21-11-2023 10:28 PM
سرايا - "بعد الحرب: تاريخ أوروبا منذ عام 1945" (Postwar: A History of Europe Since 1945)، كتاب صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ترجمان". والكتاب من تأليف توني جَتْ Tony Judt (ت. 2010)، وهو مؤرخ وكاتب وأستاذ جامعي، شغل منصبي أستاذ التاريخ الأوروبي ومدير مركز إريك ماريا ريمارك بجامعة نيويورك وزميل في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم. يُعَدّ كتاب ما بعد الحرب من أشهر أعماله، وقد أرخ فيه لأوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. دخل جَتْ اليهودي عالم السياسة الإسرائيلية في سن مبكرة، وكان نشطًا في خدمة دولة إسرائيل، إلا أن مواقفه تجاه المشروع الصهيوني شهدت تحولًا واضحًا نحو معارضة هذا المشروع بعد حرب 1967، من جرّاء تأثره بمشكلات اللاجئين الفلسطينيين ومعاناتهم وانهيار حلمه ببناء مجتمع إسرائيلي اشتراكي قائم على العمل، فبات على تماس مع القضايا العربية ومن دعاة حل الدولة الواحدة للصراع العربي - الإسرائيلي التي تعطي حقوقًا متساوية لكل المقيمين فيها، وهو أحد أهم المثقفين المهتمين بالقضية الفلسطينية والمعارضين للسياسات الإسرائيلية على الرغم من اتهامه بمعاداة السامية.
يحتوي الكتاب على أربعة أقسام، وأربعة وعشرين فصلًا. تَرجمه إلى العربية جمال صالح سعيد، وراجعه أمين الأيوبي، وهو يقع في 1344 صفحة.
الفرادة الأوروبية
لا شك في أن أوروبا قارة فريدة، من حيث اختلافاتها الشديدة أو تناقضاتها الداخلية الكثيرة، حتى قالوا إنها تتألف في الواقع من أكثر من ستة وأربعين كيانًا، في داخل كل منها دول وأمم، لها تواريخ متميزة، وقد فاقت المؤلفات عنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الحصر. ويقدِّم بعد الحرب تفسيرًا شخصيًّا من مؤلِّفه لماضي أوروبا القريب، ويصرح بأنه استند في كتابته إلى مؤلفات أخرى، كـ: عصر التطرفات The Age of Extremes لإريك هوبزباوم، وأوروبا في القرن العشرين Europe in the Twentieth Century لجورج ليختهايم، والتاريخ الإنكليزي 1914-1945، English History 1914-1945 لألن جون بيرسيفال تايلور، ومرور الوهم The Passing of an Illusion لفرانسوا فوريه، وبأنه استفاد من كتابات هارولد جيمس، ومارك مازور، وأندرو مورافكسيك، وبالأخص بحوث ألن ميلوورد حول اقتصاد ما بعد الحرب، ومن "كوكبة من الباحثين الموهوبين الشباب" في تاريخ أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، هم براد أبرامز وكاترين ميردايل ومارسي شور وتيموثي سنايدر، ومن صديقَيه جاك روبنيك وإستيفان ديك، ومن تيموثي غارتون آش، وذلك فيما يتعلق بالألمانيتين في حقبة السياسة الشرقية الجديدة، ومن جان غروس (في حوار استمر سنوات) بخصوص تاريخ بولندا والتبعات الاجتماعية للحرب. كما ذكر توني جَتْ أن الفضل في الأقسام المتعلقة بإيطاليا يعود إلى كتاب بول جينسبورغ، أما مادة الكتاب المتعلقة بإسبانيا فكانت انعكاسًا لما تعلمه المؤلف من كتابات فيكتور بيريز دياز، كما اعتبر أنه مدين بشكر عميق لتحليل أنيت فيفيوركا الرصين لـ "الهولوكوست" في كتابها الإبعاد والإبادة الجماعية Déportation et Génocide، وهو تحليل "ترك عميق الأثر في [... نظرته] إلى هذه القصة المضطربة". وأشار إلى أن أفكاره النهائية حول أوروبا تأثرت بمفهوم "الدولة المقسمة" الذي أوردته آن ماري سلوتر في كتابها نظام عالمي جديد A New World Order، وأن بصمات لأعمال هؤلاء جميعًا تظهر بوضوح في بعد الحرب.
أسباب تأليف كتاب بعد الحرب وفائدة التأخر في إصداره
يتناول كتاب بعد الحرب: تاريخ أوروبا منذ عام 1945 آليات انتقال أوروبا من أتون الحرب إلى ما تعرفه اليوم من رفاه، ويوضح أسباب الملامح المتمايزة بين بلدان الاتحاد الأوروبي اليوم. ويذكر كاتبه أن ما جعله يعقد العزم على الشروع في تسويده كان تأثرَه الشديد بتحقيق كتّابِ مسرحيات ومؤرخين أعضاء في "المنتدى المدني" في براغ بقيادة فاتسلاف هافل، في كانون الأول/ ديسمبر 1989، إنجازًا هائلًا تمثل بإسقاط دولة بوليسية شيوعية حكمت 40 عامًا بما سمي "الاشتراكية الحقيقية" ورميها في مزبلة التاريخ، قبل أسابيع من حدث فاق الأول بأهميته هو هدم جدار برلين، الذي حسر الأنظمة القديمة المطلقة القوة في أوروبا الشرقية واحدًا تلو الآخر وأفقدها صلتها بالواقع، فدعا الحزبُ الشيوعي الليتواني إلى "الاستقلال الفوري" عن الاتحاد السوفياتي، وبثت الإذاعة النمساوية من سيارة أجرة التقارير الأولى عن انتفاضة الرومانيين ضد دكتاتورية نيكولاي تشاوشيسكو، فكأن زلزالًا حطم الفسيفساء الأوروبية المتجمدة لأوروبا بعد الحرب لتبدأ عملية تجميع فسيفساء أوروبا أخرى جديدة باتت معها الحرب الباردة، وشقاق الشرق والغرب، والسباق بين "الشيوعية" و"الرأسمالية" وغيرها، عبارات لا تُفهَم بوصفها نتاجًا للضرورة الأيديولوجية أو المنطق الحديدي في السياسة، بل بوصفها نتائج عرضية للتاريخ نُحِّيت جانبًا. أما بعد عام 1989 فسيبدو مستقبل أوروبا مختلفًا للغاية، وسيُنظر إلى السنوات في الفترة 1945-1989 لا بوصفها عتبة لحقبة جديدة، بل مرحلة مؤقتة للنزاع الذي انتهى في عام 1945.
ومع تراجع فيينا ما بين الحربين العالميتين من عاصمة عالمية لإمبراطورية مجيدة إلى عاصمة دولة ضعيفة، جرى نسيان ولائها للنازية وباتت رائدةَ العالم الحر وأنموذجًا له، وصارت في سنوات أفول الشيوعية مركزًا لحرية الكلمة، ومكانًا لتلاقي الأوروبيين الشرقيين الفارين إلى الغرب، والغربيين الذين يبنون جسورًا مع الشرق، وتحولت في عام 1989 إلى ساحة للتفكير، وعاصمة مرفهة غنية لا بطالة فيها، تتمتع بأمن خارجي تضمنه المظلة النووية الغربية، لكنها كانت أكثر صمتًا بشأن بعض أهلها من اليهود الذين ساهم العنف الشديد في خروجهم منها نحو الشرق ومسحهم من ذاكرتها.