02-01-2024 12:34 PM
بقلم : الدكتورة جمانة مفيد السّالم
هل ألِفنا عبارة (كل عام وأنتم بخير) لدرجة أنّنا لم نَعُد نعرف معناها، أو ندرك دلالاتها؟!
احتفالًا بانتهاء عام وببدء عام جديد على مستوى الأعوام أو الأعمار، وحتى في بعض المناسبات والأعياد، نتبادل هذه العبارة المشهورة، دون أن نعرف دلالاتها، أو ندرك عمق معناها، ولعل شيئًا من ذلك يحدث حين نتعرف دلالة كلمة (خير) نفسها؛ لنفهم كُنْهَ ذلك الشيء الذي نرجوه لأنفسنا ولبعضنا باستمرار.
جاء في معاجم اللغة أن (الخيْر) ضد (الشرّ) الذي يعني السوء والفساد، وأنّ الخِيار: خلاف الأشرار، جمعه (خُيور)، وهو يتمثل في الشيء الحَسَن لذاته، ولما يحقّقه من لذة، أو نفع، أو سعادة. ونشتق من الجذر اللغوي (خَير) كلمات عديدة تحمل الدلالات نفسها، فنقول: تخَيَّر الشيءَ: اخْتارَه، وخارَ الشيءَ واخْتارَه: انتقاه، واسْتخارَ اللهَ: طلب منه الخِيَرَةَ، ويُقال: اسْتَخِرِ اللهَ يَخِرْ لَكَ، والخِيَرَة والخِيرَة الاسم مِن قولك: خارَ الله لكَ في هذا الأَمر، ومن ذلك قولنا: الخِيرَة فيما اختاره الله، ومنه دعاء الاستخارة: اللَّهمَّ خِرْ لي، أَي: اختَرْ لي أَصْلَح الأمرين، واجعل لي فيه الخِيرَة. والاخْتِيار، والتّخيّر:" الاصْطفاء، وخَيّر بين الأشياء: فضّل بعضها على بعض، وخيّر الشيء على غيره: فضّله عليه، فإن أردت التفضيل قلت: فلان خيْر الناس، ورجل خيِّر تعني: فاضِل في صلاحه، والخَيْرَة من النساء: الكريمة النسب، الشريفة الحسب، الحسنة الخُلُق، ومن معاني الخِيرُ بالكسر: الكَرَم، والشرف، والأصل.
يتّضح في دلالات (الخير) بعامّة ميلٌ إلى ما فيه نفع، وفضل، وصلاح، وفي تمنّيه للآخرين عند قولنا: (كلّ عام وأنتم بخير)، دلالات عميقة عظيمة، نُنْعِم فيها النظر فنجدها محمولة بمشاعر المحبّة، والوفاء، والعرفان، والإخلاص، والإيثار، والتراحم، والتقدير، وغيرها من القيم الإيجابية التي تسهم في بناء العلاقات الإنسانية السويّة، وفي بناء المجتمعات القوية.
أمس، انتابني إحساس بالضيق وأنا أسمع أو أقول عبارة (كل عام وأنتم بخير)؛ فكيف يتفق هذا مع ما يعتمل في النفوس من مشاعر الحزن والأسى بسبب ما يحدث في غ ز ة العزّة؟! وكيف تنسجم تلك الأمنية الغالية لمن نحب مع إحساس بالألم يعتصر قلوبنا ونحن نرقب صورًا عظيمة جليلة مؤثرة من صور فقد الأحبة؟! وكيف للخير أن يعُمّ حياتنا ولنا أهل وأحبة فقدوا الإحساس بالأمن وبالأمان، وبالطمأنينة وبالسلام في أرض ما خلقت إلا للسلام؟! وكيف للخير أن يحتوينا ونحن نرى بأمّ أعيننا ركام بيوت ودور لطالما احتضنت قصصًا وحكايات لأفراد أسر كانوا يعيشون – رغم تضييق الاحتلال، وظروف الحصار- بخير عميم، فرضه عليهم إيمانهم بقضيتهم، وغَرَسه في نفوسهم حبهم لوطنهم، وجبلتهم عليه عقيدة التعلّق بالأرض، ومكّنه في قلوبهم قبل عقولهم رضا بقضاء الله، وتسليم واستسلام لأقداره؟! ومع ذلك فالأكيد أن الخير سيظلّ ماثلًا فيهم: مجاهدين، مناضلين، صامدين، مرابطين، مضحّين بأرواحهم وبأرواح أرواحهم، مردّدين: (معلش) كلّه فدا فلـ سط ين، نرى في عطائهم منقطع النظير معاني الخير الواردة في قول النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم:" لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ الله"، وفي رواية: وهُمْ كَذلكَ.
وبعد، فعلى أعتاب عام جديد يعقُب عامًا لم يكن في أعوام حياتنا كأيّ عام، صرنا نلتمس خيرًا في قلوب كثيرين، صقلت أحداث غ ز ة نفوسهم، وغيّرت طريقة تفكيرهم، وشحذت هممهم نحو السعي لتحقيق المستحيل، بدّلت تلك الأحداث اهتماماتهم، وأعادت ترتيب أولوياتهم، يشيحون بوجوههم أحيانًا عن بعض الصور القاسية الحسّاسة التي تُطالعنا بها شاشات التلفزة، والأجهزة الإلكترونية، لكنّ المعاني المختبئةَ وراء تلك الصور تظلّ حاضرة في قلوبهم وعقولهم، تخيّم على حاضرهم، ويرتكز عليها مستقبلهم، ممتلئين يقينًا بأن ربّ الخير لا يأتي إلا بالخير، ومدركين معنى أن نكون بخير في كل عام، بل في كل حين.