حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,25 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 6921

باليرمو .. المدينة الإيطالية المعتقة بالتاريخ العربي الإسلامي

باليرمو .. المدينة الإيطالية المعتقة بالتاريخ العربي الإسلامي

باليرمو ..  المدينة الإيطالية المعتقة بالتاريخ العربي الإسلامي

09-04-2024 09:13 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - في طريق العودة من جزيرة لامبيدوزا إلى مطار باليرمو عاصمة صقلية لم تغادرني فكرة مقارنة المهاجرين الذين رأيتهم في الجزيرة وقواربهم المتهالكة بسفن جحافل الفاتحين الذين قدموا من تونس قبل قرون خلت، بقيت تلح عليّ تقلبات التاريخ هذه دون غيرها وأنا أحلق فوق المجال الصقلي.

اخترت سيارة الأجرة بدل القطار للوصول إلى المدينة، التي كانت حسب الجغرافي والرحالة ابن جبير الأندلسي "أمّ الحضارة والجامعة بين الحُسنيين غضارة ونضارة"، لكنني وقعت في فخ الإسراف في الحديث من سائقها الذي عرّف نفسه بباولو. أقحمتني ثرثرته أكثر في مراثي التاريخ التي حاولت أن أتخلص منها.

يخمن "باولو" جذورك بفراسة الخبير في الوجوه، فيبادرك بالحديث عن أمجاد أجدادك العرب الذي مروا من هنا. ينمّق حديثه بكلمات عربية أتقنها من خلال مجالسة المغاربة والتونسيين الكثيرين في الفضاء الصقلي، ومتقمصا دور راوي التاريخ العليم.

بدا كلامه أشبه بسردية مكررة مع كل زبائنه العرب كجزء من متممات المهنة، لكنه كان على الأقل يعرف ما يغيب عن معظم الإيطاليين، وحتى العرب، حول المفاصل الكبرى لتاريخ باليرمو العربي الإسلامي وبقاياه.

تمتد معرفته أيضا بالتاريخ العربي إلى جزر بانتالريا وسردينيا وحتى مالطا القريبة وإسبانيا، فقد كانت جزر المتوسط وسواحله ملتقى حضارات رسم الفاتحون المسلمون جزءا مهما من تاريخها.

بدت "بلرم" -كما سماها العرب- مدينة جميلة تضج بالحركة وهي تسترخي بين الجبال في حضن البحر الأبيض المتوسط، تحفّ أشجار النخيل معظم شوارعها وكذلك أشجار البرتقال التي جلبها المسلمون معهم إلى الجزيرة، ويبدو أنه فاض عن الحاجة ولم يجد من يقطفه.

بقيت صقلية نحو قرنين ونصف في ظل الحضارة العربية الإسلامية وشهدت ممالك وإمارات وصراعات وتفككا وسقوطا، لكنها وعاصمتها باليرمو لا تحضر كثيرا في المخيال العربي الإسلامي مثل "إشبيلية" أو "غرناطة" أو "طليطلة"، ولا تحظى أيضا بالاهتمام التاريخي والثقافي نفسه. ربما لم يبق فيها أيضا الكثير مما يضاهي تلك المدن الأندلسية من آثار وشواهد.

لو كان المقصد إسبانيا، وبإلحاح النوستالجيا ستكون شواهد الحضارة العربية الإسلامية الكثيرة في غرناطة وقرطبة ضمن أولويات الرحلة، وبإلحاح المراثي، سيحضر "طارق بن زياد" ثم دموع "أبي عبد الله الصغير" واقفا على تخوم غرناطة مودعا آخر قلاع الأندلس، تخاطبه أمه "ابك مثل النساء على ملك لم تحافظ عليه مثل الرجال".

لا بد ستذكر مطلع قصيدة أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس ومطلعها "لكل شيء إذا ما تم نقصان .. فلا يغر بطيب العيش إنسان". لكن في باليرمو قليلون سيذكرون فاتحها "أسد بن الفرات" (759م-828 م) أو شاعرها الأشهر "ابن حمديس الصقلي" (1055م-1133م)، الذي رثاها أيضا بقوله.

وعزكم يفضي إلى الذل والنوى .. من البين ترمي الشمل منكم بما ترمي

فإن بلاد الناس ليست بلادكم .. ولا جارها والخلم كالجار والخلم

بدأت حملات الفتح الإسلامي نحو الجزيرة البيزنطية وثغورها منذ منتصف القرن السابع الميلادي، لكن الأغالبة -الحكام العرب لتونس في القرن التاسع الميلادي- هم الذين أطلقوا الحملة الأضخم والأكثر استمرارية من مدينة سوسة نحو الجزيرة عام 827م بقيادة القاضي أسد بن الفرات، ووصل الفتح إلى نهايته في عام 965م.

ظلت صقلية تحت السيادة العربية الإسلامية من سنة 827م إلى سنة 1091م، وانتقلت السيطرة على الجزيرة وأجزاء منها بين الأغالبة والفاطميين والكلبيين والأدارسة، وكانت منقسمة إلى 5 إمارات، وبقيت باليرمو حاضرة صقلية العربية إلى أن سقطت بأيدي النورمان سنة 1072م.

ونحن نجول في المدينة، ذكّرني الدكتور لوكا دانّا أستاذ اللغة العربية بجامعة نابولي (الشرقية) بمرثيات ابن حمديس تلك. لم أتفاجأ بإلمامه بتاريخ صقلية وإرثها اللغوي العربي أو بلهجته الليبية المتقنة، بقدر ما تفاجأت بحفظه أبياتا كثيرة للشاعر الصقلي -الذي يحسب على شعراء الأندلس- وكذلك أشعار ابن القطاع السعدي الصقلي، وإلقائها بشكل جميل وجذاب.

يؤكد الدكتور لوكا أن باليرمو -التي اختارها المسلمون عاصمة للدولة الصقلية عام 831م- شهدت أزهى عصورها ثقافة وعمرانا وفنا وأدبا واقتصادا وتجارة في تلك الحقبة، ما زالت مفرداتها حاضرة إلى اليوم.

ويصف الرحالة الشريف الإدريسي مدينة باليرمو في تلك الحقبة (عام 1138م) بقوله: "ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعتها وبدائع مخترعاتها".

يشير الدكتور لوكا إلى أن تأثيرات تلك الحقبة ما زالت ماثلة في جوانب لا حصر لها من الحياة اليومية بما فيها اللغة، كما أن معظم الصقليين ما زالوا يفتخرون بماضيهم الذي ينبع بطريقة أو بأخرى من الحضارة والثقافة العربية الإسلامية.

استحضر الكثير من تلك مفردات العربية وجذورها واشتقاقاتها في مجالات المعمار والزراعة والصيد البحري وأسماء المدن والأحياء والمواقع التي تنطق بلكنة إيطالية لا تخفي أصلها العربي من قبيل "الجابية" (دجبيا) "الساقية" (شاكا) أو "القفة" (كفا)، أو "قلعة" (كالتا).

تجد أيضا مفردات مثل "الشبكة" و"الرايس" بالمعنى نفسه المستعمل في شمال أفريقيا أي قائد قارب الصيد، تماما مثل "المعصرة"، وقد أضاف العرب الكثير لقطاع الزراعة ونظم الري وجلبوا معهم تقنيات أحدث وأنواعا أكثر مثل الحمضيات والفستق والنخيل وقصب السكر والقطن والتمر والزيتون والجلجلان وغيرها.

حافظت بعض المدن والقرى أيضا على أسمائها العربية. ينحدر لوكا نفسه من قرية "رافاديلي" واسمها العربي هو "الراحل الأفضل"، وما زالت بعض الأحياء والمناطق في المدينة تنطق باشتقاقها العربي ومن ضمنها "القصر"(كسارو) و"الخالصة" (كالسا).

يعرف معظم الإيطاليين أن قصر "لا زيسا" (La zisa) الواقع في قلب مدينة باليرمو مشتق من الاسم العربي "العزيزة"، وكذلك سوق العطارين (لاتارين) العامر بالمتسوقين وتفوح منه بمجرد دخوله رائحة التوابل بأنواعها، والذي لا يختلف في طريقة العرض والسلع عن الأسواق في مدن شمال أفريقيا العتيقة.

ويبرز ذلك أيضا في سوق "بالارو" (Mercato di Ballarò)" بصخبه وازدحامه، وسوق "دل كابو" (Mercato del Capo) المفتوحة، حيث تعلو نداءات الباعة أيضا على الطريقة العربية.

ويحفل المطبخ الصقلي أيضا بالأكلات والحلويات ذات الأصل العربي والأمازيغي (التونسي بالأساس) أو مكوناتها، بما في ذلك طريقة العرض والتصنيف والمكونات، وبخلاف المركز العصري للمدينة تحس أنها بتفاصيلها ونمط حياتها وناسها أقرب إلى الجنوب الذي لا يبعد كثيرا عنها. والذي جاء منه الفاتحون قبل أكثر من 12 قرنا.

لا يخفى تأثير العمارة العربية الإسلامية في باليرمو، وبشكل عام في جميع أنحاء الأراضي الإيطالية بشكل متفاوت، وينتشر النمط المعماري الذي يشتمل على القباب والأقواس العربية والمقرنصات (الأشكال المقعرة أو المجوفة)، وشكل الأبواب وزينتها والزخرفات وكذلك الشرفات في باليرمو ومدن صقلية الأخرى .

يبدو قصر "الفوارة" (Castello Della Favara a Maredolce) أو ما بقى منه الذي بنى أواخر القرن العاشر في عهد الأمير الفاطمي جعفر الكلبي (حكم بين 988م و1019م) حسب المؤرخ الإيطالي ميخائيل أماري (1806م-1889م) نسخة من القصور والرباطات التي تنتشر في مدن شمال أفريقيا.

تظهر تلك التأثيرات أيضا في كنيسة "سان جيوفاني ديجلي إريميتي" التي كانت أحد مساجد باليرمو القديمة قرب القصر النورماندي. وتبين أشكال الشبابيك والأقواس والقباب الحمراء اللامعة للكنيسة التأثيرات المعمارية العربية الكبيرة في صقلية في ذلك الوقت، تماما مثل "كنيسة كاتالدو" التي تمزج بوضوح بين أساليب العمارة العربية والنورماندية.

وبشكل عام، توجد 9 مواقع مصنفة ضمن التراث العالمي لليونسكو أقيمت معظمها على أسس بناءات عربية أو نمط معماري عربي تأثر به النورمانديون، بينها قصر "لا زيسا" الذي بُني من قبل المعماريين والحرفيين العرب في القرن 12 الميلادي.

ويصف المؤرخ الإنجليزي "جون جوليوس نورويتش" (1929م-2018م) في كتابه "النورمان في صقلية" بقوله: "لا يوجد مكان يتحدث فيه نورمان صقلية بشكل أكثر إقناعا عن الشرق، لا يوجد أي مكان آخر في الجزيرة تظهر فيه هذه الموهبة الإسلامية على وجه التحديد في خلق ملاذات هادئة من الظل والبرودة".

ويشير مؤرخون إلى أن نحو قرنين من الحكم العربي والإسلامي في صقلية جلبت الكثير من العلوم والفنون الإسلامية إلى الجزيرة، بينها صناعة الورق والنسيج والجلود والخزف والزجاج، وباتت باليرمو تقاطع طرق تجاريا ومركزا حضاريا يشع على المدن الإيطالية المسيحية والأوروبية بفعل حركة التجارة.

وقبل أن يدخلها العرب المسلمون، يؤكد المؤرخ الإيطالي ميخائيل أماري (1806م-1889م) أن صقلية البيزنطية كانت عليلة، حيث "اختلت في الداخل جراء الداء الذي ألم بالإمبراطورية السائرة في طريق السقوط، منشغلة بأوضاعها البائسة، لم يروّعها الفتح الإسلامي بل هزها وجدّدها".

ورغم سقوط باليرمو عام 1072م ثم كامل صقلية عام 1091م، حافظ ملوك النورمان عليها عاصمة لهم، وبقيت الجزيرة تحت التأثير الثقافي والعلمي والإداري الواسع للإرث العربي الإسلامي، الذي كان له أثر كبير في عصر النهضة الأوروبية لاحقا.

وكان ملوك النورمان الأوائل شديدي الإعجاب بالحضارة العربية التي أشعت في جنوب أوروبا من الأندلس إلى صقلية، فسكوا النقود بالأحرف العربية، وتلقب بعضهم بألقاب عربية ولبسوا لباسا عربيا، خلال ما سمي "العصر العربي النورماندي".

ورغم سمة التسامح الظاهري، تعرض المسلمون إلى الاضطهاد وبدأت حملات الإجلاء والهروب ليتناقص عددهم تدريجيا ويتقلص دورهم، حتى غدت الحضارة العربية الإسلامية في صقلية وعاصمتها باليرمو مجرد آثار تحصى، لكنها لا تخفي التأثير الهائل في تاريخ الجزيرة.

يصف المستشرق الإيطالي أومبرتو ريزيتانو (1913م-1980م) صقلية بكونها "الابنة الروحية لأفريقيا"، هي كذلك بحكم سلطة التاريخ وأحكام الجغرافيا، تلك الأحكام التي جعلت سفن الفاتحين تغزوها من الجنوب وتجعل منها مركزا حضاريا، وجعلت قوارب المهاجرين البائسة تغزو جزرها أيضا، وهكذا يكمل التاريخ دورته وتناقضاته.

 








طباعة
  • المشاهدات: 6921

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم