27-02-2024 08:11 AM
سرايا - من يستمع إلى الكاتب والأديب المغربي عبد الفتاح كيليطو، أو يسمع عنه، أو يقرأ له يناله نصيب من المتعة الممزوجة بالدهشة، يظهر له أنه يمارس الشعر والحكي من خلف قناع، إذ يعمد في كتابته إلى الاستشهاد بالآخرين، تكريسا لمبدأ الحرية في الكتابة.
حدث ذلك في الدورة الأكاديمية التي نظمها بيت الشعر في المغرب مؤخرا بتعاون مع كلية اللغة العربية بمراكش، والتي راهنت على تتبع أعماله في علاقته بالشعر، ونجحت إلى حد ما في سبر مكنوناتها، إذ بدأت بمحاضرة فكرية للكاتب نفسه تحت عنوان "لزوم ما يلزم"، صال فيها الكاتب بين التحليل والتأويل والشعر والسرد، قبل أن تمتع الجمهور ورقات نقدية تحلل هذه العلاقة، وتضعها تحت المجهر.
ولم تكن صدفة أو ربما كانت كذلك أن يكرم كيليطو في هذه الدورة بلوحتين، الأولى تحمل صورته، والثانية ورود الأقحوان التي تظهر بين سنابل القمح في حقول المزارعين، مثل "زهرة برية لا يدري كيف تفتحت"، كما يصف الكاتب نفسه "المقامات" حين يتحدث عن نشأتها بعدما سيطر النثر على الشعر في الثقافة العربية.
ومن أهم ما جاء في الدورة الكشف عن "فتوحات عبد الفتاح" في مساره التأويلي للنصوص، وتحديد هوية الشاعر وطيفه في كتاباته، وأدوار المقامات في استعادة الشعر لنوره وتوهجه، علاوة على سبر منهجه في التعامل مع كل ذلك.
"الشاعر صائغ بل كيميائي يحول المعادن الخسيسة أو متواضعة القيمة إلى معادن ثمينة"، هكذا يدرج كيليطو في روايته "والله إن الحكاية لحكايتي" وصف الشعر على لسان أبي زيد السروجي، بطلِ مقامات الحريري.
وتقول الإعلامية والأديبة غادة الصنهاجي "قد يبدو للقارئ جليا أن كيليطو عاشق للشعر، لكنه قد يتجاوز عنده حتى هذا العشق، بل إنه ربما يعتبره قدرا ومصيرا يختاره المرء طوعا كما أورد موضحا في منمنمته "مجنون ليلى" أن قيسا عجز عن الصمت، وفضل الشعر على محبوبته، وكان عشقه أقوى من عشقِها.
وتبرز الصنهاجي أمرا آخر ينبغي الانتباه إليه، هو التمهيد الذي خص به كيليطو روايته "خصومة الصور"، مبديا سعادته إن صادف القارئ نفسه في نثرها السردي. وربما كان يعني عندما طلب من قارئه أن يتوجه إليها بإحساس أن تختلف طقوس قراءته وبأن تتلى النصوص كما لو كانت أشعارا".
إن للشعر والشعراء حضورا لافتا في أعمال كيليطو النقدية والسردية "كما يقول الناقد والمترجم حسن المودن، ويبرز أن رواية "حصان نيتشه"، تدشن جنسا أدبيا ربما حظه قليل في الأدب العربي المعاصر، يسميه "سيرة ذاتية لقارئ" تكرس نفسها في الرواية ذاتها من صغر ذلك القارئ إلى كبره، مع التركيز على علاقة التلميذ باللغة، وبالكتابة، وبتلك الطريقة الفريدة في القراءة: نسخ الكتب والمؤلفات.
وينسج المودن سؤالا بعد آخر، يبدأ بـ"كيف أصبح النساخ شاعرا؟ وهل الموضوع المفضل في هذا النوع من الأتوبيوغرافيا هو وصف هذا القدوم إلى عالم النسخ والقراءة، ثم القدوم إلى عالم الشعر والكتابة؟ كيف تحول هذا الطفل-التلميذ الذي يصفه الآخرون بالبلاهة والجنون والغرابة والضعف العقلي، من آلة نساخة تكاد لا تكف عن نسخ الكتب والمؤلفات إلى شخصية بهوية أدبية، بهوية شعرية؟
وينتهي به الأمر متسائلا " أيقول عبد الفتاح كيليطو أن لا هوية أدبية من دون أن يتعلم المرء كيف يدبر قلقه بين عدد من الثنائيات الضدية: نسخ/قراءة، قراءة/كتابة، ذاكرة/نسيان، لغة الأم/لغة الآخر، شعر/سرد، ذات/آخر..، كيف يمحو الآخر، بعد نسخه وحفظه، ثم هضمه ومحوه، من أجل أن تتأسس هوية أدبية جديدة.
بعض أسئلة الناقد المودن قد يبدو أن الكاتب والمترجم منير السرحاني يجيب عنها، حين يبرز أن الكتابة مرادف للنسيان، وفعل لصيق بفعل آخر مضاد، هو "المحو"، وبفضل انصهار المعارف في الذات والقراءات في الكتابة، تختفي الأنا لتصير الكتابة برمتها عبارة عن "لعبة" عن مجالس منفصلة وفصول قائمة بذاتها ومقامات صفتها الأساسية "التريث في إلقاء الشعر"، الذي يفرض على الشاعر تنقيح قصيدته على مدار العام على خطى زهير بن أبي سلمى.
هو إذن طيف الشاعر في كتابة، وفي محكيات كيليطو الذي مزق محاضراته عن الأدب الفرنسي ليكتب عن النصوص التي تمكنه من الإضافة، ومن التجديد ومن "الترجمة المستحيلة" وتحميه من العمى ومن الملل.
يقتبس السرحاني فكرة أن كيليطو مارس الشعر والحكي من خلف قناع، فهو يكتب من خلال "المحاولة" التي تعطي إمكانية الاستشهاد بالآخرين، تماشيا مع مبدأ الارتياب، وتمكن من إخفاء الحقيقة والابتعاد عنها، خاصة بفضل السرد وبفضل المحكي الذي يكسر المنهج الأكاديمي وأحيانا يكرس مبدأ الحرية في ممارسة هذا النوع من الكتابة.
ويقول إن كيليطو يتفادى في محاولاته البعد التعليمي، بكتابة تذهب بالشخصيات الحقيقية، مثل المعري والجاحظ حد الخيال، حتى يتهيأ للقارئ أنها متخيلة ولا وجود لها في الواقع، وفي تاريخ الأدب.
يشبه كيليطو المقامة بـ"زهرة برية لا يدري كيف تفتحت"، كما يلاحظ سعيد العوادي أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب، مبرزا أنها النص الذي أخذ قسطا مهما من اهتمامات هذا الكاتب النقدية المخبرية.
ويقول "في المقامة يقيم النثري مع الشعري في مقام واحد. وهذا ما يمنح لهذه الزهرة المتفتحة تفردها في البرية، ويتطلب من المتعامل معها حساسية خاصة، لأنها تشم ولا تفرك".
ويلاحظ العوادي أن المقامة برزت بعد تراجع الشعر لصالح النثر في الثقافة العربية منذ منتصف القرن الثاني الهجري، والتي شقت طريقا غير مألوف في النثر العربي، مستفيدة بدهاء كبير من إنجازات الشعر.
ويكمل العوادي قائلا، سواء على مستوى التوازنات الصوتية التي سيتم التركيز فيها على مقوم السجع، إذ يقول كيليطو "إن السجع الذي عرف ازدهارا صار متألقا في القرن الرابع، ينافس جديا الشعر".
أو على المستوى الصياغة، يردف العوادي، يؤسس الجنوح إلى عويص اللغة وغريب التصوير، ما سماه كيليطو بـ"شعرية الستار"، حيث يتوارى المعنى في أفق عائم، أو على المستوى التجاوري، إذ يبرز الشعر بطريقة صريحة متجاورا مع النثر.
سؤال آخر يطرح نفسه، هو هل ربط كيليطو ممارسته القرائية بنظرية أو قيد نفسه بمنهج.
يجيب محمد الحيرش أكاديمي وباحث متخصّص في اللسانيات والتأويلات "منذ بداياته شعر الكاتب بأن صفة "بنيوية"، الواردة في العنوان الفرعي لكتابه حول "الأدب والغرابة" تضعه في ضيق معرفي لا ينسجم مع اختياراته النقدية أو التأويلية الواسعة.
ويلاحظ أن طريقة كيليطو في القراءة والتأويل تضمر في طياتها موقفا يتحفظ من الحقائق المنهجية ولا يثق بها، وأنه ينحو في لغته الواصفة منحى إبداعيا منفلتا من عقال المناهج ومتحللا من كل التزام بحدودها وآلياتها.
ويضيف "لأول وهلة قد يبدو على هذا التفسير بعض الوجاهة بالنظر إلى الانسيابية التي تميز لغة كيليطو الواصفة، وبالنظر أيضا إلى الرشاقة التي يصوغ بها تحليلاته، غير أن الانسيابية والرشاقة لا تفسران في العمق إبداعية لغة كيليطو النقدية، ولا تعللان ما تنطوي عليه من إضافات نوعية إلى المعرفة بالأدب، ذلك أن نظرة متأنية إلى مفردات هذه اللغة تجعلنا أمام ناقد يبهرنا بخبرته المنهجية العميقة ومهاراته القرائية المتبصرة، وأن علاقته بالمناهج تبقى إيجابية ومتوازنة.
إن المتأمل في المسار التأويلي لكيليطو، يلاحظ أنه تحكمه إستراتيجية خاصة باشتغاله على نصوص تراثية متنوعة منها المحكي القصير، والسرد الطويل، والنوادر، والمحكيات المنقبة والسرد الرحلي والقصة الفلسفية والرسائل والنصوص النقدية والأدبيات الشعرية والمقامات، كما يبرز الباحث والناقد محمد أيت لعميم.
ويبرز أن هذا التنوع من المتون الأدبية يسوقه كيليطو إلى فضاء تأويلي قصد توليد المعنى من أرحام خلناها صارت عقيمة بسبب التكرار والاجترار، إذ يسعى الكاتب إلى إحداث خلخلة وتحين الفرصة للعثور على السراج المنير أثناء الهبوط في عتمة النصوص، إذ يتأسس فعل القراءة لديه من مساءلة البداهة واكتشاف العادي، ووضع اليد على الرسالة المسروقة التي من فرط وضوحها تعذرت على الرؤية.
ويضيف فهو بتقمصه لشخصية المحقق في الروايات البوليسية لا ينساق وراء الأدلة المضللة، بل يسلك الطريق الصعب في فك شفرات اللغز، ولذلك فإن المتعة والدهشة التي يعيشها أثناء بحثه هي التي تغري قراءه وهم يتابعون فتوحات عبد الفتاح التأويلية عبر شبكة من العلاقات يبنيها بين النصوص، حيث يصير الأدب قارئا للأدب، ويتم تفسير الأدب بالأدب.