23-11-2023 05:29 PM
سرايا - "من عكا إلى تكساس: مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي (1861-1925)"، كتاب ضخم صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بتحقيق وتهميش الباحث تيسير خلف، ويحتوي على مقدمة يليها عشرون فصلًا وخمسة عشر ملحقًا تتمحور جميعها حول مذكرات مسيحي فلسطيني مخضرم، عايش الفترتين السلطانية والتنظيمات، ويتناول فيها نُبذًا من حياة عائلته وحياته الشخصية ونجاحاته وهجرته، وظروف السلطنة خلال الفترة الانتقالية وحياة المسيحيين فيها، متطرقًا إلى هجرته وظروفها، وإلى هموم العيش في أميركا، وإلى بعض الحديث في السياسة، والجمعيات، والقوانين الانتقالية، والعلاقات العربية - العثمانية.
رحلة المحقق مع مخطوط المذكرات
تعرَّف محقق وواضع حواشي الكتاب الذي يقع في 248 صفحة، تيسير خلف، إلى مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي أثناء بحثه عن مصادر لروايته عصافير داروين، أما المؤرخ الأردني رؤوف أبو جابر، فكان نشر صورة عن هذه المذكرات في كتابه آل الصيقلي: انتماء أصيل في شمال فلسطين، وذكر أنه اعتمد عليها في الكثير من تفاصيل كتابه، متبنّيًا فرضية الأصل الروسي لعائلة سيقلي، وهي باعتقاد خلف غير صحيحة، مبيِّنًا ذلك في دراسة مخطوط هذه المذكرات، الذي أشار إلى نقل قسطنطين هذه المعلومة عن حبيب بن خليل سيقلي أحد أقربائه.
حصل خلف على صورة أكثر وضوحًا للمذكرات من أبو جابر، الذي كان حصل عليها من صديقه ميشيل سليمان سيقلي، فوجد خلف فيها حين بدأ تحقيقها علميًّا معلومات بالغة الأهمية عن أحوال الجليل الفلسطيني وولاية سوريا العثمانية، نقلها بَنان شخص عالي الثقافة درس الطب وساهم في العمل الأهلي الجمعياتي. وقد روى قسطنطين في مذكراته قصة أول فرقة مسرحية في فلسطين، وعدد المسرحيات التي مثلتها وأسماءها بين عامَي 1880 و1883، ومعلومات مهمة عن ظروف الهجرة العربية المسيحية إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتفاصيل مسهبة من النادر إيجادها في مذكرات مهاجر عربي من ذلك الزمن.
كتب قسطنطين مذكراته بين عامي 1926 و1928 بلغة عربية فصيحة تنتمي إلى طرائق الإنشاء السائدة وقتذاك، ولذلك يمتلئ نصها بصياغات تركيبية وإملائية لم تعد مستخدمة في لغتنا المعاصرة، فحافظ المحقق على صياغات قسطنطين إلى حد بعيد، كاستعماله لغة التسهيل عوضَ الهَمز (الرياسة، الرايق، فايقة ... إلخ)، وبعض الألفاظ العامية، مثل: عوينات، الفاردة، شختورة، وعلى كلمات بصبغتها التاريخية، مثل: غرش، فرنساوية وغيرهما، شارحًا بعضها، لا سيّما العثمانية منها، ومصوّبًا بعض الأخطاء الإملائية والنحوية الناتجة من سرعة الكتابة، كما أضاف بعض أدوات الربط الساقطة للتوضيح حين بدت الجمل مبتورة، واضعًا كل إضافةٍ بين معقوفتين، ومشيرًا إلى ما حذفه مما وجد أن لا ضرورة له بنقاط، محافظًا على النص كما هو في ما دون ذلك، ومستعملًا طرائق الإنشاء والتعبير السائدة في زمنه، ومنها لغة الحكاية المعتمدة لدى قسطنطين.
كانت مصادر قسطنطين في كتابة مذكراته ذاكرته وما سمعه من والده، ولذلك لم يكن قادرًا على تعيين بعض التواريخ التي لم تسعفه بها ذاكرته، فاستدرك المحقق بعض هذا، متحقِّقًا من بعض ما شكك قسطنطين في حدوثه وفي نسبته وتاريخه استنادًا إلى وثائق وكتب وصحف موثوقة، وحقّق في الهوامش كثيرًا من الأماكن والشخصيات التاريخية التي وردت في المخطوط، ثم أتبَع المذكرات بنوعين من الملاحق: الأول للتقارير ومقالات الصحف حينها، والثاني لوثائق عثمانية بنسختها الأصلية تتبَعُها ترجمات للمحقق.
وقد لاحظ خلف أن قسطنطين لم يعتمد التسلسل الزمني في كتابة مذكراته، بل قسَّمها أجزاءً ذات أرقام تسلسلية وتحت معظمها عنوانٌ رئيس ثم عناوين فرعية، فحوَّلها إلى فصول بعنوان رئيس لكل منها، ما عدا الفصل الثاني، الذي أضاف إليه عنوانًا كان قسطنطين قد ترك ذكره.
الجليل الفلسطيني أواخر العصر العثماني
حازت عائلة قسطنطين سيقلي المسيحية ملكيات متوسطةً وبعض الثروة إثر تطبيق قانون الأراضي العثماني خلال مرحلة التنظيمات العثمانية، وإصدار السلطان العثماني "خط شريف گلخانه" في عام 1839 و"خط همايوني" في عام 1856، اللذين كان مما تضمّناه المساواة بين الرعايا، مسلمين ومسيحيين، وصيانة حياتهم وممتلكاتهم، وتصحيح طريقة توزيع الضرائب وجبايتها، وتحديد أمد الجندية وإجراء المحاكمات علنًا. وبعد هجرة والده أسعد سيقلي من الناصرة إلى حيفا بعد خروج قوات إبراهيم باشا نهائيًّا من سوريا عام 1841، عمل في مينائها بتجارة الحبوب، قبل أن ينتقل بعد عام 1865 إلى عكا، التي كان مرفؤها في ذلك الوقت منفذًا تجاريًّا لبلاد حوران وما جاورها في الداخل، فتوسعت تجارته، وراكم رأسَ مالٍ معتبَرًا، واشترى أراضيَ واسعة، منها إحدى دور والي عكا السابق عبد الله باشا، كما أصبح ملتزمًا لتجارة التجزئة، ولضرائب الأسماك المفروضة على الصيادين، فأصبح من أصحاب الشأن في الجليل ومن أبرز الوجوه الأرثوذكسية فيها.
بعد موت أسعد سرعان ما تدهورت القدرة المالية للعائلة وبدأ نجمها في الأفول، ليس بسبب موت الوالد فحسب، بل لعوامل أخرى ذكرها قسطنطين، منها تراجع مكانة عكا التجارية بسبب ربط خط حديد حيفا بجنين والشام، الأمر الذي قلّص صادرات عكا وواردتها وجعل مكانة حيفا تعلو على مكانتها، لعوامل ثلاثة ذكرتها الباحثة مي إبراهيم صيقلي في كتابها حيفا العربية، وهي: مؤسسات التعليم المسيحية، والاستيطان المديني الألماني، ومد سكة حديد الحجاز، ولعل هناك عامل رابع لم تذكره صيقلي، وهو عدم حفاظ الأولاد على مكتسبات الوالد وتنميتها، وخصوصًا الشقيق الأكبر، الذي استأثر بثروة الوالد ثم بذّرها.