08-01-2024 12:08 PM
سرايا - منى غالية خير الدين - دعوني بداية أن أوضّح لكم ماهو الفرق بين مسرح الدمية و مسرح الماريونييت فالأول يختبئ فيه المخرج تحت الطاولة أو وراء الخشبة و يمسك بالدمى بيديه و يحركها مع التكلم بأصوات مختلفة في حين يقف الفنان في النوع الثاني وراء الخشبة و يحركها من فوق بخيوط متصلة بأجزائها المختلفة.
تمثل إسرائيل الحالة الأولى لأنها اُنشئت على الخفاء بدرجة أولى و لا يمكن وصفها بالماريونييت لأنها صانعة القرار في معظم الحالات.
فهذا الإنشاء الذي جرى في مايو سنة 1948 جاء تتويجا لمشروع صهيوني سرّي دام لمدّة قرن و إنّ مجموعة ما اصطنعت لنفسها بعض مقوّمات الدولة كالاسم و العلم و النشيد الرسمي لا يمكن لها فعليا أن تفوز بلقب دولة إذا لم يخلقها التاريخ و إذا لم تنبثق عن ظروف جغراسياسيّة بشكل عفوي.
و إذا ما نظرنا على سبيل الذكر لا الحصر لدول البلطيق الثلاث و هي إستونيا و لاتفيا و ليتوانيا التي أعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي خلال سنة 1990 نجد أنها دول حديثة جدّا بالمقارنة مع إسرائيل و لكن أحدًا لم يعلّق على وجودها أو يشكّك في قانونيّة قيامها و استقلالها كَدول لأنها ببساطة موجودة من البداية و لو لم تكن موجودة قبل الاتحاد السوفياتي فإنها ببساطة تمخضت عن ظروف حيّة و عفويّة للمُجريات السياسية و للجغرافيا في تلك المدّة.
فالحرب الباردة و من بعدها بداية انهيار الاتحاد السوفياتي لم يتمّا بصفة متعمَّدة و مع سبق الإصرار من أجل قيام هذه الدّول على سبيل المثال الأمر الذي لم يحدث مع إسرائيل على الإطلاق، لا الظروف التاريخية و لا المجريات الجيوسياسية هي التي ساهمت في إنشائها بل إنّها صُنِعت في شكل جهاز دمية.
و بعيدا عن العاطفة التي دائما ما تشدّ الإنسان لقوميّته في مواجهة كل القوميّات الأخرى عندما يشعر بالتهديد أو التجاوز، و إذا ما تجرّدنا من المشاعر العربية وتناولنا الوضعيّة الإسرائيلية تناولا موضوعيا لا يخلو من منطق فيجب ألا ننسى ما قاله ابن خلدون عن الدولة و هي " كائن حي له طبيعته الخاصة به، و يحكمها قانون السببية، و هي مؤسسة بشرية طبيعية و ضرورية و هي أيضا وحدة سياسيّة و اجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاّ بها".
و من الواضح أن هذه المعايير لا تنطبق أبدًا على إسرائيل و لو أنّ اليهود في ذلك الوقت اختاروا لأنفسهم مجموعة من الحارات و الأحياء -كما تعوّدوا دائما- ليستقرّوا بها بفلسطين )الجيتو) دون محاولتهم إنشاء دولة و مارسوا فيها نشاطاتهم الاقتصادية كمواطنين أجانب لكان أسلم لهم لأنّ أرض فلسطين لا يمكن أن تعود لهم.
هذه الحالة الإسرائيلية حالة كرتونية من حيث التأسيس فقد تمّ صنعها بمعزل عن أي حدث تاريخي يمكن أن يؤدّي بصفة عفويّة لقيامها.
و هنا يجدر التوقّف عند مُعطى الدولة الكرتونية و التي تعني عموما الدولة التي تسيطر المصلحة الخاصة على ساستها و ليس لها أسس ثابتة تحقّق لها الاستقرار و يطلق عليها أيضا الدولة الورقيّة و بالنّسبة لإسرائيل فإنّ كرتونيّتها تتمثّل في التّأسيس و النّشأة لا في الإدارة.
فالساسة الاسرائيليّون سعوا منذ التأسيس إلى أن يطبّقوا قيم الديمقراطية على المستوى الدّاخلي لإسرائيل و لكن هذا لا ينفي أبدًا أنّه كيان كرتوني التّأسيس لا صحّة لوجوده و لا أساس لقيامه.
و لا يمكن لجهاز الدّمية أن يتحرّك دون يد "الشقيقة الكبرى" كما يطلق عليها اليهود و هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي ضخت فيها كل ما يلزم من شحن مادي و معنوي ليبدو الجهاز طبيعيا حقيقيا و سعت لتحويله من جهاز دمية كرتوني التأسيس قائم على التجارة و الهاغانا إلى جهاز معنوي معترف به كَدولة.
عندما كانت جولدا مائير الشخصية الصهيونية صاحبة الدور المهم في نشأة إسرائيل تتأهب لتولي منصب سفيرة إسرائيل في روسيا برتبة وزير مفوّض سنة 1948 كانت تشعر بالأسف و الألم لعدم وجود زي وطني لليهود كما أحسّت بغيرة تجاه المرأة الدّيبلوماسية الوحيدة حينها بروسيا و هي السيدة بانديت التي كانت على حد تعبيرها تلبس الساري في كل الحفلات و المناسبات .
ليس هذا فقط بل إنّ جولدا مائير عانت مشقّة كبيرة خلال مراحل تدريب العمال اليهود المهاجرين حديثا لإسرائيل سنة 1951 على مختلف الأعمال و قد تمثّلت المشكلة في أن هؤلاء العمال كانوا مختلفين على جميع المستويات في الطباع و اللغة و العادات مما جعل "المشكلة الملحّة هي كيفيّة صهر هذا الشّعب" كما قالت هي و قد اضطرها هذا الاختلاف الشاسع لتقسيمهم لمجموعات من عشرة أشخاص و إيكال مهمة تدريبهم لعامل ماهر و كما جاء على لسانها "..ثم نتركه يحل مشاكل الأفراد العشرة الذين يتحدثون عشر لغات…"
كما ذكرت بأنّ "المصاعب الحقيقيّة" كانت مع اليهود اليمنيين الذين يمثّلون جزءا من اليهود الشرقيّين كما يطلقون عليهم السفارديم الذين لم يكونوا على دراية باستخدام الحمام و المطبخ و الدش.
إنّ هذه الاعترافات التي جاءت على لسان شخصيّة يهوديّة من أعمدة الحركة الصهيونية المؤسِّسة لإسرائيل تمثّل مؤشرات عميقة الوضوح على أنّ إسرائيل لطالما كانت الجهاز الدمية وسط كيانات معنويّة حقيقية و قانونيّة حولها تمثّلت في دول الجوار، إنّها جهاز دمية ليس له أي سند ثقافي أو حضاري و أساسه الدّيني غير كاف ليعطيه لقب دولة و معظم الشخصيّات اليهوديّة الذين ساهموا في تأسيس إسرائيل قدّموا اعترافات صادمة بهذا الشأن فهم يعلمون أنّهم دخلاء على فلسطين و حجّتهم الوحيدة هي أرض الميعاد و هذه نقطة محلّ نقاش بالطبع.
لم يكن المُعطى التاريخي الداحض الوحيد لعدم قانونية قيام إسرائيل كدولة و إنما العِلم أيضا، و جزء ممّا أثبته العلم ما جاء به جميع علماء الآثار الذين أوكلت لهم مهمة البحث عن هيكل سليمان طيلة ستينات القرن الثامن عشر و خلال القرن العشرين و خاصة فترة العشرينات و الثلاثينات الذين أكدوا عدم وجود هذا الهيكل تحت المسجد الأقصى.
و بداية من الصندوق البريطاني لاكتشاف آثار فلسطين وصولا إلى مختلف البعثات الأثرية الأخرى و آخرها سنة 1968 بقيادة البريطانية الدكتورة كاتلين كابينوس قدّموا إقرارات بعدم صحّة وجود هيكل سليمان أو أي بقايا أو آثار له في الرقعة الجغرافيّة التي يوجد عليها المسجد الأقصى و التي تحيط به و استندوا في ذلك إلى جانب نتائج التنقيب إلى المساحة و طبيعة الأرض التي يستحيل على إثرها وجود الهيكل .
لا يمكن أن تتحوّل الدّمية إلى حالة طبيعية حية كما لا يمكن لكيان لم يُنتجه التاريخ أن يكون دولة ملموسة، إنّ إسرائيل لَكيان دمية بامتياز.
يقودنا هذا إلى القول بأنّ على الذاكرة العربية ألا تمثّل ذاكرة السمك و حتّى لو اقتضت الظروف أو الظغوطات أن يتغاضى صانعو القرار العرب عن بعض الحقائق في زمن السّلم فإنّ هذا التّغاضي لا يجب أن يتحوّل إلى نسيان كما لا يجب أن تؤثّر السياسة الخارجيّة للدّول على المعجم العام للشّعوب العربيّة وللأجيال الناشئة.
منى غالية خير الدين
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
08-01-2024 12:08 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |