08-04-2024 09:13 AM
سرايا - تعرف الشروقيات بوصفها: "قصيدة طويلة تسير على بحر واحد، وهي عبارة عن حكاية شعبية أو أقصوصة تحكى من خلال القصيدة، وقد تكون واقعية أو متخيلة"[1].
ومن هذا القالب قصيدة تجري على لسان أسير فلسطيني، تنتمي إلى مرحلة مواجهة الانتداب البريطاني قبل النكبة، في مرحلة صعبة كثر فيها السجن والأسر، وإصدار أحكام الإعدام لإيقاف الثورات المتتابعة التي انتهجها الفلسطينيون في مواجهة ما حل ببلادهم ووطنهم. تنسب هذه القصيدة لشاعر ومناضل تعرض للأسر قيل إن اسمه (عوض النابلسي) وإنها وجدت محفورة على جدران زنزانته قبل إعدامه: "وفي هذه الأبيات من الشروقي يعبر الأسير عوض النابلسي عن معاناة الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، وقد وجدت منحوتة بأداة حادة على جدار زنزانته في سجن عكا، ويقال: إنه نظمها ليلة إعدامه[2].
الشروقيات
ويرجح د.محمد عقل أن القصيدة من صنع شاعر حاذق استلهم معاناة الأسر والسجن والحكم بالإعدام، وهو ما تعرض له (أي الإعدام) نحو 150 ثائرا ومقاوما رصد عقل أسماءهم ومعلومات عنهم استنادا إلى السجلات والوثائق، ولكنه لم يجد بينهم من يدعى بــ(عوض النابلسي) فهو أقرب إلى "شخصية فلكلورية وأسطورية من صنع شاعر حاذق". والقصيدة معروفة ومشهورة وأسهم غناء فرقة العاشقين لها في شيوعها[3]:
يا ليل خلي الأسير تا يكمل نواحو رايح يفيق الفجر ويرفرف جناحوا
يتمرجح المشنوق من هبة رياحو وعيون في الزنازين بالسر ما باحوا
يا ليل وقف أفض كل حسراتي يمكن نسيت مين أنا ونسيت آهاتي
يا حيف كيف انقضت بإيدك ساعاتي شمل الحبايب ضاع واتكسروا اقداحوا
لا تظن دمعي خوف، دمعي ع أوطاني ع كمشة زغاليل بالبيت جوعاني
مين راح يطعمها من بعدي وإخواني اثنين قبلي ع المشنقة راحوا
وأم أولادي كيف رح تقضي انهارها ويلها علي أو ويلها على صغارها
يا ريت خليت في إيدها سوارها يوم دعاني الحرب تا اشتري سلاحو
ظنيت إلنا ملوك تمشي وراها رجال يخسا الملوك إن كانوا هيك أنذال
والله تيجانهم ما بيصلحوا لنا نعال إحنا اللي نحمي الوطن ونضمد جراحو"
وتنقل القصيدة مشاعر الظلم التي تعرض لها السجناء الفلسطينيون ذلك أن "السجن في المفهوم الشعبي للشجاع البطل، وهو شرف لا يخطئ به إلا كل ذي بأس وقوة، والسجين مظلوم لأن السلطات التي حكمت فلسطين بداية بالعثمانيين حتى بريطانيا والصهيونية هي سلطات قمع للوطنيين"[4].
ومن الشروقي كذلك هذه القصيدة التي وثقت بطولة (أبو كباري) أحد المجاهدين المعروفين في مسيرة النضال قبل النكبة، وله مع رفاقه حوادث كثيرة خلدها الشعر والحكاية الشعبية[5]:
أول كلامي في مديح محمدا الهاشمي سيد ولد عدنان
ليلة الثماني من ربيع الأمجدا نهار الثلاثا كنت أنا وفرحان
صار الرمي بين الجماعة سرمدا وقع أبو كباري والفتى شعبان
قال له حميده آه يا سبع الفلا عندك لابيع الروح في الميدان
ورافق الشعر الشعبي الشعب الفلسطيني في مسيرته القاسية، وتطور منه قصيد بكائي نوّاح، لا يكسر النفس ولكنه يعبر عن بعد المسافة بين ما كان وما آلت إليه الأحوال، ومثال على ذلك ما ترويه (أم ناصر) إحدى الناجيات من مذبحة دير ياسين ما وصل إليه حال اللاجئين من تشرد وفقر وعوز، وتروي ما كانت النسوة يبكين به وينحن شعرا باكيا يعبر عن حالهن: وبلغة أم ناصر "بقينا نقعد هالنسوان مع بعض ونصير انّوح ونقول[6]: وهو من نمط القصيد البكائي:
"دشرنا بلاد العنب والتين وجينا على ريحا نشحد طحيني
دشرنا بلاد العنب واللوزِ وجينا على ريحا نشحد كاكوزي
هاتوا الجريدة وهاتوا قلمها لنشوف دير ياسين آنو استلمها
هاتوا الجريدة وهاتوا داواها لنشوف دير ياسين آنو اتولاها"
ويؤكد الباحث الراحل نمر سرحان فيما جمعه عن سيرة محارب ذيب الوطنية أنه "ارتبط بهموم بيئته المحلية وأنه غنى لأمجاد الوطن وأبطاله وشهدائه. وجاءت أغانيه أشبه بسجل يؤرخ الأحداث التي واكبت نضال شعب فلسطين من أجل الحصول على حقوقه المشروعة في التحرير والاستقلال. وهو يعتبر ذلك واجبا وطنيا يمليه عليه ضميره تجاه وطنه. ونقتبس هذه المقاطع من قصيدة أحداث طويلة يتحدث فيها عن أبطال الجهاد الوطني وعن عبد القادر الحسيني. وفي هذه القصيدة تتجلى الملامح المحلية الصرفة، ويتغنى بالأبطال الوطنيين المحليين فيعدد أسماءهم ومناقبهم ويشيد ببطولاتهم وتضحياتهم. ويرثي الشهداء منهم، ويحمل في ثنايا قصيدته الإصرار على رفض الاحتلال والعدوان والتمسك بالحقوق الوطنية. يقول محارب ذيب:
ولا يكسب إلا من يصلي على النبي نبي مرسلي والحاج لاجله يرود
يقول عبد القادر بك والقول صادق أنا دموع عيني بللت لخدود
ونيران قلبي كل ما أقول تنطفي يهب لها جوا حشاي وقود
ألا يا غادي مني وحامل رسالتي واقطع فيافي برها وحدود
من هانا وع سوريا ولا يا طيب الثنا بتلاقي أمارة وكلهم أسود
وفوت لعندهم وبلغ سلامنا وهات لي خبرهم وافهم المقصود
أنا لخبرك يا عمي عن اللي جرى لنا واخبرك بالصحيح والموجود
التقينا خمس قواد في ساحة الوغى معانا شبان مسلحة ببارود
معانا أبو دية ولا يا عز ما انتخى يا مثله بالملك ما صارش موجود
معانا إبراهيم خليف هو وعصابته بيده بارودة شغل ابن داود
ومعانا أبو الوليد ويا طيب الثنا وسد على العسكر ثلاث سدود
وأنا عبد القادر بك يا عمي ما بينهم يا ديمة لذكرى بالملك موجود
صار الرمي يا عم والله بيننا تلاطاشر ساعة كاملات عدود
احرقنا الدبابات يا عمي جميعها اكسبنا ذخيرتهم مع البارود
انسحبنا بسلك يا عمي جميعنا ولطف بنا هالواحد المعبود
فهي قصيدة تجري على طريقة الشعر العربي الفصيح من ناحية الوزن والقافية، ولكنها تستعمل اللهجة العامية في لغتها وتراكيبها.
زريف (ظريف) الطول:
(زريف الطول) "قالب لحني يتألف من أربع شطرات تنتهي الثلاث الأولى منها بقافية معينة، وتنتهي الرابعة بقافية الألف الممدودة، وقد أخذ هذا القالب اسمه من مطلع شبه ثابت في كل شطرة أولى من أبيات هذا اللون من الغناء"[8]. ويوصف هذا القالب بأنه "من الألوان الشعبية الحنونة والمحببة وقد غنى المواطن الفلسطيني فيه آلامه وأحزانه، فمن بقي في الوطن يناشد أحبته المهاجرين البقاء في بلاده، فهي أفضل من الغربة التي تدفع بالمرء إلى الابتعاد ونسيان الأحباب:
يا ظريف الطول وقف تقولك رايح الغربة وبلادك أحسن لك
خايف يا حبي تروح وتتملك وتعاشر الأغراب وتنساني أنا
وقد يلتفت المغني الشعبي إلى بلاده وأرضه يبثها أشجانه وتباريح هواه، فهو باق على وفائه مدى الدهر، ولو قطعت أوصاله، وأخيرا وبعد نفاد صبره يلجأ إلى ربه مخاطبا إياه أن يرحم حاله ويعيده إلى وطنه ولو جثة هامدة:
يا زريف الطول بلادي ما أنساها لو قطعوا أوصالي ما أنسى هواها
بالله يا طير وسلم عليها وبوسلي حبابي ولا بد ما التقينا
ويا زريف الطول وما عاد فيه صبور كيف اصبر يا ربي والقلب مكسور
رجعني لبلادي لو جوا القبور واحسب حالي ما خلقت يا ربنا[9]"
(الجفرا) "قالب لحني يضم أربع شطرات، تتحد الثلاث الأولى منها في قافية معينة وتنتهي الرابعة بالألف الممدودة. ويبدأ هذا القالب بلفظ: ع اليادي، أو جفرا ويا هالربع"[10]. وقد عني الناقد والشاعر الراحل عز الدين المناصرة بهذا القالب، وكتب عنه عدة دراسات وأبحاث، إلى جانب توظيف شخصية الجفرا في أشعاره الفصحى، ونتصور أن جانبا من شهرة هذا القالب في العقود الأخيرة له صلة بما حظي به من اهتمام عند المناصرة منذ بداية ثمانينيات القرن الـ20، إلى جانب انتباه الشعراء والفرق الغنائية الوطنية إلى هذا القالب واستعماله في قصائد مغناة جديدة، أسهمت في تعديله من قالب غزلي عاطفي إلى قالب تراثي وطني.
ووفق أبحاث المناصرة ولقائه في لبنان بشاعر شعبي هو أحمد عزيز علي حسن، نسب إليه وضع هذا القالب في التعبير عن قصة عاطفية لم يوفّق فيها، يمكن القول إن "أغنية الجفرا ولدت في قرية كويكات وهي قرية صغيرة على بعد 15 كيلومترا من عكا…وتوزع أهالي كويكات في مخيمي برج البراجنة وعين الحلوة بشكل كثيف، وفي شاتيلا والرشيدية بشكل أقل"[11].
ولكن المميز في هذه الأغنية وفي هذا القالب أنه لم يثبت عند النصوص الأولى التي ألفها أحمد عزيز، وإنما تطور منها قالب لحني لا يقتصر على التعبير العاطفي، بل يتسع للتعبير الوطني والسياسي، والتعبير عن جوانب من الهموم الفلسطينية، مع احتفاظه بالمساحة الوجدانية والبطانة العاطفية التي ظلت الجفرا تتميز بها بمختلف صورها العاطفية والوطنية.
ومن الجفرا الوطنية [12]:
جفرا ويا هالربع من هونا لمصرْ
ومحبتك فلسطين بتعصرنا عصر
واحنا شباب فلسطين عنوان للنصر
يا الله نهجم ع العدا هجمة جماعية
ويقول المناصرة في خلاصة دراسته الميدانية لجفرا: "ولدت أغنية جفرا ويا هالربع في قرية كويكات قرب عكا حوالي عام 1939، على يدي الشاعر الشعبي أحمد عزيز علي حسن، إثر قصة حب فزواج فطلاق لابنة خاله. وأصبحت نمطا (قالبا) غنائيا مستقلا في الأربعينات وانتشرت في كافة أنحاء فلسطين، ثم وصلت بعد عام 1948 إلى الأردن ولبنان وسوريا. ونمط الجفرا ينتمي إلى عائلة ( ع اليادي) و(يما مويل الهوى) و(أبو الزلف) و(يا ريمة اللي فرعت) من حيث القالب اللحني فقط، وقد بدأت تستقل حتى من حيث القالب اللحني…وإذا كان أحمد عزيز هو مبدع الجفرا فإن الشعب أضاف لنصوصها نصوصا جديدة، وأصبح لكل مغن شعبي (جفراه)… أما جفرا قصيدتي الحديثة فهي ترمز إلى فلسطين"[13].
وقدّمت فرقة العاشقين صيغة وطنية للجفرا ضمن القالب نفسه مع ملئه بكلمات وطنية تلائم المناخ الوطني في نهاية سبعينيات القرن الـ20، وهي بصورتها الجديدة من كلمات صلاح الدين الحسيني (أبو الصادق) أحد أبرز الشعراء الغنائيين الذين رافقوا الثورة الفلسطينية، وعملوا على صياغة أغنياتها الجديدة، والتأليف والإعداد الموسيقي للموسيقار الفلسطيني حسين نازك[14]:
جفرا وهي يا الربع
ربع الجهادية
ميه وعشرين سبع
صاروا خمس مية
قالت قديش العدد
ويا جفرا لا تعدي
هذا جيل الثورة انولد
ويا ثورتنا مدي
ويا طير الطاير فوق الجبل هدي
عاكتاف المغاوير صقور الغبراوية
…إلخ
كما قدّمها كثير من الشعراء بصورها الجديدة، مثلما فعل الشاعر والمغني الوطني المعروف أبو عرب (إبراهيم محمد صالح) أحد أشهر شعراء ومغنّي الثورة الفلسطينية، مع تحويرها لتحمل دلالاتها الوطنية الجديدة[15]:
ثورة ويا هالربع شعب وفدائية
ماشيين حتى النصر ضد الصهيونية
جفرا ويا هالربع عالبير نشاله
تنشل المية الضحى وتقول يا غالي
إياك تنسى الوطن وكروم الدوالي
وحصاد زرع القمح عالقمر زهرية
إعلان
إلخ….
الأهازيج والأناشيد:
وهي أشعار خفيفة الوزن، أقرب إلى أوزان الأناشيد والأهازيج، منها أهزوجة للشاعر الشعبي المعروف محارب ذيب يحيي فيها المناضلة ليلى خالد التي التحقت بالمقاومة، من خلال صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين[16]:
حيوا لي بليلى خالد البطلة الفدائية
ليلى نزلت ع بيروت راحت ع القيادة تفوت
قالت والله لو بموت لأسجّل فدائية
وللجزائر وثورتها المجيدة صورة مضيئة في الشعر الشعبي الفلسطيني، ذلك أنها مثلت إلهاما صادقا للشعب الفلسطيني في ثورته، ومن ذلك هذا الشعر الغنائي الذي يمدح أحمد بن بللا أحد قادة الثورة[17] الجزائرية:
بن بللا أكبر زعيم كرسي التحرّر اعتلى
يا غرب شو نابك ملعدوان غير الذلّ والبهدلة
وختاما: فقد نهض الشعر الشعبي في مختلف مراحل الاستعمار والاحتلال بدور وطني لا يعرف التوقف أو التراجع، مدافعا عن هوية الشعب الفلسطيني، ومصورا ما جرّه الاحتلال من مآس وما ارتكبه من جرائم، داعيا إلى الحفاظ على شعلة المقاومة وإلى استنهاض الهمم حتى تحرير الوطن وعودة اللاجئين والمشردين إلى وطنهم.