حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,23 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 2162

اللغة وتشكيل الذات .. كيف تصوغ رؤانا لأنفسنا؟

اللغة وتشكيل الذات .. كيف تصوغ رؤانا لأنفسنا؟

اللغة وتشكيل الذات ..  كيف تصوغ رؤانا لأنفسنا؟

13-03-2024 06:50 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - "إن اللغات بتفاعلها وتناميها، وصحتها ومرضها، وحضورها وغيابها، وارتقائها وهبوطها، هي أشبه ما تكون بالكائن الحي المتنامي، بكل صفاته وخصائصه وأطواره وتطوره، هي تمثل الروح الممتدة، المحركة للإنسان، المجددة لنفسه، والمنمية لعقله وتفكيره، الصائغة لعلاقاته، الموسعة لخبراته وقدراته. فاللغة هي دينامية الإنسان، أو هي الإنسان، هي عقله، وعلمه، وثقافته، وهويته، ومفتاحه في الدخول إلى بوابة الكون الكبير، واستكناه آياته في الأنفس والآفاق".

هكذا عبر المفكر الإسلامي عمر عبيد حسنة عن أثر اللغة في صياغة الذات في مقدمة كتابه المشترك مع عدد من المؤلفين "اللغة وبناء الذات"، فاللغة كما يراها وسيلة الحركة الإنسانية كلها، في المجالات العلمية والسياسية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والتربوية، وهي وعاء ذلك كله ووسيلته، وإذا تراجعت اللغة، أو تعطلت توقفت الحركة الإنسانية وانقطع الاتصال والتواصل والتفاهم، ذلك أن اللغة من أهم وأدق طرق إنشاء الارتباط والتواصل بين الناس وبين الأجيال المتعاقبة، وهي أوعية المعلومات يتحقق بواسطتها النقل الثقافي والتراكم المعرفي وحفظ المخزون التراثي، وهي جسر التبادل العلمي المعرفي.

إن اللغة هي محرض التفكير، ومحرك الاجتهاد والتجديد، ووسيلة التفاهم والإقناع، ومفتاح الإقلاع الحضاري، هي الثقافة، وهي الحضارة، وهي العلم، والتنمية، والتفكير، والتعبير، وهي الشخصية بكل قسماتها وسماتها وذاكرتها وفلسفتها ورؤاها.

كيف تحدد اللغة صورنا الذهنية لدى الآخر؟ وكيف تؤطره وتصوغه لدينا؟
إن اختزال اللغة بوصفها أداة للتواصل كما يتوهم كثيرون مجحف بحقها وبحق الهويات البشرية، لأنها ليست محض لسان للتعبير عن الحاجات. فاللغة تعكس أسلوب المرء وعقله وتفكيره، وتعكس طريقة معاشه أيضا، فالإنسان يفكر بينه وبين نفسه بلغته الأم، وأسلوب معالجته للأفكار لا بد أن يكون متسقا مع آلية تفكيره ونظرته للحياة ورؤاه للواقع وتوقعاته منه، فباللغة يعبر المرء عن نفسه، ويرسم صورته الذهنية لدى الآخرين، وبها أيضا يحدث نفسه في تقييمه للآخرين ولغاتهم وأحاديثهم وسلوكياتهم، ولا نشط إذا ما وصفنا لغة المرء بعصب التفكير لديه، فمخرجاته اللغوية تظهر منطقه، وتراكيبه، وتفضيله لتعابير لغوية على أخرى ونظمها بشكل معين وانتقائه لها دونا عن غيره يعكس أهدافه ومراميه، ويسهم في خلق صورته عند الآخرين، ويمكن له أن يعمد إلى تجميلها أو تقبيحها.

ومن هنا جاءت مقولة "حدثني حتى أراك"، هذه المقولة التي نسبت إلى سقراط وإلى غيره من الناس، والمغزى منها أن لغة المرء وطريقة تفكيره الواضحة في أسلوب حديثه تعكس مزايا شخصيته، وترسم صورته الذهنية لدى الآخرين، فيختصر المرء في محيطه بكلمة وحديث، لا بشكل وهيئة. وقد أثر عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال "الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام". فالكلام يحدد هوية المرء الذاتية ويعبر عنه.

وفي سياق هذا الحديث أذكر ما قاله الخليفة الأموي الشهير عبد الملك بن مروان، حين سئل عن كثرة الشيب الذي غزا رأسه بعد أن صار خليفة، فأجاب إنني "أعرض عليكم عقلي في الشهر 4 مرات" يقصد خطبة الجمعة التي كان يلقيها بنفسه كل يوم جمعة، فكيف لا يغزو الشيب رأسي!

ويعبر شيخ الإسلام ابن تيمية عن تأثير اللغة في صياغة الذات، ورسم صورتها عند أنفسنا وعند الآخر بقوله في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم"، "اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية، التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فإنه من التشبه بالأعاجم، ولا ريب أنه مكروه، ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، وكانت لغة أهلهما رومية، ولما سكنوا أرض العراق وخراسان وكانت لغة أهلهما فارسية، وكذلك المغرب وكانت لغة أهلها بربرية، عودوا أهل هذه البلاد التحدث بالعربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار، مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديما.

ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، إنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه صعب". وعن تأثير اللغة في فكر الإنسان ومنطقه قال "واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق".

ما العلاقة بين نظم الجمل في اللغة العربية وتشكيل الذات؟
إن ترتيب الكلم في الجمل في اللغة العربية يخضع لقواعد النحو العربي، لكنه ينتظم في الوقت نفسه بقالب بلاغي يعكس أسلوب الكاتب وطريقة تفكيره ورسائله المباشرة وغير المباشرة التي يريد إيصالها إلى القارئ علانية أو خفية.

إن ولاءنا نحن -العرب المسلمين- للغة العربية مضاعف، فهي مكون أساسي من مكونات هويتنا الوطنية والقومية وعنصر جوهري من عناصر انتمائنا الديني، لذلك يبدو اهتمامنا بها مبالغا للغرب في بعض الأحيان، ويروق لبعض الناس عربا ومسلمين وغير عرب وغير مسلمين أن يعزو عنايتنا بها وولاءنا لها إلى محض كوننا مسلمين، ويقصدون بذلك تأطير اللغة والحد من حجمها الحقيقي بجعلها مرتبطة بالدين فحسب. والحقيقة أنها كيان لغوي مستقل يزدان بعبقرية خالصة، وتتميز بأنها القالب البديع الذي حوى معجزة الدهر، وحملها لتتوارثها الأجيال إلى أن تقوم الساعة، فهي اللغة التي اختارها الله تعالى لتكون لغة القرآن الكريم آخر الكتب السماوية، فهي لغة خطاب السماء للعالمين على اختلاف أعراقهم وأجناسهم ومشاربهم وألسنتهم.

وإذا ما تساءلنا: لماذا اختار الله اللغة العربية لتكون اللغة الخالدة، لغة القرآن الكريم؟ فإننا لن نصل إلى جواب جازم يقنع جميع الخلق، لكننا -المسلمين- نؤمن أن وراء اختيار الله حكمة بالغة، ونجتهد في تبيين ذلك وإيضاحه، فتركيب الكلم في الجملة العربية يتسلسل بمنطق النظر إلى الحدث ونقله، فالجملة الفعلية على سبيل المثال تبدأ بالفعل فالفاعل فالمفعول به، ثم تأتي الظروف لاستكمال بناء الصورة الذهنية عن الحدث المنقول لدى المخاطب، وهذا موافق تماما لآلية المنطق العربي، فالحدث الممثل بالفعل هو الأهم، ثم يأتي من قام بالفعل في الدرجة الثانية من الأهمية، ثم يليه من وقع عليه الفعل، وتبقى الظروف مكملات للحدث، غير أن ذلك لا ينطبق على اللغات الأخرى، فكل لغة تعكس منطق القوم الذين يتحدثون بها بوصفها لغتهم الأم.

وماذا عن الجملة الاسمية في اللغة العربية؟ لا يبعد الحديث عنها عن الجملة الفعلية كثيرا، فعمادا الجملة الاسمية هما المبتدأ والخبر، وبعبارة أخرى هما المسند والمسند إليه، وكلا نوعي الجمل في العربية منطقيا يدوران حول فكرة الإسناد، إسناد الخبر إلى المبتدأ للحصول على معنى مفيد وصريح ومباشر، وإسناد الفعل إلى الفاعل لتحقيق المعنى المراد وإيصاله.








طباعة
  • المشاهدات: 2162

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم