25-03-2024 05:35 AM
سرايا - حسمت مصر أخيرًا قرارها الذي صب في مصلحة رجال الأعمال الجشعين وسوق الأوراق المالية، حيث اتخذ النظام العسكري قرارين تاريخيين من شأنهما التأثير بعمق على أداء الاقتصاد الوطني إذا تم تطبيقهما على المدى الطويل. وكان الإصلاح الذي تم إحداثه في سوق الصرف الأجنبي هو الأبرز. فحتى ذلك التاريخ، كان البنك المركزي الذي يخضع بالكامل لسلطة الدولة يتحكم في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار أو اليورو. ولكن، من الآن فصاعدا ستتحدد قيمته بناءً على العرض والطلب على العملات الأجنبية. فإذا كان هناك نقص في العملات الأجنبية كما هو الحال منذ أكثر من عامين بسبب الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا، فإن أسعارها بالجنيه المصري ترتفع وتزداد ندرتها. ومنذ العام 2022، قام البنك المركزي المصري بتخفيض سعر العملة الوطنية أربع مرات بنسب كبيرة، حيث قفزت من 17 جنيها إلى أكثر من 30 جنيها مصريا للدولار الواحد. وفي السوق السوداء، وصل سعر الدولار إلى أكثر من 70 جنيها. أما في الفترة المقبلة، فستتحدد قيمة العملة الوطنية في مقابل العملات الأجنبية بصفة يومية.
تنازلات الدولة
يتعلق الإصلاح الثاني بالأسواق المالية. فالمدخرات الوطنية يتم تعويضها بأسعار فائدة لا تواكب ارتفاع الأسعار. لكن هذا "القمع المالي" الذي أثار استياء أقلية ميسورة الحال تملك وحدها القدرة على الادخار يجب أن ينتهي قريبا، ومن هنا جاءت موجة التكهنات التي تحققت على الفور. لفترة زمنية غير معلومة المدى، ستتجاوز أسعار الفائدة معدلات التضخم وستتغير يوميا من خلال المقارنة بين العروض وطلبات الائتمان. وفي 6 آذار (مارس)، تم تقليص الفجوة بين المنحنيين بفضل الارتفاع الفلكي في أسعار الفائدة من +6 في المائة إلى ما بين 24 و30 في المائة.
بهذا الحدث السياسي الجلل، تكون الدولة المصرية قد أرخت قبضتها عن أداتين اقتصاديتين رئيسيتين، هما سعر الصرف وسعر الفائدة -وهي القبضة التي استمرت منذ خمسينيات القرن الماضي إثر تولي الرئيس جمال عبد الناصر الحكم. ولم تتم تلك الطفرةبجهود حكومية خالصة كما زعم رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمره الصحفي المنعقد بالإسكندرية في 7 آذار (مارس)، ولكن تحت الضغط المستمر لصندوق النقد الدولي، حيث كثفت مديرته، كريستالينا جورجييفا، وهي خبيرة اقتصادية بلغارية بدأت مسيرتها في الحقبة السوفييتية، من زياراتها للقاهرة معربةً عن رفضها القاطع لزيادة المساعدات المالية البالغة 3 مليارات دولار على ثلاث سنوات من دون الوصول إلى اتفاق على سعر الصرف، وهو مبلغ زهيد، بل وأقرب إلى الإهانة بالنسبة لأكبر بلد عربي على الإطلاق من حيث عدد السكان.
ولكن، في 6 آذار (مارس)، تجاوز دعم صندوق النقد الدولي 9 مليارات دولار، مع التزام البنك الدولي والاتحاد الأوروبي بتقديم 15 مليارا أخرى. وتضاف إلى هذه المساعدات صفقة عقارية غامضة تمولها رؤوس أموال إماراتية ستدر أكثر من 35 مليار دولار، منها 5 مليارات تُدفع على الفور. وتعول الحكومة كذلك على عودة المهاجرين إلى القنوات الشرعية لتحويل أموالهم بعد أن اتجهوا بكثافة إلى السوق السوداء في الفترة السابقة (بلغت التحويلات حوالي 30 مليار دولار في العام واحد).
الضحايا الرئيسيون: الفقراء
هل تستطيع هذه التدفقات المفاجئة أن تحقق للاقتصاد الذي تعرض لصدمة غير مسبوقة استقراره؟ لقد وصل سعر الدولار الواحد إلى 50 جنيها مصريا وبلغت أسعار الفائدة 30 في المائة، وهو ما كان له بالغ الأثر على الحياة اليومية لأكثر من 106 ملايين مصري. ومع تجاوز التضخم السنوي معدل 35 في المائة بالفعل، فإن الأسعار والنشاط الاقتصادي هما المتضرر الأول. وبالنسبة للفقراء الذين تقدر نسبتهم بما لا يقل عن 60 في المائة من السكان، يشكل تدبير الطعام تحديا. أما بالنسبة للشركات، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، فإن أسعار الخامات المستخدمة في التصنيع، والتي يتم استيراد معظمها وشراؤها بالعملة الأجنبية، تجعل الوصول إليها شبه مستحيل. وقد عدلت و"كالة موديز"، وهي إحدى الوكالتين الرئيسيتين للتصنيف الائتماني في الولايات المتحدة الأميركية، نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية، وأعربت عن تفاؤلها بالاستثمارات الأجنبية في مصر. لكن هذا لن يغير شيئا في الوقت الراهن.
وسوف تلعب توقعات مختلف اللاعبين الاقتصاديين دورا رئيسيا. فإذا توقعوا دخول الأسعار المحلية وأسعار العملات في الحلقة المفرغة نفسها مجددا، فلن يكون سعر 50 جنيها للدولار أكثر من مجرد ذكرى -خاصة وأنه وصل بالفعل إلى 72 جنيها في بداية العام. وإذا لم تصل المساعدات الموعودة أو تأخرت، والتي غالبا ما ترتبط بمشاريع صناعية أو مشاريع البنية التحتية، فقد يتعرض الاستقرار للخطر أو يتأجل.
وهناك مأزق آخر هو الوضع اليائس للمالية العامة. يلتهم عبء الدين، أي دفع الفوائد المستحقة على ديون الدولة، ثلثي إيرادات الميزانية، ويتبقى ثلث صغير لمساعدة الفئات الأكثر حرمانًا على عدم الموت جوعًا ودفع أجور (هزيلة) للملايين من موظفي الخدمة المدنية، بالإضافة إلى تدريب عدد كبير من الشباب وتلبية احتياجات جيش باهظة التكاليف. وليست إعادة هيكلة الديون، كما حدث في التسعينيات في أعقاب حرب الخليج الأولى، على جدول أعمال الدولة، والدبلوماسية الدولية غير قادرة على الوصول إلى حل لهذه الأزمة التي تؤثر تقريبًا على جميع الدول الناشئة غير النفطية. في حالة الفشل في ذلك، هل ستجد مصر طريقها للعودة إلى الأسواق المالية العالمية كما فعلت بين العامين 2013 و2021؟ هذا أمر مستبعد، وسيجعل من الضروري اللجوء إلى طباعة النقود وإعادة إطلاق عملية البحث عن الدولار قبل العودة إلى إصلاحات السادس من آذار (مارس).