06-03-2024 08:05 AM
سرايا - في طليعة العام 1939، ومع حلول ظلام الحرب العالمية الثانية، كانت مكتبات لندن تضج بالزوار. وكان الفضول والرغبة في فهم آليات الحرب والأمم المتصارعة شغل الجميع الشاغل، بالتوازي مع الأمل والتوق للمعرفة.
وعندما أجبرت القنابل الآلاف من سكان لندن على الاحتماء في محطات قطارات الأنفاق بالمدينة، غالبًا ما كان الناس يلجؤون لإنشاء مكتبات صغيرة لدعم تماسكهم معنويا. وتُظهر إحدى أشهر الصور الفوتوغرافية -التي التقطت في لندن زمن الحرب- مجموعة من الرجال الهادئين، يرتدون القبعات، ويتفحصون الكتب الموجودة على الرفوف في مكتبة قصر كنسينغتون التي تعرضت للقصف.
ونشرت مجلة "نيويوركر" الأميركية تقريراً للكاتبة كلوديا روث بيربونت تلقي الضوء فيه على كيف أن الصراعات المسلحة فتحت شهية القراء على مصراعيها للكتب التي تتحدث عن الحروب، معززة مبيعات القصص الأميركية حول الصراعات السابقة.
وتناول التقرير كذلك تاريخ الكتاب منذ القدم، مستعرضا تأثير الإلياذة ومكتبة الإسكندرية كمنارات للمعرفة والثقافة. كما تطرق إلى دور الكتب في تشكيل الهويات الثقافية والوطنية، مع الإشارة إلى الأثر المدمر للحروب على المكتبات في أوكرانيا وغزة، مؤكدا الفكرة الراسخة بأن الكتب يمكن أن تكون أدوات للسلام والتفاهم الإنساني، إذا ما وُجدت الأذهان الراغبة في استيعابها وتطبيق مبادئها.
وفي كتابه "الكتاب في الحرب" يستلهم الكاتب البريطاني أندرو بيتيجري أحداث الحرب الأهلية الأميركية مسلطا الضوء على "كوخ العم توم" الرواية الرائدة لهارييت بيتشر ستو التي غيّرت وجه التاريخ بإلهامها لحركة إلغاء العبودية عام 1852، ووصف الكاتب فريدريك دوغلاس تأثيرها بأنها كلمات نابضة بالحياة ومذهلة.
وكان دوغلاس (1818- 1895) في البداية عبدًا ثم تحول إلى كاتب وناشط بارز في مكافحة العبودية والدفاع عن حقوق الأفراد من أصول إفريقية. وعام 1845، نشر دوغلاس سيرته الذاتية بعنوان "قصة حياة فريدريك دوغلاس".
وبدأت الحرب الأهلية الأميركية عام1861، بعد انتخاب أبراهام لنكولن الذي تعهد بإنهاء العبودية، مما أثار تمرد ولايات الجنوب الزراعية التي كانت تعتمد بشكل كبير على العبيد كقوة عاملة رئيسية. وشهدت هذه الحقبة تحولات كبيرة، وكان لرواية "كوخ العم توم" دور لا يُنسى في تشكيل وعي الجمهور والدفع نحو التغيير الاجتماعي خاصة أنها نجحت في تحويل القراء الباكين إلى دعاة إلغاء عقوبة الإعدام.
النجاح الباهر للرواية منح كاتبتها، هارييت بيتشر ستو، شهرة عالمية. وعند زيارتها لبريطانيا عام 1853 لحماية حقوق نشر عملها، استُقبِلت بحفاوة بالغة، حيث استقبلتها الجماهير في الشوارع وقُدمت لها عريضة ضخمة تزن أكثر من 26 باوندا (الباوند= 0,4536 كيلوغرام) موقعة من بريطانيات من جميع أنحاء العالم، تدعو إلى إنهاء العبودية. حتى الملكة فيكتوريا نفسها أبدت رغبة في لقاء ستو، مما يدل على مدى تأثير الكاتبة وروايتها.
وخلال جولتها الأوروبية، استقبلت ستو بالترحاب والاحتفال نفسه الذي لاقته في بريطانيا، مما يؤكد مكانتها كرمز للنضال ضد العبودية والعنصرية. وأصبح اسمها معروفًا عالميًا، مع تغطية من كبرى الصحف والمجلات مثل "نيويورك تايمز" و"إندبندنت" وأصبحت حضورها ثابتًا بالفعاليات الدولية التي تناهض العنصرية.
ووصف الرئيس لينكولن رواية ستو بأنها "المرأة الصغيرة التي كتبت الكتاب الذي أشعل شرارة هذه الحرب العظيمة".
وأثارت الرواية أيضًا عاصفة من الردود في الجنوب، حيث تم حرق نسخ منها وظهرت روايات مضادة تصور العبودية بإيجابية محاولة دحض الصورة الواقعية التي رسمتها ستو.
وخلال الحرب العالمية الثانية، أدرك الرئيس روزفلت أن الكتب تمثل أسلحة قوية، وشارك الآلاف في مسيرات احتجاجية ضد حرق الكتب النازية. وتم إصدار طبعات خاصة لخدمة القوات المسلحة والجنود، موفرةً لهم الراحة والتسلية وأحيانًا السلام أوقات الحرب، وكنوع من التأكيد على قوة الكتب في التنوير والترفيه.
وبرزت رواية "شجرة تنمو في بروكلين" كمثال بارز على الكتب التي لاقت استحسانًا واسعًا بين الجنود، وتلقت المؤلفة بيتي سميث آلاف الرسائل سنويًا من معجبيها في صفوف الجيش، مما أكد على الدور العميق والمؤثر الذي تلعبه الكتب في حياة الأفراد، حتى في أحلك الأوقات.
وتشير الكاتبة إلى أن ملحمة "الإلياذة" -التي تحكي قصة غضب أخيل وانتصاره الدموي على طروادة- لا تعتبر فقط ركنًا أساسيًا في التقليد الغربي، بل كانت أيضًا الكتاب الأكثر شعبية في اليونان القديمة. وما يضيف إلى روعتها أن الناس كانوا يأخذون أجزاء منها معهم إلى القبور والتوابيت، تقديرًا لها كنص مقدس.
واستمرت الإلياذة في إلهام الجنود والقادة الأوربيين عبر التاريخ، بما في ذلك الإسكندر الأكبر الذي رأى في نفسه أخيلًا جديدًا، ويقال أنه اصطحب الملحمة الشعرية عندما غزا الأراضي الشاسعة من مصر إلى الهند.
وتنوه الكاتبة كذلك بدور "الفُرس" وهي مسرحية كتبها اليوناني إسخيليوس وعُرضت لأول مرة عام 472 قبل الميلاد. وقد تميزت بكونها لا تتناول الأساطير كغيرها من المآسي، بل تحكي قصة حقيقية حدثت بعد معركة سلاميس، حيث شارك إسخيليوس نفسه في الدفاع عن أثينا ضد الفرس. وبشكل مبتكر، يقدم إسخيليوس الأحداث من وجهة نظر العدو، مظهرًا اليونانيين وهم يتغلبون على خصومهم بإنسانية وعمق.
في سياق آخر، تسلط الكاتبة الضوء على التطورات التكنولوجية التي ساعدت في الحفاظ على النصوص القديمة والمخطوطات والرقع المصنوعة من جلود الحيوانات التي بدأت تحل محل ورق البردي منذ القرن الثاني قبل الميلاد، ممهدة الطريق لظهور المخطوطة، وهي نوع من الكتب يسهل حفظه ويمكن قلب صفحاته. وهذا التطور لم يكن يعني فقط تحسنًا في المتانة وإمكانية الكتابة على كلا الجانبين، بل أيضًا كان له دور كبير في نشر الثقافة التي استفادت من سهولة نقل وقراءة المخطوطات.
وتحدثت الكاتبة عن كيف أن الإمبراطور قسطنطين أمر بكتابة النصوص المقدسة على الرق، وهو ما سمح بتصنيع كتب خفيفة يمكن حملها بسهولة. وهذه الخطوة لعبت دورًا هامًا في توسيع نطاق القراءة والكتابة، مما جعل الكتب أكثر انتشارًا وتأثيرًا.
ومع تقدم الزمن، زاد الأمل في نمو المعرفة بفضل انتشار الكتب.
ووجد الورق، الذي استخدمته الصين لألف عام، طريقه إلى الغرب ببطء، مع انتشار الإسلام ومن ثم في أوروبا. لكن القفزة الحقيقية كانت باختراع المطبعة من قبل يوهانس غوتنبرغ في القرن الـ15، والتي جعلت الكتب متاحة وبأسعار معقولة للأغنياء. وهذا الاختراع لم يكن مجرد تسهيل للحياة، بل كان نورًا يبدد ظلمات الجهل، محققًا "الخلاص على الأرض" كما قال أحد الرهبان.
ولكن التاريخ يعلمنا أن القراءة لا تؤدي دائمًا إلى النتائج الإيجابية المرجوة. ففي كتابي "مكتبة ستالين" و"مكتبة هتلر الخاصة" نرى كيف أن الاهتمام العميق بالكتب من قبل هذين الديكتاتورين لم يمنعهما من ارتكاب الفظائع. وحتى الشاعر السوفيتي أوسيب ماندلستام، الذي أثار غضب ستالين بقصيدة ساخرة، وجد نفسه مضطهدًا ومنفيًا، مما يبرز الفجوة بين الأمل في الكتب وواقع السلطة القمعية. ومع ذلك، استمرت زوجته ناديجدا في الحفاظ على إرثه الأدبي، مذكرةً بقوة الأدب في مواجهة القمع.
تشير الكاتبة إلى أن نظرة واحدة حولنا قد تجعلنا نعتقد أن القليل منا فقط قد قرأ تلك الكتب التي تلمس القلب وتلينه، لكن الزمن الراهن يحمل صورة مناقضة، إذ تظهر صورة معبرة من كييف نافذة شقة محمية بكتب مكدسة تحول دون دخول الشظايا والزجاج المتكسر، وتقدم مثالًا على شعب يقاوم العنف بالثقافة، مماثلًا لصورة متصفحي الكتب في لندن بمبنى دون سقف خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي أوكرانيا، شهدت المكتبات دمارًا جعلها تتلاشى في الأنقاض. وفي غزة كذلك، حيث تعرضت المكتبات العامة ومكتبة سمير منصور للتدمير مرتين، تجسيدًا لهجوم على الثقافة والهوية.
وقبل الحرب، كانت مكتبة منصور تحتضن تنوعًا ثقافيًا، من كنفاني إلى "آن في المرتفعات الخضراء" للكاتبة الكندية لوسي مود مونتغمري، مرورًا بكتب "هاري بوتر" وتعكس الكتب في مثل هذه الأوقات السلام الغائب، وتشير إلى أن صفحاتها تحمل إجابات وحلول مشاكل لا نزال نبحث عنها.
وتحكي حكاية تدمير المكتبات قصة هجوم لا يرحم على الثقافات الفريدة، ليس فقط الأوكرانية والفلسطينية، بل وأيضًا الهوية الثقافية العالمية نفسها. فقبل أن تحل الحرب ظلماتها، كانت مكتبة سمير منصور ليست مجرد ركن لعرض الأدب الفلسطيني الكلاسيكي كأعمال غسان كنفاني، بل كانت أيضًا موطنًا لكتب من شتى الأنحاء بما في ذلك أعمال بالإنجليزية لشيماماندا نجوزي أديتشي وكاري فيشر وغيرهم. وفي هذه المكتبات، كانت الكتب تعد بسلام بعيد المنال، مثل لحظات هدوء في الإسكندرية العتيقة.
وتختم الكاتبة بلحظة تأمل، تصف الصدمة العميقة التي نشعر بها عندما نرى هذه الملاذات الثقافية تحت القصف.
وتلمح إلى أن الكتب الأكثر أهمية عن الحرب ربما لم تُكتب بعد، تلك التي تحمل الأمل في تغيير مسار الأحداث، مثل آمال كنفاني بمستقبل واعد.