21-01-2024 08:28 AM
سرايا - في الافتتاحية التي كتبها يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لمدونته الشخصية على الإنترنت، سخر المفكر الإيطالي فرانكو كارديني (مواليد عام 1940) من الصحفيين الإيطاليين الذين شحذوا أقلامهم منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة "لإقناع جمهور يعوزه الفكر النقدي بأن حماس تمثل "الشر" في هذا العالم".
"هذه ليست سوى دعاية"، يقول المؤرخ الإيطالي المختص بالعصور الوسطى والذي لاحظ في كتابه الصادر في سبتمبر/أيلول الماضي "تهافت الغرب" (منشورات لاتيرزا، 2023) كيف أن العالم الغربي لم يتجاوز فكرة "الشر المطلق" وشيطنة العدو على طريقة المجتمعات القروسطية (العصور الوسطى)، على الرغم مما أسماه "وَهْمَ علمنة الشعوب الأوروبية".
ويُحاجج كارديني الخبير في تاريخ الحروب الصليبية بأن الغرب صنع له شياطين كثيرة في تاريخه المعاصر بداية من النازية التي شكلت بتعريف ريغان "الشر المطلق"، لتأتي بعدها "إمبراطورية الشر" ممثلة في الاتحاد السوفياتي، ثم "أصل الشرور" الإسلام، "ليتم تعويض هؤلاء اليوم بـ(الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين"، يقول في كتابه بنبرة ساخرة.
ويوضح فرانكو كارديني، في إصداره المكثف الواقع في 170 صفحة، أن مفهوم العدو الأكبر أو العدو المطلق بالمعنى الوجودي هو مفهوم راسخ في "الديانات الإبراهيمية المؤمنة بالإله الواحد" وما يقابله كخصم في الديانة المسيحية "الشيطان"، واستحضر المؤرخ الإيطالي البارز المفكرة الأميركية (من أصل ألماني) حنة آرنت التي نظّرت لفكرة لجوء الأنظمة التوتاليتارية لتكريس سلطتها عن طريق اختراع عدو تقدمه باعتباره المسؤول الأول والأخير عن كل الشرور، ليشير كارديني إلى أن الأمر لا يقتصر على ما تعرف تاريخيا بالأنظمة الشمولية فحسب، "بل العكس، فإن الليبرالية الغربية أو ما يُعتقد أنها الأيديولوجية الأكثر ديمقراطية من بين كل الأيديولوجيات في القرن العشرين والواحد والعشرين، قادرة على إنتاج شكل جديد من الفكر الشمولي، يظهر كملمح للفكر الأحادي".
ويواصل كارديني مؤكدا أن "الليبرالية نفسها يمكن اعتبارها ضربا من ضروب التوتاليتارية".
كارديني لم يتوقف عند مثال شيطنة الغرب أعداءه كدليل على عقم الفكر الحداثي والمؤسسات الدولية التي أنتجها وأثبتت عجزها الكلي أمام المجازر التي ترتكبها إسرائيل كل يوم بحق الفلسطينيين، بل عبّر صاحب "الارتحال من إيطاليا إلى القدس" عن موقفه من العدوان الإسرائيلي على غزة في افتتاحية مدوّنته بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بدعوة نتنياهو لتدبر آياتٍ من سفر التكوين، متسائلا "هل رئيس الوزاء الإسرائيلي قادر على فهمها، أم إنه يعتقد بأنه أشد جبروتا من الرب؟".
اللافت هنا أن كارديني لم يستدعِ لا "الديمقراطية" ولا "حقوق الانسان" في التعبير عن موقفه من المقتلة اليومية الجارية في فلسطين، بل استحضر الكتاب المقدس حصرا والقصص الإنجيلي.
وهكذا نجده في افتتاحية مدونته بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي والتي عنونها بـ"يا ربّ، يا منتقم، لا تنسى"، يؤكد أن "ثمة مذبحة متواصلة لا تَظهر أي بوادر عن قرب انتهائها، ومعها تتواصل عمليات تسترِ وسائل الإعلام على المجازر، والتقليل من شأنها، والنظر في الاتجاه الآخر، ولعب سياسة دس النعامة رأسها في التراب. يطلقون عليها اسم الحرب بين إسرائيل وحماس، لكنها الحرب التي أودت بحياة أزيد من 20 ألفت من الأبرياء، بما في ذلك عدد مهول من الأطفال".
كارديني الذي تضرع لله من أجل نصرة الأبرياء في غزة، لا يبدو أنه يؤمن بجدوى مناشدة مؤسسات النظام الدولي أو استحضار معجمها، بل ذهب في كتابه الصادر حديثا إلى نقد جذور الفكر الحداثي الذي ابتذر فكرة "إرادة القوة" ومنها فرض "الغرب" هيمنته على العالم بأسره، ذلك بأن الغربي -بحسب كارديني- مقتنع بأن قيمه هي بالضرورة قيم كونية، في حين أن "الأمر لا يتعلق سوى بحلم السعادة الأميركي الذي حوّله إلى حق".
ويضع كارديني في مقدمة كتابه الأصبع على أعطاب الفكر الحداثي منذ النشأة، مؤكدا أن "إرادة القوة هي ما يشرّع للرُّكنين اللذين تقوم عليهما الحداثة: المساواة والعدالة، ركنان للأسف ليسا سوى حصانين يركض كل واحد منهما باتجاه معاكس، وهكذا فكلما زادت المساواة قلت نسبة الحرية، وكلما زادت الحرية ضعفت المساواة".
ومن أجل خلق توازن بين الطرفين لا بد من ركن ثالث يتوسطهما، بحسب المؤرخ الإيطالي، "وهنا تقترح الثورة الفرنسية بكل إنسانية وطوباوية الإخاء". ويتابع كارديني "ولكن ما يبدو هو أن الإخاء لا يصمد إن لم يأتِ مدعما بتبرير ميتافيزيقي ومتجاوز للتاريخ، أي ذي مصدر إلهي".
وهنا يقف كارديني عند المفارقة الأبرز في الفكر الحداثي وهي أن "مسار العلمنة اللصيق بمفهوم الحداثة كان هو نفسه ما حيّد أي إمكانية لتقديم أي تبرير معقول من هذا النوع". لتحل إرادة القوة محل الإخاء وتصبح الرغبة في الهيمنة هي المفهوم الأصيل المرافق للحداثة التي جلبت الاستعمار، وهو ما يقول كارديني إنه قد لا تكفينا آلاف المجلدات لتعداد فظائعه ومعه فظاعات الاستعمار الاقتصادي والنيوكولونيالية التي تتعامى عنها اليوم مؤسسات النظام الدولي.
كارديني لا يكتفي بنقد الأسس الفلسفية للحداثة، بل يشكك أيضا في أدواتها الإبستيمولوجية (المعرفية)، ويذكرنا كمختص في التاريخ بمقولة المؤرخ الأميركي ديفيد لاندس التي يدعونا من خلالها لكتابة التاريخ مع إرفاق كل الأفعال بحرف "قد"، الذي "يفيد التشكيك".
وهنا يتوسع كارديني في أطروحة "التاريخ الذي يكتبه المنتصرون" ليصل إلى أن التاريخ في أوروبا ومنذ بدايات العصر الحديث أصبح عبارة عن سلعة يدفع ثمنها الممولون، فالتأريخ مهنة" -يقول كارديني- "ومن يمارسها يحتاج لكسب قوته، وهي بذلك تستدعي وجود زبائن".
يتابع كارديني "ولذلك فإن المؤرخ الباحث عن زبائن عادة ما نجده يعمل لصالح جهات تطلب خدماته تعرف باسم الرعاة الممولين أو السبونسرز".
ويتوقف المؤرخ الإيطالي هنا عند أمثلة تفصيلية من تاريخ فرنسا خلال فترة حكم لويس الرابع عشر، ويؤكد أن عمليات تزوير التاريخ لا تزال متواصلة إلى اليوم. والأمر لا يتعلق بتحريف وقائع الماضي فحسب، وإنما بتحريف الوقائع الجارية التي تسجل من خلال إرفاقها بتأويلات مضللة من شأنها صناعة موائد زائفة للتاريخ مستقبلا.
ويربط كارديني بين الحداثة والنزعة المادية الفردية التي تفجرت في أوروبا بعد دخول الكنيسة مرحلة عاصفة في القرن الرابع عشر اضطرت معها لنقل مقر البابوية من روما إلى أفينيون، وهناك "كانت الكنيسة بحاجة إلى الكثير من المال من أجل تسيير أمورها، فاضطرت للجوء إلى البنوك والاقتراض والارتهان مما أدى إلى إنتاج نخب فاحشة الثراء".
وقد فتحت هذه النخب الباب لعصر النهضة من خلال تمويل نشاطات فنية وعلمية تسارعت بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ذلك "اللجوء الثوري إلى الاقتراض الذي رفعت عنه الكنيسة الكاثوليكية كابوس الإدانة بالربا (…)، دفع بعديمي الضمير لاستغلال الفرص التي يتيحها التمويل. وهكذا فتحت الدول ذات الحكم المطلق والمدعومة بموارد مالية أبواب الحداثة على العالم باسم الفردية المنتصرة".
ولم يفت كارديني في حديثه عن "الحداثة والفردية المنتصرة" الوقوف على عمليات تزييف الطابع الديني للحملات الاستعمارية، لافتا إلى حقيقة أن الديانة المسيحية كانت تتعرض للتراجع بل للتشويه في أوروبا في الوقت الذي كانت تُستخدم فيه كذريعة استعمارية في الخارج، مؤكدا أن أوروبا إبان الحملات الاستعمارية كانت تنتشر فيها المحافل الماسونية (التي تدينها الكنيسة)، بالإضافة إلى أن النخب الأوروبية كانت مفتونة آنذاك بعقائد شيطانية وممارسة السحر ذي الأصول الأميركية والأفريقية.
وتوقف كارديني عند عمليات تشويه سمعة "الرهبانيات" من خلال الأدب بداية من فولتير وصولا إلى أدباء من التاريخ المعاصر، مشددا على أن روح الحداثة في المقابل تتوافق مع الفكرة الاستعمارية التي تجسدها اليوم الولايات المتحدة.
وهنا يلاحظ كارديني أن الولايات المتحدة التي تحاول أن تقدم نفسها اليوم على أنها وريثة الإمبراطورية الرومانية، لا تتشارك في قيمها السياسية شيئا مع الإمبراطورية الرومانية، بل هي تجسيد للفكر الحداثي المادي، موضحا أنه لا يمكن الحديث عن أميركا ومناطق نفوذها إلا كشركة تملك فروعا ومندوبين يعملون لصالحها في العالم، وأن "الرئيس- رب الأعمال الأميركي" لا يمكن النظر إليه سوى بوصفه "رئيس مجلس أعمال".
وهنا يحذر كارديني من الوقوع في فخ تصور أن العالم تحكمه جماعة خفية تدير الكون في سرية، ذلك بأن الأمر يتعلق بمؤسسات مالية وشركات وبنوك نعرف جميعا أسماءها وآليات عملها.
ويدور كتاب كارديني حول فكرة جوهرية مفادها أن الغرب مفهوم مخترع مثله مثل الشرق، وأن الغرب والحداثة وأوروبا ثلاثة مسميات يجري استخدامها عادة وكأنها مرادفات في حين أننا أمام ثلاثة مفاهيم متنافرة من الداخل، بل ذهب للتأكيد على أن العالم يحوي حاليا أكثر من "غرب" خارج "الغرب"، كما أن الحداثة التي تم تصديرها للعالم تحولت إلى "حداثات" آخذة في الترسخ في كل مكان من خلال وكلاء العولمة المحليين.
كل هذا في الوقت الذي نجد فيه النخب الأوروبية اليوم تسعى لاستعادة قيمها الأصيلة خارج نفق الحداثة. ليقفل كارديني كتابه وهو متفائل بقدرة أوروبا على الخروج مما أسماها حالة التقزم التي تعيشها، إلى الانبعاث "لا شرقية ولا غربية تماما كنور الله الموصوف في القرآن"، ويختم بذلك المؤرخ الإيطالي الكبير عمله بالإحالة إلى الآية 35 من سورة النور.
يُذكر أن فرانكو كارديني يعد واحدا من أبرز المفكرين الإيطاليين وأغزرهم إنتاجا، شغل العديد من المناصب بالجامعات ومراكز البحث في إيطاليا وخارجها، وتعاون على مدى عقود مع أهم الصحف الإيطالية.
صدر له منذ عام 1971 إلى اليوم أكثر من 200 مؤلف من بينها "من الشرق إلى الغرب.. الإسلام وأوروبا والولايات المتحدة" (2017)، "هل الإسلام يشكل تهديدا؟ لا" (2016)، و"نفاق الغرب.. الخلافة والرعب والتاريخ" (2015)، و"لورنس العرب" (2006)، و"اختراع الغرب" (2004)، و"أوروبا والاسلام.. تاريخ من سوء التفاهم" (1999)، و"نحن والإسلام" (1994)، و"القدس.. الأرض المقدسة وأوروبا" (1987).