31-01-2024 08:10 AM
سرايا - لأنها لا تحسن الصمت، ولا ترضى أن تكون عربة في قطار صممت سكته سلفا، تتعرض أستاذة الأدب العربي في جامعة بنسلفانيا الأميركية الدكتورة هدى فخر الدين لموجة عاتية من الضغوط والتهديدات، هدى التي نظمت مع زملائها مهرجانا أدبيا عنوانه "فلسطين تكتب" ترى الأدب وثيقة للحياة.
واتهم نواب في الكونغرس الباحثة والمؤلفة اللبنانية المرموقة بمعاداة السامية، ومثلهم فعل آخرون ومارسوا ضغوطا عليها وعلى الجامعة، أما هي فترد: "نذلٌ كل من يظن أن بإمكانه متابعة الحياة والعمل كالمعتاد وغزة تتعرض للتوحش الإسرائيلي الذي تتعرض له".
نالت فخر الدين الدكتوراه في الأدب العربي والأدب المقارن من جامعة إنديانا بلومنغتون والماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت، ولها عدة إصدارات منها كتاب نقدي بعنوان "الميتاشعرية في التراث العربي: من الحداثيين إلى المحدثين"، وقد ترجمته حديثا إلى العربية المترجمة آية علي، وتتناول فخر الدين فيه تجربة التجديد وأسئلة الشعر ولغته، انطلاقا من العصر العباسي وصولا إلى عصر الحداثة.
هدى فخرالدين تحدثت هذه المرة عن الضغوط والتهديدات التي تتعرض لها ساعة بعد ساعة، فإلى المقابلة:
قبل أسابيع من مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نظمتِ رفقة مهتمين مهرجان (فلسطين تكتب) في جامعة بنسلفانيا. إلى أي شيء سعى؟ وما مدى نجاح المسعى؟
عملتُ مع "فلسطين تكتب" -مؤسسة غير ربحية- على تنظيم مهرجان أدبي يحمل ذات الاسم "فلسطين تكتب" في جامعة بنسلفانيا. والحق أنني تحمست عندما طُرحت عليَّ فكرة التعاون لأني كنت سأتولى إدارة مركز الدراسات الإنسانية في جامعتنا لعام 2023 – 2024، وهذا مركز يتعاقب الأساتذة على إدارة برامجه كل سنة حول موضوع محدد. وبوصفي مديرة للمركز هذا العام اتخذت "الثورة" وتجلياتها في الأدب والتاريخ والعلوم والسياسية والاجتماع وما إلى ذلك موضوعًا لي.
هَدَفَ المهرجان إلى الاحتفال بفلسطين وتسليط الضوء على تاريخها وتراثها بعيدا عن الصور النمطية السطحية التي يرسمها الإعلام الغربي. وهدفت شخصيا إلى التأكيد على أن دراسة الأدب العربي لا يمكن أن تكون بمعزل عن الالتزام بالقضايا الجوهرية التي تشغل الكُتاب والفنانين العرب.
وقد نجح المهرجان نجاحا مبهرا، الفضل بالطبع يعود إلى طاقم كبير من المتطوعين إذ شارك في المهرجان ما يزيد على 120 متحدثًا ومقدّمًا من فلسطين وشتاتها في جميع أنحاء العالم، وحضره ما يقارب 1500 شخص أتوا من جميع أنحاء أميركا والعالم.
تعاونتُ مع الفريق المنظم بإدارة الروائية سوزان أبو الهوى ومجموعة من المتطوعين، وكنتُ صلة الوصل بين "فلسطين تكتب" والجامعة. لم تكن العملية يسيرة لأن كلمة فلسطين بحد ذاتها تثير قلق هذه المؤسسات، فتتحرك فجأة جهات بين خفية وظاهرة لتعقيد أبسط الأمور. فما إن شاع خبر المهرجان، حتى بدأت الضغوط على الجامعة وإدارتها من المجموعات الصهيونية لإلغاء المهرجان، بل صارت تهديدات.
الجامعات الأميركية خاضعة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية ولاسيما في دوائر دراسات الشرق الأوسط التي أوجدت تاريخيا لخدمة المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. وقد اتخذ اليمين الأميركي الفرصة في هذه اللحظة الحرجة، وتذرّع بمحاربة معاداة السامية ليقمع كل مساحات الفكر النقدي والتقدمي في الداخل الأميركي.
أما يخص الأدب فيُنتظر منا نحن دارسي الأدب العربي والباحثين فيه أن نكون رموزًا خرساء لمهزلة التنوع والمساواة، وتأدية أدوار محددة، تخدم سياسة الهويات الضيقة وفكرة الحضارات في تصارعها وتصالحها. غير أن الأكاديميين المخلصين لما يدرسونه، يرفضون هذه الأدوار السخيفة ويتطور الرفض لمقاومة بدراسة مخلصة ومسؤولة للثقافة العربية الحية، وقضاياها الكبرى وأهمها فلسطين، ولا سيما في لحظة تاريخية كالتي نعيش، ونشهد فيها واحدة من أشنع الجرائم في التاريخ البشري.
إن المنتظر دراسة الأدب العربي بوصفه أدبا، لا وثيقةً للتعرف على الآخر والسيطرة عليه، تقلق المؤسسة السياسية والثقافية في هذا البلد (الولايات المتحدة). وفي حالة فلسطين، سرعان ما تتحرك الماكينة الصهيونية لتحافظ على أساطيرها ولتحارب الحقائق مهما كان ثمن ذلك، فالفكر الصهيوني قائم على كذبة أن فلسطين "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
ولذا فإن الاحتفال بالأدب الفلسطيني ووضعه في مكانه وسياقه في التراث العربي الغني والطويل أنجع سلاح لكشف بهتان المشروع العنصري السافر. والاحتفال بالأدب الفلسطيني والعربي هو أيضا تأكيد على دور اليهودية كدين وكثقافة في تراثنا العربي. وهذا تهديد كبير للفكر الصهيوني الذي أخذ الثقافة اليهودية رهينة وشوّهها واقتلعها من سياقاتها الأصلية وما زال يرتكب باسمها أفظع الجرائم.
أسهمنا أنا وشريكي الشاعر الفلسطيني أحمد الملاح الذي يدرس في الجامعة نفسها، في تنظيم عدة تحركات في حرم الجامعة مناصَرة لأهلنا في فلسطين ورفضا للوحشية الإسرائيلية في غزة. وتضمنت هذه التحركات اعتصامين شارك فيهما عدد كبير من الأساتذة والطلاب. أكدنا فيهما على رفضنا للعنف ضد المدنيين في المطلق وذكّرنا بضرورة وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق النكبة منذ 1948 والحصار الهمجي على غزة.
تعرض جميع المشاركين في التحركات للتهديد ولا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي. وتفاقم الأمر لدرجة أننا استعنّا بالشرطة أكثر من مرة، ونُصحنا -خاصة أحمد- بتفادي الحرم الجامعي، إذ تعرض هو تحديدا لحملة طالبت بطرده من الجامعة لكونه فلسطينيا لم يقبل الصمت.
بعد أن شهدت الجامعات الأميركية تحركات مؤيدة لفلسطين ومدينة للعدوان الوحشي على غزة، لم يسبق لها مثيل، استدعيتْ 3 رئيسات لجامعات أميركية للمثول أمام لجنة من نواب الكونغرس بإدارة الحزب الجمهوري وبتحريض من حلفائهم من أمناء الجامعات ومانحيها. وقد ادعت لجنة التحقيق أن الرئيسات أسأن إدارة جامعاتهن وفشلن في التصدي لمعاداة السامية، وكانت من بينهن رئيسة جامعتنا التي أجبرت على الاستقالة بعد هذه الجلسة.
إذ صورت لجنة التحقيق كل التحركات التي تدين الهمجية الإسرائيلية في غزة على أنها معاداة للسامية، مجنّدة كل ما في واشنطن من عنصرية وأصولية. وفي هذا السياق ذكرنا -أحمد وأنا- وللأسف لم يكن لدى رئيسة جامعتنا ما يكفي من شجاعة لنفي ما وجه إليها وإلينا من تهم سافرة. وذكر أحد المستوجبين الصفَّ الذي أدرّسه هذا الربيع وعنوانه: "أدب المقاومة من نجد إلى فلسطين"، واصفا غسان كنفاني المقررة نصوصه في الصف بـ"الإرهابي". هذا هو مستوى الإسفاف والجهل الذي أديرت به الجلسة وما كانت إلا تجليا للـ(ماكارثية) الجديدة واستعراضا لقوى اليمين المتطرف.
لعبت الجامعة دورا مخجلا في قمع كل التحركات المنددة بالهجوم على غزة. كل البيانات التي أصدرتها كانت متحيزة بشكل معيب. فبدل الدفاع عن طلابها وأساتذتها الفلسطينيين والعرب الذين يتعرضون لأخطار محدقة، صورت الجامعة كل التحركات الداعمة لفلسطين على أنها تحركات معادية للسامية.
وقد اعتمدت إدارة جامعتنا، وإن بشكل غير رسمي، تعريف معاداة السامية على أنها أي انتقاد لإسرائيل، وهذا تعريف أقره "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" وهو إشكالي جدا وقد تحدّاه عدد كبير من دارسي الهولوكوست اليهود وحذّروا من خطورته وإمكانية تسليحه لترويج المصالح الصهيونية التي لا بد من فصلها عن اليهود والديانة اليهودية.
فمعاداة السامية الحقيقية هي الافتراض بأن كل اليهود في العالم يدعمون المشروع الصهيوني العنصري القائم على التهجير والتطهير العرقي. وفي هذا إهانة لذكرى ضحايا الهولوكوست.
وتبنّي الجامعات لهذا التعريف ينمّ عن جهل فاحش وخضوع مهين للمانحين وأمناء الجامعة المتمولين الفاسدين وأصحاب المصالح المريبة.
هل وجدتِ تضامنا من أي جهة؟ وهل هناك أي مساندة قانونية داعمة لكم في وجه هذه الهجمة؟
وجدنا تضامنا ودعما من مجموعة كبيرة من الطلاب والأساتذة في جامعتنا وجامعات أخرى عبر الولايات المتحدة. الرأي العام في العالم يتغير وهناك وعي جديد نراه بوضوح عند الجيل الجديد في الولايات المتحدة يتجلى في المظاهرات الضخمة التي تشهده المدن الأميركية كلها.
في جامعتنا بالتحديد، اعتصم طلابنا من عرب وأميركيين، ويهود ومسلمين وغيرهم. تصدوا بشجاعة ومسؤولية لتهديدات الجامعة وشرطتها. وقدموا لإدارة الجامعة نموذجا مضيئا لما يجب أن تكون عليه الجامعة فعلاً، وكيف تكون المقاربة المسؤولة والموضوعية للتاريخ واللحظة الاستثنائية التي نشهدها في غزة.
ومؤخرا، نظم الأساتذة أنفسهم في مجموعة تسمى "أساتذة من أجل العدالة في فلسطين" وهي منظمة باتت لها فروع في أكثر من 80 جامعة أميركية منذ 7 أكتوبر. وتهدف بشكل خاص للدفاع عن الأصوات المساندة لفلسطين التي غالبا ما تهمّش وتقمع.
مبادئ البحث العملي والنقاش المفتوح والحرية الأكاديمية التي تقوم عليها فكرة الجامعة تتعرض الآن لهجوم شرس من القوى الظلامية والعنصرية في الولايات المتحدة والعالم. ومع هذا، ما نتعرض له لا يقارن، لا من قريب ولا من بعيد، بهول ما يواجهه أهل غزة وفلسطين من رعب ودمار وقتل.
لا أتوقع شيئا من المؤسسات الفاسدة والخاضعة للضغوط والمصالح والأغراض المشبوهة. لكني متأكدة من أن سلاحنا الأكثر فتكاً هو التمسك بثقافتنا وتراثنا. نذلٌ كل من يظن أن بإمكانه متابعة الحياة والعمل كالمعتاد وغزة تتعرض للتوحش الإسرائيلي الذي تتعرض له. ونحن، المعنيين باللغة العربية وتراثها الأدبي، نكون منافقين ووصوليين إذا توهمنا أن ما يحدث في غزة ليس بالضرورة مرتبطا بصلب اهتماماتنا الفكرية والأكاديمية.