27-01-2024 08:10 AM
سرايا - في إطار الحديث عن القراءة نجد أنفسنا أمام مفهوم مركب، ويمكننا تعريف مفهوم القراءة بأنه عبارة عن عملية تفكيرية تقوم على فك الرموز المختلفة بهدف الوصول إلى المعنى المراد، كما أن القراءة عملية معرفية تتراكب معاني الكلمات وتتراتب بوساطتها، فيفهم النص المقروء، ويقال إنها فن توظيف المعارف السابقة، فالمرء في أثناء قراءته لكتاب أو متن ما يوظف معلوماته ومعارفه السابقة لتنظيم أفكاره وتوضيحها وفهم المرجو مما يقرأ.
تعد القراءة من أهم أدوات اكتشاف الذات ومعرفة الآخر، إذ تعمل القراءة على إزالة الحواجز الزمانية والحدود المكانية، فمن يقرأ كتابا ما يشعر بأنه يعيش الأحداث مع الشخصيات الواردة فيه، فالقراءة تمنح القارئ القدرة على التنقل بين الماضي والحاضر، وتحضه على التطلع نحو المستقبل وآماله، كما تمكن القارئ من العيش في مختلف العصور والبلدان، فعند قراءة قصة أو رواية ما يتحقق للمرء الهدف المعرفي أيضا، كالاطلاع على أحوال الشعوب المختلفة، واكتساب معلومات حول أحوال الأمم الحاضرة والغابرة، كما تمنحه القدرة على التفريق بين طرق الخير والشر والتمييز بين صور الحق والباطل.
فالقراءة بوصفها مهارة لغوية تستند في فلسفتها إلى بنية معرفية وأخرى نفسية، إذ تبني الذات القارئة معرفيا وتشكلها معنويا، وتأخذها إلى عوالم جديدة ومساحات أوسع من الإطار الجغرافي والمكاني والحيز الزماني الذي تعيش فيه، وكأن القارئ يطأ بالحروف ما لم تطأه قدماه على وجه الحقيقة.
إن أول ما خاطب به جبريل -عليه السلام- سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين تنزل عليه الوحي بهيئة بشر وهو في خلوته في غار حراء هو قوله "اقرأ"، فكان جوابه صلوات ربي وسلامه عليه "ما أنا بقارئ!"، خائفا متعجبا من الوحي وأمره، فهو أمي لا يجيد القراءة ولم يتعلمها، فضمه جبريل إليه بقوة حتى أتعبه، وكرر الأمر 3 مرات حتى قرأ عليه أول ما أنزل من القرآن الكريم، وهو قوله تعالى في سورة العلق: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)﴾.
القراءة أمر إلهي عام صريح، لا مفر منه، فهو واجب عليك وعلي، وعلى جميع المسلمين، فبالقراءة يتعرف المرء إلى خالقه، ويدرك مغزى وجوده في هذه الحياة الدنيا، ويتبين من قراءة القرآن الكريم منهج حياته القويم، ويطلع على مآلات اختياراته ومعالم سبله وخواتيم أعماله. يقول -سبحانه وتعالى- في سورة الأنبياء ﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ﴾.
لم يحدد الأمر القرآني بالقراءة نوعها وكمها، فالقراءة مفتاح المعرفة، والخطوة الأولى نحو تنوير النفس وتهذيبها، وكلما كانت القراءة موفقة ومختصة بعلوم الدين كانت أداة لتزكية النفس وسموها.
ومن كرم القراءة وجميل فعلها وما تتركه من أثر في نفس القارئ المحب أنها تهديه شعورا باتساع الأفق وانكشاف المدارك، وتولد حسا بالسكينة والطمأنينة يدخل على القلب والعقل شعورا بالقوة والتمكن، فمم يمكن أن يخاف القارئ؟ والجهل تبدده سعة القراءات وكثرة الاطلاع وزيادة المعارف، فالقراءة سلاح الحي العالم في وجه عتمة الجهل وظلماته.
حين جاء الأمر القرآني بالقراءة بإطلاق وبدون تقييد جعل القراءة في الإسلام عالمية، وأعطى لعلوم الدنيا حظها بدون انتقاص أو تقليل من شأنها، ما دامت تصب في خدمة حياة الإنسان على هذه الأرض، وإن كانت حياة مؤقتة، بل جعل علوم الدنيا سبيلا واسعا لمعرفة حقيقة الحياة وإدراك كنهها والتعرف إلى خالقها والتفكر في آلائه، وفي كل ما أبدع وصور.
وفي هذه النقطة بالتحديد أقوال لا تتعارض بقدر ما تتشابك، ففريق يرى أن القراءة في الإسلام محصورة في قراءة القرآن الكريم وعلوم الدين ولها الأولوية المطلقة، ولا طائل من قراءة غيرها ما لم يتمكن المرء منها، وفريق يذهب إلى أن لعلوم الدين أهلها، وعلى كل مسلم أن يقرأ منها ما يعينه على حياته وتطبيق تعاليم دين الإسلام بصحة وكفاية. وأيا ما ذهب إليه الناس والعلماء من أمر القراءة، فإنها تبقى الأمر الإلهي الأول، وعلى المرء أن يتخير ما يقرأ وما يرد على قلبه وفكره، وعليه أن يخلص النية فيما يقرأ، فالقراءة غذاء للعقول وخطاب للقلوب التي تعي.
تقوم القراءة على قدرة المرء على تمييز الأحرف الهجائية ووصلها ببعضها لتشكل كلمات تفضي إلى معان محددة بعينها، فبعد تبين الحروف لا بد من الربط بينها، ثم ترجمتها إلى معان وأفكار مقصودة تؤدي في نهاية المتن المقروء إلى فهم الفكرة الرئيسة. ولا بد أن تتبع القراءة بالفهم، وتحاط بالتركيز الذي ينتج عنه بالضرورة تحليلا واستنتاجا، وربما إسقاط المقروء على الواقع وتفعيله، فالقراءة مهارة لغوية تقوم على الرؤية وعمادها البصر، ثم يتلو ذلك عملية النطق فالإدراك وأخيرا يأتي الانفعال، وفي أثناء القراءة يستدعي القارئ معارفه وخبراته السابقة ليفهم ويعي ما يقرأ، فالقراءة بالمحصلة نشاط فيزيائي وعصبي وعقلي في آن واحد.
تجمع القراءة بين البناء الفكري والمهارة التطبيقية وفاعلية التنفيذ، فهي سلوك ناتج عن رغبة فردية وتجربة ذاتية، وهي إحدى المهارات التي يكتسبها الإنسان من خلال مجموعة من مصادر الإدخال -إذا جاز التعبير- كالكتب بأنواعها المتعددة والصحف والمجلات.
ومما لا شبهة فيه أنها تسهم إسهاما كبيرا في بناء حياة الإنسان، ورقيه المعاشي، وتطوره الذاتي، وفي أدائه الجمعي باعتبارها البوابة الأولى للمعرفة والثقافة، إذ تعد القراءة -عامة- المصدر الرئيس والخطوة الأولى نحو تعلم أي لغة، فهي أداة الدراسة ووسيلة التعلم الأولى.
وبالقراءة تنتقل إلينا ثمرات العقل البشري عبر العصور، فهي وسيلة للتثقيف وأداة للترفيه عن النفس، مما جعلها من المواضيع المهمة التي شغلت حيزا كبيرا لدى الدارسين والمهتمين في المجال التربوي.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن القراءة عملية معرفية وفكرية، تحفز عقل القارئ وتدفعه نحو البقاء في حالة النشاط باستمرار، ومن فوائدها العظيمة أنها تحد من حدوث الأمراض العقلية المختلفة، وتحافظ على سلامة الدماغ وتزيد من قدرته على التركيز والتحليل والاستنتاج السليم.
وأكدت الدراسات أيضا أنه كلما ازدادت معرفة المرء بتوسيع دائرة قراءاته صار أكثر قدرة على مواجهة مصاعب الحياة والتعامل معها، وذلك بوساطة ما يكتسبه من معارف وآليات وطرق حياتية لتذليل ما يعترض طريقه من مشاق ومفاجآت غير سارة.
ومن المعلوم أن القراءة تقوي مهارات القارئ النهم في التحليل والنقد، إذ يكتسب القارئ مهارة التفكير النقدي، وذلك من خلال تطوير قدراته على ملاحظة التفاصيل والإحاطة بها، فيصبح بالزمن قادرا على التفريق بين الكاتب الجيد والكاتب الضعيف والكاتب المميز الذي يرسم أفكاره ويطرز معانيه بدقة واحترافية، ويصبح قادرا على تمييز أساليب الكتابة ويعرف الحبكة القوية من الضعيفة، والجدير بالذكر أن امتلاك المرء لمهارة التفكير النقدي تنعكس إيجابا في مختلف مشاهداته ومعايناته في حياته الخاصة.
ومن جميل شأن القراءة أنها تنمي خيال المرء، فعندما يقرأ حكاية أو رواية ما فإنه يستعمل خياله في رسم الأماكن وتحديد الزمن ودرجة الإضاءة التي تحيط بالشخصيات، ويرسم الوجوه ويتخير الألوان وفقا لما تصوره له مخيلته، فتتسع بذلك مداركه، وتقوى مخيلته بمرور الزمن، ويكتسب قدرة على استكشاف العوالم المختلفة من حوله والجرأة على الدخول في مغامرات وتجارب جديدة من نوعها.
في عصر السرعة الذي نعيش فيه، واستبدال الأجهزة الإلكترونية والأجهزة الذكية بالكتب، صارت القراءة في تراجع حقيقي واضح وملموس، فالجيل الحالي يفضل المقاطع المرئية ويتهافت على مشاهدتها، ولا طاقة لديه لقراءة المطولات، أقصد بالمطولات هنا مقالا قد لا تتجاوز كلماته الألف!
تخدر هذه الأجهزة الذكية الأدمغة، وتبرمجها على تفضيل كل سريع مختصر، وتحبب إليها كل مسل مضحك سواء أكان سخيفا أم لا! وتولد في النفس ضجرا خفيا، حتى يصبح المرء غير قادر على متابعة مقطع مرئي لا يتجاوز مدته 3 دقائق في بعض الأحيان! فكيف نستعيد هذه الأجيال من براثن التكنولوجيا المدمرة، وكيف نحافظ على أنفسنا؟
لا بد أن نستعيد قيمة المكتبات في بيوتنا، ذاك الركن الدافئ الذي يهرب إليه المرء من مشاق الحياة ومتاعبها، فيجد فيه حلا ومستراحا، ولا بد من تحبيب أبنائنا بالكتب وإنشاء علاقة ودية فيما بينهم وبينها، فبالقراءة وحدها تحلق الروح بعيدا، وتسمو وتعلو عن أدران الحياة الدنيا، على أن تكون مشروطة بقراء كل نافع ومفيد، وألا تقتصر على قراءة ما يمتع النفس بدون أن يضيف إليها شيئا حقيقيا، فالجوهر في الأثر المتروك في القارئ نفسه، ولا يتحقق بقراءة أي كتاب، بل يتحقق ضده إذا ما كان الكتاب ذا توجه مخالف للحق والفطرة.
وفي أثناء التدريب أو التدرب على القراءة علينا أن نتذكر أننا لسنا مجبرين على إكمال أي كتاب بدأنا بقراءته لمحض أننا بدأنا به! كثير من القراء يعرف هذا الشعور جيدا، إذ يقيد القارئ، فيشعر وكأنه من الوفاء بمكان أن أكمل كل ما بدأت به، غير أن الأمر ليس كذلك، فإن لم تأنس بما تقرأ خيرا فلا تكمل وتمتع براحة مطلقة في البحث عما يضيف إليك ويصقل جوهرك.
إن المجتمع الذي تتعزز فيه القراءة بوصفها سلوكا بشريا جمعيا هو المجتمع الذي يبشر بالنهوض، وكلما زادت نسبة القراءة في أي مجتمع زادت فرصته في نفض غبار التخلف والعجز والتبعية، وكان أقدر على كسر الأغلال الفردية والجمعية التي يفرضها واقع اليوم وتشابكاته السياسية والمعرفية.