بقلم : غاندي النعانعة
"إن فرضيات المثقف الجيدة تكمن في تحييد التزمت لا الإرادة عن ممارسات الثقافة"

حينما يبدأ المثقف بوضع فرضيات يفند أو يدعم بها رأيه، و يقيم عليها اتجاهات بحثه، فإنه عادة يضع توقعا و يضخ تخمينا ضمن مجال الاهتمام الذهني و الفكري لقضية يعتقد بجدوى متابعتها للتوصل إلى نتائج يعتمدها في درسه.
و لإن تلك الفرضيات التي ينطلق منها المثقف لحل إشكال ما، لا يمكن حصرها أبدا، و لا وضع قواعد للاحاطة بها،ما دامت الفرضيات هي الحياة، و هي الانسان، فإن ربطها في غاية البحث عن المعرفة و الحقيقة قد يخفف من أثر اتساعها، و تشعب مصادرها، أي أن الغاية النهائية منها تغفر خطيئة بداياتها العشوائية ، و المثقف إنسان مهمة، نذر نفسه للمشروع منذ وضع الفروضات له ، فتقدم مرارا لإثبات صدقيتها ، وتراجع صادا مرارا عنها، و هذا يستلزم منه فرضيات صالحة لأن تكون مدار بحث، و أرضية صلبة لإنزال أدوات التجريب، هدما و بناء، ثم الخلاص إلى نتيجة و توصية.
و قيمة المثقف تنبع من قدرته على إنتاج وتكوين ليس تلك الأفكار المتناسبة مع معتقداته وتوجهاته فحسب ،بل تنبع من قدرته على الدفاع عن وجود تلك المخالفة لها، و تمتين نظريته في كل حين، ومن ذلك تأتي مراعاة خصوصية مجتمعه وتراثه، وليس من خلال التنازل و التراجع، أو النكوص عما يؤمن به، وبالتالي عما افترضه، ليراوح دور المثقف بين التشخيص لمشكلاته الفردية، و مشكلات مجتمعه، وتقديم حلول فعّالة لتلك المشكلات ،و اضعا نفسه أمام مراحل بحث دقيقة تتطلب دراسات و تحليلات، من المؤكد أنها بحاجة إلى خيال لامحدود يصل به العمل إلى لحظة يكون فيها خارج التاريخ و الذاكرة ، لأن مهمة المثقف كذلك هي المجاوزة، و التفوق، و الحلم، تفتيت الصورة، نكرانها لا تقبلها، و بناء أخرى جديدة.
إن المثقف باحث حر ، ومبدع للحلول، يعلم متى يتحرر من أدوات البحث، و منهجية الخطوات،و يعلم متى يلتزمها، فكل سبيل لديه هو سبيل إلى معرفة الفرض الجيد من الرديء، و هو يعلم تمام المعرفة أنه في الوقت الذي فيه قد يصلح أي منها لأن يكون مبدأ لعمل أو مشروع ما، أنه ليس من الضروري أن ينشأ عن فروضاته أي معرفة،ولأننا ملزمون بالبحث عن نقطة انطلاق معينة، يصبح من الضرورة الحرص على انتقاء مواضع التقدم الأولى، و البدء من أشدها ثباتا.
من جهة أخرى ثمة تساؤلات تتعلق بتلك الفروضات تقتضي التفكير فيها، متعلقة بمصدرها، و جدواها ، و صلاحيتها لتقوم عليها حياة، أو حق، أو يدفع بها شر أو استلاب.
لينظر المثقف للفرضيات باعتبارها عناصر أولية، و مبدأ عمل ، تتأثر بتباين الخبرات والثقافات، مما يجعل بعضها قابلة للتحدي والتغيير بمرور الوقت، يلزم لقبولها تحييد الإيمان الفخور بها، إذ تبدأ عادة تلك القضايا الجدلية أو النظريات أساسا من بعض تلك المقدمات القائمة على مصادر موثوقة، وتجارب واقعية، تشمل وجود تراث ثقافي، وتفاعل مع المعرفة، و تعلم مستمر، إضافة إلى فهم لقيم الاجتماع، و مفاهيم الاقتصاد، و أبعاد السياسة.
و ما التحقق من صحة الفرضيات، و اثراء إجراءات الاشتغال عليها بناءً على المعرفة الجديدة إلا أمر يساعد في فهم أفضل وأكثر دقة، و ما جدوى فرضيات المثقف إلا في توفير إطار فهم للعالم،يرفع الغموض عن وقائعه، و يوجه الأفكار نحو تصور يسهم في اتخاذ القرارات، والمشاركة الفعّالة في المجتمع و العالم، و من خلال تحديث و تحليل العوامل والجذور التي دفعته للانتصار لبعض الفرضيات دون أخرى، يمكن له تطوير الرؤية الأكثر تنوعًا، و الفهم الأعمق للتحديات.