23-11-2023 05:58 PM
سرايا - لا شك أن استعادة قصائد الشاعرة السورية دعد حداد (1937-1991) يعتبر نوعاً من إعادة الاعتبار، والاهتمام بقراءة أشعارها على ضوء المرحلة السياسية والتاريخية التي تمر بها سوريا. لكن قراءة الأعمال الشعرية الكاملة، المكونة من أربعة دواوين، تبين للقارئ أيضاً أهمية ومركزية حضور موضوعة الموسيقا في قصائد الشاعرة. لذلك، يقدم هذا النص قراءة لموضوعات النبوءة السياسية في تلك القصائد، ولتنويعات حضور محور وموضوعة الموسيقا فيها.
النبوءة الشعرية في الموضوعات السياسية والاجتماعية
يرى العديد من النقاد أن الشاعرة دعد حداد التي غادرت الحياة في التسعينيات من القرن الماضي، استشرفت عبر قصائدها التجربة السياسية والاجتماعية والعنفية التي ستعايشها سوريا في السنوات اللاحقة لوفاتها. يكتب (المثنى الشيخ عطية): "تتميز هذه الشاعرة في أنها الأكثر رؤية وتنبؤاً بين شعراء جيلها، بما تشق قصائدها من حجب الحاضر الخانق، لتجعلنا نطل على مستقبل الدمار المهول الذي شهدناه فعلاً بعد أعوامٍ من انطفاء عيون الشاعرة الرائية. هذا جلي في معظم قصائد مجموعتيها الأولين المكتوبتين عام 1976، وعام 1986".
أما الناقد (مازن أكثم سليمان) فيقول: "ليس من باب المبالغة القول إن دعداً وعدداً من الشعراء السوريين قد تلمسوا منذ تلك الفترة المستقبل العنفي المقبل، ولا أضع ذلك في إطار النبوءات الشعرية، إنما ربطاً بالمستويات الاجتماعية والسياسية الوقائعية التي خاضوا غمارها، ولا سيما في فترة الصراع الدموي في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، وهو الملف الذي لم يغلق بتاتاً في يومٍ من الأيام، فضلاً عن أن أي قراءة متأنية لمآلات الأمور كانت ستفضي إلى توقع انفجارٍ مجتمعي مقبل إن لم يكن بهيئة ثورة، فبأي هيئة أخرى".
ولذلك، يمكن استعراض مجموعة من الموضوعات التي تناولتها قصائد الشاعرة في تلك الفترة، وتلمس التقاطعات بينها وبين الموضوعات التي برزت في الشعر والفن السوري منذ العام 2011، ومنها: الدعوة إلى الثورة، والتغني بالحرية، وتجربة القمع والاعتقال، والعنف والحرب، والموت والمنفى.
منذ ديوانها الأول (تصحيح خطأ الموت، 1981)، وفي قصيدة (قصة الحارس الليلي) يحضر الرصاص الطائش، الحزن المتدلي، والسقوف المتفجرة، في تورية شعرية عن متوالية العنف، الفقدان، والمدن المدمرة التي ستعرفها سوريا بعد العام 2011: "لو أتت رصاصة طائشة، فجأة من نافذة قريبة، فهي لا تصيبني إطلاقاً، ففي هذه الحال، لن يكون الحارس الليلي موجوداً، بل الحزن المتدلي، من كل السقوف المتفجرة". وتقارب قصيدة (القبو) مقدار العنف الذي شهدته الطفولة في سوريا، بما يذكر بلوحات الفن التشكيلي في التعبير عن مجازر الطفولة في البلاد: "الأطفال في الشرفات يقفزون، الأول يصعد، الآخر يهبط، ثمة طفل لا يصعد، يهبط يهبط".
تدخل الموسيقا للمرة الأولى، بتأويل نادراً ما ستظهر فيه في قصائد الشاعرة لاحقاً مع قصيدة (استعدوا أدوات التحنيط جاهزة)، فالموسيقا هنا تعلن بوحشية بدء الجريمة، بدء السلخ، ولكن بالمقابل هناك نضال الفلاحين لصرخة مشتركة يدفعون ضحيتها شهيداً:
"إنذار، أخلوا هذه الدار، إيقاع وطبول موسيقا وحشية، قبل البدء بلحظة، لحظة سلخ. بيتٌ وشجر، ابتدأ الفلاحون سعيهم الجاد، لصرخة مشتركة، وهم يعبرون النهر، تحت أقدامهم انهدم الجسرُ، وارتفعو كتلة واحدة، وصراخاً واحداً، وأوقفوا شهيداً واحداً".
لكن مع قصيدة (أعري انتباهك) تأخذ الموسيقا بعدها الجمالي الأخاذ في تأثيره، فالشاعرة تطلب من العصفور ألا يسحرها بجاذبية الغناء بينما يترتب عليها اليوم أن تنقذ طفولة من مصيدة: "لا تغني كثيراً أيها العصفور، أخاف أن يسرقني الوقت، ولدي ما أنجزه اليوم، الطفل في المصيدة". وتربط فقرات تالية في القصيدة بين الغناء والحرية: "صفق بجناحيك الوديعتين، فوق الأغصان المخضرة الرقيقة، أنت عصفور صلب حقيقة، مازلت تغني بعذوبة وحرية، والطفل في المصيدة، أعرني انتباهك".
أما القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها (تصحيح خطأ الموت) فتحضر فيها الموسيقا باعتبارها الخلاص المرجو لكن غير المتحقق. تروي القصيدة حكاية امرأة تحاول النجاة من شروط الوجود عبر اللجوء إلى الموسيقا، وفي حالة من الوحدة والعزلة تكون الموسيقا رجاء الخلاص:
"رفعت يدها السمراء من الكم الأسود، وضعت نقوداً في علبة الموسيقا، لكن الموسيقا لم تأت، هزتها قليلاً شجرة الموسيقا الزئبقية، تتوسل مرة ثانية بنقود، كي تسير الآلة، كي تصدح الموسيقا والسعادة؟ وحيدة هي هذه اللحظة، أكثر من أي وقت، والموسيقا لا تأتي".
وتلجأ الشاعرة إلى استعارة السلالم الموسيقية للتعبير عن الحب: "الغيرة في شباباك الصبايا كالورد، منقوشة على المزهريات والأثواب والشالات، الحب مسودة ممزقة، وسلالم موسيقية".
وتعود موضوعات النبوءة السياسية والاجتماعية لتظهر في قصيدة (قمر وربيع أطفال) حيث تصف القصيدة ما يرتسم باعتباره تجربة اعتقال، تجربة مرور القمر فوق صوت الرصاص: "يعبر القمر بهدوء كالعادة، دون أن يوقفه صوت الرصاص، ثلاثون إصبعاً تتراخى، والكوة أشد ظلاماً، من الجدار المسود". أما في الديوان الثاني (كسرة خبز تكفيني،1987)، فتظهر الحرية كصرخة جوع صادحة من كتاب، في قصيدة (وفتح الكتاب فمه): "يفتح الكتاب فمه وحيداً، وجائعاً للحرية"، بينما تبدو قصيدة (افتحوا) كتجسيد لجدلية التعبير والقمع، فالتوابيت الفكرية تفرض نفسها على المشهد، قامعة الصوت المخنوق والأيدي المرتجفة: "في الثالثة صباحاً، افتحوا الأبواب، ها هي التوابيت الفكرية، جاهزة ومعدة للدفن، ها هي الأيدي المرتجفة، ها هو الصوت المخنوق". وتظهر من جديد نبوءة في التجربة السياسية والاجتماعية السورية المتعلقة بالنزوح والهجرة عبر قوارب الموت، وذلك في قصيدة (احذفوني زورقاً في البحر) حيث يتحول الزورق نعش أزرق، ويتحول الإنطلاق نحو البحر إلى جنون مشحون بالموسيقا: "ها هو النعش الأزرق الوحيد، ها هو الثوب الوحيد، احذفوني زورقاً في البحر، عباءة في هذه الصحراء الزرقاء، هذا التلون في النفس الإنسانية، هذا الجنون المشحون، وآه تضيفوا الموسيقا؟".