة والإنجليزيّة وغيرهما تترى، إذ أضحت إلى الآن، سبعاً وتسعين (97) ترجمة هي التي درستُها في الطب?ة الثانية المزيدة من كتابي «الترجمات العربيّة لرباعيّات الخيّام: دراسة نقدية» (دار التكوين، دمشق، 2023) بعد أن كانت خمساً وأربعين (45) في الطبعة الأولى (جامعة قطر، 1988).
فأمّا وديع البستاني، فصدرت الطبعة الأولى من ترجمته عن منظومة إدوارد فيتزجيرالد الإنجليزيّة عن دار المعارف بالقاهرة عام 1912 في نشيدين من ثمانين (80) «مسبّعة»، وليس في «إحدى وثمانين (سُباعيّة)» كما ذكر البدوي الملثّم أيضاً (ص 239-حاشية 2). والمسبّعة سبعة شطور، فأمّا السّباعيّة فسبعة أبيات.
وليس ثمّة شك في أنّ العودات نقل أنّ ترجمة البستاني في «سباعيّات» لا «مسبّعات» عن عِرار، كذلك، الذي يقول وهو يوازن بين ترجمتي محمد السّباعي ووديع البستاني: «فكانت (سباعيّات) البستاني التي ضمّنها رباعيّات الخيّام ذات قيمةٍ خيّاميّة أكثر من (خماسيّات) السّباعي» (9).
الحقيقة أن البستاني نظم ترجمته في «مسبّعات» في نشيدين اثنين يضم كلٌّ منهما أربعين (40) مسبّعة. فأمّا ترجمة السّباعي (1922) فمنظومة في «مخمّسات» لا «خماسيّات» كما ذكر عرار. والخماسيّة خمسة (5) أبيات في حين أنّ المخمّسة خمسة شطور ليس غير.
المهم أنّ المخمّسات والمسبّعات من الفضاءات الموسيقيّة الجديدة الخمسة التي نظم عليها مصطفى ولم يلتفت إليها أحد قبلي ممن حقّقوا ديوانه أو كتبوا عنه، وهي: الرباعيّات (15)، والمثنيّات (9)، والمخمّسات (5)، والمثلثات (2) والمسبّعات (2)؛ وتعد جميعاً ثلاثة وثلاثين (33) نصّاً. وقد أفردت لها الفصل الأخير من كتابي الجديد «مصطفى وهبي التّل: أضواء جديدة» (10).
والأهم أن مصطفى نظم بعد أيام من قراءة ترجمة البستانيّ قصيدة مخمّسات عنوانها «يا نديمي» في خمسة (5) مقاطع هي التي اعترف من خلالها بدءاً بالأثر الخيامي فيه فقال نصّه الشهير «سبق لرباعيّات الخيّام أن استهوتني....».
المقطع الثاني من القصيدة نموذجاً:
كوخنا يسمو على القصر المنيفْ
كلّ ما فيه جميلٌ وظريفْ
تلكمُ دنياكمو قد بعتُها
أنا بالدَنِّ وذيّاك الرّغيفْ
يا نديمي إنّ عيشَ اليوم طابْ!
الذي يبدو فيه تأثره بالمسبّعة التّاسعة (9) من ترجمة وديع البستاني عن عمريّات فيتزجيرالد الإنجليزي، وهي:
ومُقامي غصْنٌ مُظِلٌّ بقفرِ
ورغيفان مع زُجاجة خمْرِ
كلّ زادي والأهل ديوانُ شعرِ
وحبيبٌ يهواه قلبي المُعنّى
بشجيٍّ يذيبني يتّغنّى
هكذا أسكن القِفارَ نعيماً
وأرى هذي القصورَ خرابا
فأمّا المسبّعات فنظم عليها متأثراً بمسبّعات البستاني قصيدة «سلطان الأطرش (1937) في ثلاث مسبّعات من بحر الرّجز، ومسبّعة واحدة مفردة «يقول لي الأقارب» (1946) من بحر الرّجز كذلك.
***
3. يقول البدوي الملثّم (ص 94):
"وفي ليلةٍ خيّاميّة أخذ عرار يقرأ في كتابٍ فارسيٍّ أبياتاً يفوح منها شذا الخيّام، فاستساغها وترجمها نثراً، وبعث بها إلى صديقه الأستاذ باز قعوار، ودونك الأصل والترجمة...».
الأبيات التي يتحدث عنها البدوي الملثّم رباعيّة خيّاميّةٌ مما ورد في كتاب «رباعيّات عمر خيّام» لحسين دانش الإيراني نزيل تركيا (ص 290)؛ وهي الرّباعية الأخيرة (169) في ترجمة عرار، لكنّها لم تكن من رباعيّات «المخطوط» أو ممّا نشر في «مينرڤا». وهي:
ما زال زماننا هذا لا ينفع فيه العاقلَ عقلُه،
ولا ينظر فيه الدّهرُ بعين الرّضا إلّا لمن لا عقل له؛
فتكرّم عليّ بتلك العصارة التي تذهب بالعقل
عسى ولعلّ الأيام تنظرني بعينٍ لا غبار على إشعاعها
***
4. يعلّق البدوي الملثّم على قصيدة مصطفى (هوى الأربعين) التي أوّلها:
أهوى ولاتَ اليومَ حينَ تصـابي
وجوًى وقد غمز المشيبُ شبابي؟!
فيقول (ص 110):
«بعد هذه الشّطحات لعلّ القارئ لا يُسرف في ملامة عرار لسجوده للقدّ المائس، والطَّرْف النّاعس؛ وقبله استخذى أمير المؤمنين (هارون) الرّشيد لسلطان الحبّ وسجد للفتنة والجمال، إذ قال:
ملك الثّلاثُ الآنسـاتُ عِـنـاني
ونَزَلْنَ (11) من قلبي بكـلّ مكـاني
ما لي تُطاوعني البريّـة كلُّهـا
وأُطيعهنّ وهنّ في عِصـياني؟!
ما ذاك إلّا أن سلطان الهـوى
وبه قَوِينَ (12) أعزُّ من سلطاني
الأبيات الثلاثة هذه ليست ثابتة النّسبة إلى الخليفة الرّشيد، لأنّ ثمّة من ينسبُها إلى العبّاس بن الأحنف الذي يقال إنّه قالها على لسان الرّشيد في جواريه الثّلاث: سِحْر وضِياء وخُنْث. يروي أبو الفرج الأصفهاني عن الصُّولي عن آخرين: »... قال، وفيهن (في الجواري) يقول (الرّشيد)، وقد قيل إنّ العبّاس بن الأحنف قالها على لسانه» (13). وهي، كذلك، في ديوان العبّاس بن الأحنف (14).
وتدخل الأبيات -إن تكن للعبّاس- في ما أطلقت عليه «الغزل المصنوع» (15)، وهو من موضوعات الغزل الجديدة في القرن الثاني الهجري، نظمه بعض الشعراء تلبيةً لرغبة غيرهم وليس بدافع حقيقيٍ ذاتيٍ. فمن أمثلته ما نظمه بشّار بن بُرد للخليفة المهدي (16)، ولقَيْنةٍ كانت لبعض وَلَد سليمان بن علي (17)، وما نظمه الحسين الضّحّاك لجنديٍّ من أهل الشّام في صاحبةٍ له (18).
ومن هذا، أيضاً، المقطوعة (خمسة أبيات) التي نظمها البحتري على لسان الخليفة المتوكّل الذي بعثها إلى زوجه «قبيحة»، التي سمّاها بهذا لحسنها وجمالها، ومطلعها (19):
تعاللتِ عن وصْلِ المُعنّى بكِ الصَّبِّ
وآثْرتِ بُعْد الدّار منّا على القُرْبِ
ومنه مقطوعة (أربعة أبيات) قالها أبو العتاهية على لسان زبيدة أُمّ جعفر ليعطف عليها المأمون، فبعثت بها إليه. أوّلها (20):
ألا إنّ ريْبَ الدَّهر يُدْني ويُبْعدُ
ويؤنس بالأُلّاف طوْراً ويُفْقِدُ
يقال إنّ المأمون بكى بعد أن قرأها، وزاد في إلطافها ورقّ لها وعطف عليها. وحين عرف أن أبا العتاهية قائلها أمر له بعشرة آلاف درهم.
وفي العصر الحديث، يقال إن الشاعر المصري أمل دنقل نظم شيئاً من هذا. يقول الكاتب المصري محمد البساطي (21): «كنت أحبّ فتاة ولم تكن تعيرني أيّ اهتمام؛ وطلبت من أمل أن يكتب لي قصائد فيها كان يأخذ خمسين قرشاً عن كلّ قصيدة يكتبها بخلاف ثمن كوب الشّاي... تصوّر استجابت لي الفتاة بعد أن قرأت هذه القصائد... استجابت بمعنى أنّنا خرجنا سويّاً إلى السينما وتناولنا الغداء لا أكثر ولا أقل». بيد أنّه لم يذكر شيئاً من هذه القصائد.
وقد كانت بداية هذا الضَرْب من الشعر في العصر الأموي عند مسكين الدّارمي صاحب مقطوعة «الخمار الأسود»، التي أوّلها:
قلْ للمليحة في الخمار الأسودِ
ماذا صنعتِ براهبٍ متعبّد؟!
والتي نظمها لتاجرٍ كوفيّ قَدِم المدينة المنوّرة بخُمُرٍ باعها جميعاً سوى «السود» التي لم تُبَعْ إلّا بعد أن غُنّي بالأبيات، وشاعت بين الناس (22).
***
5. يقول البدوي الملثّم (125):
"و(النَّوَر) منتشرة زحوفهم في دنيا العرب، ويُسمَّوْن فيها أسماء شتّى، منها: (النّور) في سوريا والأردن... و(الزُّط) في العراق (23)...».
المعروف أن «النّور» يسمّون «كاولية» في العراق. وقد تكون اللفظة معرّبة عن «كولي» الفارسيّة أو واحدة من مرادفتَيْها: «كاولي» و"كابلي؟» (نسبة إلى كابل)؛ وأصل هذه الطائفة من البشر من شماليّ الهند (24).
***
6. أثبت البدوي الملثّم (ص180) رسالة مؤرخة في 22/4/1931 بعث بها مصطفى من العقبة إلى صديقه عمر العمري بدأها، بعد «أخي عمر»، يقول أحمد شوقي:
ليلاً منادٍ دعا ليلى فخفّ له
نشوانُ في جَنَباتِ الصّدر عربيدُ
وتكررت لفظة «ليلاً» هذه ثلاث مرّات أخرى (187 و188 و190).
المعروف أنّ اللفظة هي «ليلى» لا «ليلاً» إذ جعل شوقي يترنّم بهذا الاسم على لسان «قيس» أربع مرّات متتاليات في الأبيات الأربعة الآتية من مسرحية «مجنون ليلى» (25):
ليلى! منادٍ دعا ليلى فخفّ له
نشوانُ في جَنَباتِ الصّدر عِرْبيدُ
ليلى! انظروا البِيدَ هل مادت بأهلها
وهل ترنّم في المزمار داودُ؟
ليلى! نداء بليلى رنّ في أُذني
سَحَرٌ لعمري له في السَّمْع ترديد
ليلى! تردّدُ في سمعي وفي خَلَدي
***
كما تردّدُ في الأيْكِ الأغاريد
7.أثبت العودات (ص 283): قسماً من رسالة طريفة جداً بعث بها عرار من السّلط إلى صديقه الشاعر إبراهيم طوقان تبدأ بـــِ «السلط 14 آذار على ما أظنه»!، شرح فيها لإبراهيم قصة زيارته السّلط من عمّان وذهابه إلى «معامل خمر جلعاد» وشربه من «فوهة أحد البراميل» إلى أن قال: «... وعندما أخذت الوضعيّة المقتضية وأدرت لولب الحنفية وبدأت أرضع... جاءَني شيطانك يردّد على مسمعي قولَك:
يا «تين» يا ليتَ سرْح التين يجمعنا
يا «توتُ» يا ليت ظلّ التّوت يجمعنا
وأنت ليتك يا رُمّان تُرْضِعنا
والكَرْم يا ليت بنْتَ الكَرْم تصرعنا»
المعروف المتداول أنّ قصيدة «يا تين يا توت» أو «حدائق الشام»، ليست من نظم إبراهيم طوقان وحدَه، بل هي، كما يقال، قصيدة اشترك في نظمها ثلاثة شعراء: إبراهيم طوقان، وحافظ جميل (من العراق)، ووجيه بارودي (من سورية). ولم يذكر أحد -في ما أعلم- «نصيب» كلّ واحد منهم فيها.
القصيدة -على أية حال- ليست في ديوان إبراهيم، لكن عمر فروخ أوردها كاملة في كتابه «شاعران معاصران» (ص102-103).
هل كان مصطفى متأكداً من نسبة البيتين، اللّذين استشهد بهما، إلى إبراهيم طوقان؟ وهل تناهى إليه أمرهما عن صديقه الدكتور محمد صبحي أبو غنيمة مثلاً ورواهما له؟ فقد كتب عرار إلى إبراهيم: «أحييك تحية الموجَع... فقد أشغلت بالي انشغالاً في غير وقته بمعنيين من معانيك اتصلت بهما عن طريق رواية الدكتور أبي غنيمة لطائفة من أشعارك...». غير أنّني لم أجد شيئاً عن إبراهيم وأشعاره في «سيرة منفيّة: من أوراق الدكتور محمد صبحي أبو غنيمة (26)».
ثمّة وجه آخر للقصة، مختلف تماماً يرويه حافظ جميل حاشية على قصيدة «يا تين» من ديوانه «نبض الوجدان» (27) حيث يقول:
«لقد كثر الجدل واللّغط منذ سنوات خلت حول عائديّة هذه القصيدة. فمنهم من زعم أنّ ناظمها هو زميلي في الجامعة الأمريكيّة ببيروت وقتئذٍ الشّاعر المرحوم إبراهيم طوقان الفلسطيني. ومنهم من زعم أنّ ناظمها هو زميلي في الجامعة الدكتور وجيه البارودي الحموي، وآخرون رووها لنا نحن الثلاثة.
والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن ناظم القصيدة هو (أنا لا غيري) وأن ما يروى للمرحوم إبراهيم وللدكتور وجيه من قصيدة مماثلة حول الموضوع اشتركا سوية في نظمها بعنوان (حديقة العشاق) من أبيات هي من أصل قصيدة (يا تين) لم يكن إلّا اقتباساً. فالمرحوم إبراهيم والدكتور وجيه لم تكن لهما أدنى صلة أو حتى أدنى تعرّف على التي أوحت إليّ نظم هذه القصيدة وغيرها من القصائد (التينيّة) المتفرقة والتي ورد بعضها في هذا الديوان وضاع بعضها الآخر مع ما ضاع من شعري الجامعي».
وأُشير في الختام، إلى أنّ روكس بن زائد العُزيزي قد ذكر في مقاله «ثلاث حقائق يجب أن تجلّى» (28) رواية حافظ جميل لقصة القصيدة ونبّه عليها. وكان قد سمعها منه شخصياً ببغداد عام 1955.
(1) راجع: ذكرى العودات، إعداد لجنة التأبين، عمّان، 1972.
(2) الطبعة المعتمدة هنا طبعة مكتبة الأسرة الأردنيّة، وزارة الثقافة، عمّان، 2011.
(3) من مقاله: «عرار شاعر الأردن» ومؤلفه البدوي الملثّم. الذي وجده الصديق كايد هاشم بين أوراق العودات غير موثّقٍ وزودّني به مشكوراً. ويظنّ أنه نشر في مجلة «الضّاد» الحلبيّة.
(4) مجلة منيرڤا. السنة (3) – الجزء (4). 15 تموز 1925، ص173. والمقال ملحق بترجمة «رباعيّات عمر الخيّام» من تحقيقي.
(5) راجع كتابي: الأوهام في كتابات العرب عن الخيّام 25-34. دار المناهل – بيروت 1988.
(6) عنوانها «The Quatrains of Omar Khayy'am».
(7) لقد ضمّنها مقاله «شعراء الفرس». العدد (7) – السنة (2): أيلول 1901، ص281-288.
(8) نشرت في مقاله «عمر الخيّام: ما عرفه العرب عنه». السنة (18) - الجزء (6): مارس (آذار) 1910. ص362-365.
(9) مقال مجلة «منيرڤا» السابق.
(10) الآن ناشرون وموزّعون – عمّان 2023.
(11) في الأغاني وديوان العبّاس بن الأحنف: وحَلَلْنَ.
(12) في الأغاني وديوان العبّاس بن الأحنف: وبه عَزَزْن.
(13) الأغاني (مصورة طبعة دار الكتاب) 16: 345.
(14) (ديوانه - تحقيق عاتكة الخزرجي 279. مطبعة دار الكتب - القاهرة 1954.
(15) اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري، 304-306. دار المناهل – بيروت. ط4: 2009.
(16) الأغاني 3: 222.
(17) الصدر نفسه 3: 165.
(18) المصدر نفسه 7: 161.
(19) ديوان البحتري 1: 129. تحقيق حسن كامل الصيرفي. دار المعارف - القاهرة. ط2: 1972؛ وأخبار البحتري 94، لأبي بكر الصّولي. تحقيق صالح الأشتر. دار الفكر - دمشق. ط2: 1964.
(20) أبو العتاهية: أخباره وأشعاره 518. تحقيق شكري فيصل. دار الملّاح - دمشق (د. ت).
(21) محمد شعير: حكايات سريّة من السيرة الذاتيّة (حوار محمد شعير). جريدة أخبار الأدب – القاهرة. الأحد 20 آذار 2009. ص7.
(22) راجع: يوسف بكّار، غزل المكيّين في العصر الأموي 46-47. مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي. مكّة المكرّمة 2009.
(23) وإلى مثل هذا يذهب أحمد أبو مطر: عرار الشاعر اللامنتمي، 85. دار صبرا - دمشق 1987.
(24) محمد معين: فرهن فارسي 6: 1629. أمير كبير - طهران 1977.
(25) مجنون ليلى، ص 144 في أحمد الشوقي: الأعمال الكاملة - المسرحيات. المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة 2007.
(26) المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر - بيروت 2001.
(27) الطبعة الأولى - بغداد 1957، ص156-160.
(28) جريدة «الرأي» الأردنيّة. 13/6/1986.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
05-11-2023 09:31 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |