21-03-2008 05:00 PM
نستطيع أن نؤرخ لتاريخ المنطقة العربية الممتدة من اليمن إلى المغرب، بما قبل بدء البعثة النبوية وما بعدها، كتغير شامل قلب المنطقة بشتى أشكالها، فما ترويه كتب السير من علامات بعد ولادة النبي محمد عليه السلام كانت تمهد لانطلاقة أخرى مغايرة تماما لما قبلها للشعوب والقبائل العربية التي كانت تعيش في ضياع دون فكر أو وجود حضاري شامل يجعلها قوة مؤثرة في ذاتها قبل أن يتجه تأثيرها لمقاومة الغزو الخارجي. كان التقسيم الحضاري لجزيرة العرب واليمن وبلاد الشام ومصر متشتت وفي حالة ضياع، لا توجد فيه أقل أنواع اللقاء سوى التبادل التجاري والغزو القبلي المتأثر بالحضارات المستعمرة وانصياع كامل لنفوذها العسكري. وإذا كانت المنطقة شهدت تواجدا لبعض الحضارات العربية المتعاقبة، إلا أنها كانت غير مكتملة، فالأنباط مثلا وهي أقوى الحضارات العربية كان ينقصهم الفكر الديني أو المنظومة الفكرية مقارنة مع التواجد الديني اليهودي فسيطرت عليهم عبادة الأصنام، فيما تميزوا لستة قرون بالقوة السياسية والتوسع المعماري، ونرى المسيحيين الغساسنة تابعين بشكل كلي في مناطق الشام للقوة الرومانية، وشرقا فإن المناذرة يتبعون الحضارة الفارسية سياسيا دون أن تنتقل لهم أو أن يحصلوا على القوة الحضارية الفارسية. البشرية عموما قبل البعثة النبوية كانت تعاني من الإرهاق والضياع، ولم تكن أية حضارة قادرة على النهوض في البشرية، فالرومان غرقوا في القتل والانحلال الأخلاقي والاستعمار الامتصاصي للآخر فيما تقف القوة الفارسية على عقائد عبادة النار وسيطرة الحكام على حقوق الشعوب. على الصعيد الديني، اليهود متفرقون وعقيدتهم منكفئة على نفسها ولا تقبل المد لمعتنقيها، وتتجه إلى الانزواء السكني، فيما عانت المسيحية من الاستغلال الروماني السياسي بعد القرن الخامس الميلادي وتوزعت باقي المذاهب على مناهج سلوكية أو صوفية غير شاملة للنهوض بحاضرة تجلب العدل الاجتماعي وتقديم منظومة سلوكية تخرج العالم من ضياعه. أسوأ الحالات التاريخية فكريا واجتماعيا كانت في الجزيرة العربية، حيث ولد الرسول في مكة التي كانت تتآكلها أنظمة الاستعباد والربا وعبادة الحجارة، ولا يوجد بها أي مسلك أخلاقي، سوى بلاغيات لغوية لا تقدم سوى بعض العادات الشخصية المتلازمة مع سلوكيات عربية عادية جدا. الأمة "الأمية" العربية لم يكن لها رسالة مثل المسيحية أو اليهودية أو منهجا أخلاقيا مثل اليونان أو قوة عسكرية أو حتى حكماء، إنما تجمعات بين بقايا الإبراهيمية لشعائر سيما الحج، ومن ثم عبادة متخلفة لا تناسب حتى ذلك، أما السلوكيات المجتمعية فقد كانت الأسوأ وتخدم عظماء، مثلما وصف العالم سيد قطب نظامها المعيشي بأنه لا يصلح حتى لمجموعة من الخراف، أما سياسيا فلم يكن لها سوى جولات وحروب قبلية داخلية وغياب كامل للنظام اجتماعي. مهّد الله سبحانه وتعالى لقائد الأمة بشخصية تختلف سلوكيا عن معالم الشخصية العربية الغارقة في الشهوات وحب المال، فقد نشأ الرسول في طفولته بعيدا عن عبادة الصنم والانكباب على الخمر والنساء لذا سمي "بالصادق" واختار له الله نسبا لعائلة عريقة لها شرف سقاية الحجيج، وتكللت هذه الشخصية بأحسن الصفات، وأبعده الله عن جميع مصادر العلم والشعر في ذلك العصر. عندما أرسل الرسول لتغيير منحى الجزيرة العربية الخالية فكريا والمستعمرة حضاريا كان يحمل رسالة العلم بكلمة "أقرأ"، وهذه أكبر عراقيل الفترة المسمية بالجاهلية لأنها تفقد لمنهج معرفي تنظيمي، ومن المؤكد أن تواجه دعوته بالرفض والمحاربة من قبل المستغلين للضياع الأخلاقي للقبائل، وسرعان ما جرف الإسلام تلك الشوائب ليقف النبي العظيم في فتح مكة لإعلان عصر جديد يهدم عبادة حجارة ويعلن عن دين إلهي أخلاقي اجتماعي يملك الشمولية للانطلاق من مكة إلى الأرض كلها بعد أن سامح جاهلية مكة السابقة ونقلها من الطاغوت إلى العدالة الإلهية، فتتوسع أراضي المسلمين وتتحرر تباعا من عبودية الإنسان والفرس والرومان إلى وجود العقل والفكر في انسجام متكامل مع فطرة الله التي عكسها الإسلام. لم تكن ولادة الرسول بداية تغير جذرية للجزيرة العربية وحسب بل للبشرية بأكملها. فقد صهر الإسلام عقائد الفرس وجعلهم علماء كانوا من أهم المفكرين والمغيرين في التاريخ الإسلامي واتجه غربا إلى الأندلس ليسجل أقوى الفترات الحضارية الانسانية فيها. شكلت شخصية الرسول تغيرا في مفهوم الحضارة التي تعتمد على المد والتوسع العسكري والاقتصادي إنما تغيير السلوك المنافي للعقل الإنساني وصيانة حرية العيش للفرد والمجتمع. ولادة الرسول قلبت موازين البشرية وختمت الرسائل السماوية وصنعت تغيرات شاسعة في تاريخ البشرية جغرافيا وتأريخيا وقلبت معالم الحضارات. فأزيل بعضها وضعف آخر وانتصر البعض، ولم تعد الجزيرة العربية مناطق قبلية بل مراكز حضارية مؤثرة وصار للعالم نظاما فكريا دينيا، يمكن عبره أن نجمع بين الروح والحضارة بين العدل والقوة دون الإخلال بعناصرها
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
21-03-2008 05:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |