17-04-2024 08:17 AM
سرايا - سعت الدول الاستعمارية في أوروبا، ومنذ أن شعرت بضعف الدولة العثمانية الى استكشاف البلاد التي تقع تحت حكمها، وذلك تمهيدا واستعدادا لاستعمار تلك البلاد حين تحين الفرصة المناسبة لذلك. وبهدف استكشاف ثروات تلك البلاد وجغرافيتها وتضاريسها ومعالمها الطبيعية والحضارية، وطرق استغلالها واستثمارها، والتعرف على سكانها وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم، وإمكانية التحالف مع مجموعات محددة من السكان لتسهيل استعمارها وحكمها لاحقا. وقد تسارعت الحملات الاستكشافية الأوروبية منذ القرن 17، تحت مسميات وذرائع مختلفة، فمنها ما كان بذرائع تبشيرية أو ثقافية أو بحجة بذل المساعدات الإنسانية للمحتاجين والفقراء والمرضى من سكان تلك البلاد، التي كانت في معظمها تقع في نطاق ما يعرف بالوطن العربي في أيامنا الحالية.
وقد وجدت بعض الدول الاستعمارية أن الارتكاز على ارتباط تاريخي قديم لها بهذه البلاد مدخل مناسب لاستعمارها، وإيجاد صلات عرقية وثقافية بهذه المستعمرات وسكانها، وتشجيع مواطني البلاد الاستعمارية على الهجرة والاستيطان في المستعمرات الجديدة بحجة العودة الى بلاد الأجداد القديمة التي خضعت في يوم من الأيام لحكمهم وسيطرتهم، وتركوا فيها آثارا حضارية ما زالت ماثلة للعيان. حيث ادعت فرنسا أن الجزائر تمثل امتدادا تاريخيا وجغرافيا لها على طرفي حوض البحر الأبيض المتوسط، ووطنت مئات الآلاف من الفرنسيين في الجزائر منذ احتلالها لها في العام 1830، وكذلك فعلت إيطاليا عندما أرادت استعمار ليبيا في العام 1911.
وكانت الاستكشافات والحفريات الأثرية في كلا المثالين السابقين مدخلا مهما لصناعة الأسطورة التاريخية التي ستوثق لهذا الارتباط التاريخي المزعوم. كما وجدت الدول الاستعمارية في إحياء تاريخ الحضارات القديمة عبر الاهتمام بالآثار التي تعود الى ما قبل الإسلام فرصة لإعادة صياغة الهوية الثقافية لشعوب الأمة الإسلامية وتفتيتها، عبر ربط هذه الشعوب بتاريخها الحضاري القديم كالفرعونية في وادي النيل والكنعانية والفينيقية في بلاد الشام والآشورية البابلية في العراق والساسانية في إيران والحيثية في الأناضول والقرطاجية في بلاد المغرب العربي وغيرها.
اكتسبت الحفريات بصورة عامة والأثرية منها على وجه الخصوص في فلسطين أهمية خاصة جدا، نظرا لارتباطها بحياة الكثير من الأنبياء خاصة إبراهيم ولوطا وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وداوود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام الذين وردت قصصهم في التوراة والإنجيل، وقصة نشوء الديانة المسيحية، وارتباطها بحياة المسيح الذي قضى كل حياته متنقلا بين المدن الفلسطينية المختلفة. حيث ارتبطت ضرورة فهم الدين المسيحي والكتاب المقدس عند الطوائف المسيحية المختلفة بضرورة دراسة الأماكن والأسماء التي وردت في الكتاب المقدس والبحث والتنقيب عنها.
وزاد المسألة أهمية تنافس الدول الغربية في إثبات صحة الرواية المسيحية التي يعتقدون، أو العمل على التشكيك بالاعتقاد المسيحي للأطراف الأخرى المنافسة لهم، خاصة بعد الانشقاقات المتوالية بين الطوائف المسيحية اعتبارا من نهاية القرن 15. إضافة للحفريات التي اهتمت بالتنقيب واستكشاف الثروات والموارد المعدنية في باطن الأرض وأملاح البحر الميت والمياه الجوفية، وضرورة هذه الحفريات لدراسة أكثر الأماكن صلاحية للاستيطان والاستعمار في فلسطين.
امتدت الحفريات الأثرية في متصرفية القدس العثمانية على مدار 55 عاما، منذ العام 1863 وحتى العام 1917 وهي السنة التي دخلت فيها القوات الإنجليزية الى القدس معلنة نهاية الحقبة العثمانية فيها، والتي امتدت على مدار 400 سنة كاملة. كانت تلك الحفريات مدخلا من مداخل زيادة النفوذ الغربي في فلسطين خلال تلك الفترة، ورغم تعدد الجهات التي باشرت وأشرفت على تلك الحفريات إلا أن بريطانيا كان لها النصيب الأكبر منها، خاصة في المنطقة التي شملتها متصرفية القدس والتي كانت تغطي الأجزاء الوسطى والجنوبية من فلسطين.
انقسمت هذه الحفريات من حيث مراحلها الزمنية الى 3 أقسام بحسب مميزاتها وطبيعة الحفارين وموقف الدولة العثمانية منها، فالحفريات الأثرية المبكرة التي امتدت بين عامي 1863-1880 قد جاءت في بداياتها إثر احتدام التنافس الاستعماري الأوروبي على المنطقة بين الفرنسيين والبريطانيين، وذلك نتيجة مباشرة لبدء تنفيذ مشروع قناة السويس في صحراء سيناء، وسعي كل منهما الى تعزيز نفوذه في فلسطين التي زادت قيمتها الإستراتيجية؛ إذ تشكل الضفة الشرقية للقناة.
كانت بريطانيا تريد مدخلا لنفوذها في فلسطين، فهي لم تكن تمتلك أي طائفة في البلاد تستطيع ادعاء حمايتها، كما يفعل الفرنسيون والروس الذين يدعون حق حماية الكاثوليك والأرثوذكس وكنائسهم ومقدساتهم المسيحية، كما أن بريطانيا لم تكن تمتلك أي نفوذ ديني يتيح لها الادعاء بتبعية الأماكن المقدسة لولايتها. ولذلك فقد سعت خلال هذه المرحلة لإعادة تفسير الكتاب المقدس ورواياته والقصص التي وردت فيه من خلال الحفريات والاستكشافات الأثرية، وتقديم نظريات ورواية تاريخية ودينية جديدة مختلفة عما استقر عليه الفهم والاعتقاد في أذهان وضمائر المسيحيين على مدار مئات السنين، وبما يخدم مصالحها ونفوذها في الأراضي المقدسة، خاصة فيما يتعلق بموقعي القبر المقدس والمعبد في زمن السيد المسيح عليه السلام. ومحاولين التوفيق بين ما يجدونه من معالم أثرية وبين المرويات والكتب الدينية المختلفة. ولذلك نستطيع القول إن الحفريات الأثرية خلال هذه الفترة بشكل خاص، وطوال العهد العثماني بشكل عام كانت تتم لخدمة أجندة وأهداف مسبقة موجودة في عقلية الحفارين والمؤسسات الداعمة لهم.
كان هدف الحفارين الأوائل إثبات صحة روايات الكتاب المقدس، وتقديم فهم أدق وأكثر وضوحا للمسيحيين في العالم حول حياة السيد المسيح في الأراضي المقدسة، ولتحقيق ذلك فقد سعى الحفارون الأوائل الى فهم ودراسة طبيعة تضاريس مدينة القدس القديمة وطوبوغرافيتها خلال تلك الفترة، من خلال تنفيذ حفريات مكثفة في محيط أسوار القدس والمناطق الملاصقة لها، كما حاولوا تنفيذ حفريات أثرية داخل أسوار القدس وداخل منطقة الحرم الشريف ونجحوا في ذلك في كثير من الأحيان، على الرغم من منع السلطات المحلية العثمانية لذلك بشكل رسمي.
كان الحفارون الأوائل يتمتعون بحرية نسبية في إجراء الحفريات بالشكل وفي الأماكن التي يريدونها، ودون رقابة تذكر من قبل السلطات العثمانية المحلية والمركزية، حيث إن قانون الآثار العثماني لم يكن قد صدر بعد، ولم تكن السلطات العثمانية قد أدركت بعد ما يريده هؤلاء العلماء والباحثون، وما تريد دولهم تحقيقه من خلال هذه الحفريات، كان يتم الاكتفاء باستصدار الفرمان من السلطات العثمانية، والذي لم يكن يحدد موقع الحفريات أو مساحتها أو آلية الرقابة عليها، أو ما تؤول إليه أي قطع أثرية يتم العثور عليها خلال الحفر. فقد كانت معظم الموجودات الأثرية مما يمكن نقله إن لم يكن جميعها يتم نقلها الى متاحف أوروبا.
لم يكن علم الآثار قد تبلور بمناهجه وأساليبه، فقد كان علما في طور النشوء والتبلور، ولذلك فقد كانت هذه الحفريات مليئة بالأخطاء المنهجية والعلمية، وكانت بعيدة عن الطابع العلمي المعروف اليوم بصورة كبيرة، فلم يكن التأريخ من خلال دراسة قطع الفخار وخصائصها معروفا خلال هذه المرحلة، كان معظم اهتمام الحفارين يتركز على إثبات الروايات الدينية للكتاب المقدس، حتى وإن أدى ذلك الى تجاوز الكثير من أساسيات البحث العلمي أو الحقائق التاريخية الثابتة أو الراسخة، وبذلك فقد تجاهل الباحثون كل الآثار التي تعود للفترات الإسلامية المختلفة والتي تمتد لفترة تاريخية تقارب 1300عام والتي تعج بها مدينة القدس، بل ووقع الباحثون في كثير من الأخطاء في نسبة الكثير من هذه الآثار الاسلامية لفترات أخرى لخدمة أهدافهم وأغراضهم المختلفة.
رغم أن هذه الفترة قد شهدت في بداياتها تنافسا وصراعا على الحفريات الأثرية بين الفرنسيين والإنجليز، فإن الأمور حسمت لاحقا لصالح بريطانيا، وأصبحت صاحبة الكلمة الأولى في الحفريات الأثرية في الأراضي المقدسة خلال هذه القترة، خاصة مع تأسيس صندوق استكشاف فلسطين الذي شكل نقلة كبيرة في حجم هذه الحفريات ومدتها وتمويلها، كما أن الاضطرابات السياسية التي شهدتها فرنسا خلال هذه المرحلة قد لعبت دورا كبيرا في تخلي الفرنسيين وانشغالهم عن متابعة حفرياتهم الأثرية التي بدأها ديسولسي عام 1863. وقد استطاع البريطانيون احتكار الاستكشافات والبحوث الأثرية في متصرفية القدس دون منافسة تذكر من الدول الأوروبية الأخرى، وقد بلغ ذلك ذروته في مساحة فلسطين الغربية والذي شمل معظم مساحة فلسطين المعمورة في ذلك الوقت في الفترة الممتدة بين الأعوام 1871-1880.
غلب على خلفيات الحفارين الأوائل الطابعين الديني والعسكري، فمعظمهم كانوا ضباطا في الجيش البريطاني، ينتمون في الغالب لسلاح الهندسة الملكي، الذي تحالف بشكل وثيق مع صندوق استكشاف فلسطين في بداية نشوئه، حيث كان معظم أعضاء مجلس إدارة الصندوق من الضباط الذين خدموا في سلاح الهندسة الملكي البريطاني أو تربطهم به علاقات وثيقة. إضافة الى أن هؤلاء الحفارين كانوا يتمتعون بحس ديني كبير، حيث إن كتاباتهم تمتلئ بالاقتباسات المأخوذة من الكتاب المقدس، كما أن علاقاتهم برجال الدين المسيحيين المقيمين في الأرض المقدسة كانت وثيقة الى حد كبير.
كان هؤلاء المنقبون يتمتعون بالإصرار والمثابرة في عملهم رغم الصعوبات التي كانت تعترضهم، فرغم كل الضغوطات التي كانوا يتعرضون لها من قبل السلطات المحلية أو السكان المحليين والظروف الصعبة المحيطة بأعمال الحفر، وصعوبة ونقص التمويل في كثير من الأحيان، فإنهم كانوا يواصلون عملهم بكل إصرار وعناد. كما يلحظ من كتاباتهم وضوح الرؤية والأهداف الاستعمارية التي يريدون تحقيقها من خلال هذه الحفريات، وما يخططون له لمستقبل فلسطين ضمن مشروع بريطانيا الاستعماري للمنطقة.
أما المرحلة الثانية من الحفريات الأثرية في متصرفية القدس فقد امتدت بين عامي 1889-1909، وفيها أصبحت الدولة العثمانية أكثر حساسية بكل ما يتعلق بالنفوذ الغربي والبريطاني تحديدا، وخاصة في فلسطين، وذلك على إثر الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، وسيطرتهم على قبرص في العام 1878.
وأصبحت السلطات العثمانية خلال هذه الفترة أكثر فهما واستيعابا ووعيا لما يقوم به المنقبون عن الآثار على أراضيها من حفريات أثرية، وأهمية هذه الحفريات بالنسبة لتاريخ المنطقة، وقيمة ما يتم العثور عليه من آثار، وضرورة إشراف الدولة المباشر على هذه الحفريات. ويحتوي الأرشيف العثماني على الكثير من الوثائق الصادرة عن بعض المسؤولين المحليين، تنبه السلطات المركزية إلى خطورة الحفريات الأثرية التي تتم بدون إذن رسمي والتي انتشرت في كثير من الولايات، وانتشار تجارة وتهريب القطع الأثرية الى أوروبا وبيعها للمتاحف الأوروبية وهواة جمع الآثار، وخصوصا في ولايات سوريا ولبنان ومتصرفية القدس الشريف.
ولذلك فقد صدر قانون الآثار العثماني عام 1874 ميلادي (1291هجري)، والذي اشتمل في نسخته الأولى على 36 مادة مقسمة على 4 فصول ومقدمة وخاتمة، تحدد تعريف الآثار وشروط التنقيب عنها وحقوق الدولة والمنقبين، والعقوبات المترتبة على مخالفة هذه الشروط وعقوبة التنقيب أو المتاجرة بالآثار دون إذن رسمي من الدولة، كما تم تأسيس مديرية المتاحف السلطانية التابعة لنظارة المعارف، والتي تتولى الإشراف والترتيب لأي حفرية أثرية تتم في مناطق الدولة العثمانية المختلفة.
أصبح الحصول على الترخيص بالحفر أكثر صعوبة بالنسبة للمنقبين، ويستغرق فترة طويلة لاستصداره تزيد عن عام كامل في معظم الأحيان، حيث أصبحت السلطات تطلب من المنقبين تحديد مواقع الحفر بدقة وإرفاق خريطة بالموقع المراد العمل فيه، ومنعت العمل في موقعين خلال وقت واحد إذا زادت مساحتهما عن 10 كلم2، كما شددت السلطات العثمانية على الحفريات التي تتم في مدينة القدس تحديدا، ومنعت الحفر بالقرب من أسوار المدينة أو داخلها، أو داخل حدود الحرم الشريف، وفتحت تحقيقا رسميا لمجرد قيام فريدريك بيليس بالحفر بالقرب من السور الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك، ولم تجدد ترخيصه بعد هذه الحادثة.
ونتيجة لذلك فقد اتجه المنقبون خلال هذه الفترة للشروع بالحفريات بعيدا عن أسوار مدينة القدس فيما يعرف بالتلال أو الخرب الأثرية، والتي هي عبارة عن مدن قديمة دفنت على مر العصور، وأصبحت تشبه التلال الطبيعية، حيث تم البحث خلال هذه الحفريات عن المدن التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس ولم تعد موجودة على أرض الواقع.
م يعد بإمكان المنقبين الغربيين إرسال مكتشفاتهم الأثرية إلى بلادهم دون حسيب أو رقيب، وأصبح المنقبون يقومون بصناعة نماذج من الجص للمكتشفات الأثرية أو رسمِها أو تصويرها إن أمكن وإرسالها الى بلادهم بدل القطع الأثرية الحقيقية. وحتى تتمكن السلطات العثمانية من الاحتفاظ بحصتها من القطع الأثرية المكتشفة، قامت بتأسيس عدد من المتاحف في ولاياتها المختلفة ومن ضمنها القدس، حيث تم إنشاء المتحف بمساعدة الأميركي فريدريك بيليس في إحدى المدارس الإعدادية بالقرب من باب الساهرة شمالي المدينة، وانتقل لاحقا الى منطقة باب الخليل.
أصبحت الحفريات الأثرية التي تجري في متصرفية القدس خلال هذه الفترة أكثر علمية ومنهجية، مستفيدة من أساليب التنقيب عن الآثار والتي طورها عالم المصريات فلندرز بيتري خلال عمله في الحفريات الأثرية في مصر، حيث عمل لمدة فصل واحد في التنقيب عن الآثار في فلسطين، ودرَّب فريدريك بيليس ليخلفه في التنقيب عن الآثار فيها. لكن ذلك لم يعجب الجهات والمؤسسات المشرفة على الحفريات الأثرية وأبرزها صندوق استكشاف فلسطين، الذي كان يريد للنتائج الأثرية أن تتوافق مع الأدبيات الدينية اليهودية والمسيحية وأهمها الكتاب المقدس.
ابتعد صندوق استكشاف فلسطين خلال هذه الفترة عن سلاح الهندسة الملكي البريطاني، وغلب على المنقبين الطابع المدني العلمي، بدلا من الطابع والخلفية العسكرية التي اتصف بها المنقبون الأوائل. كما لم يعد التنقيب عن الآثار في فلسطين حكرا على صندوق استكشاف فلسطين، الذي بدأ يفقد امتيازاته التي تمتع بها في المرحلة السابقة لصالح مؤسسات وجمعيات أخرى أهمها الجمعية الألمانية لاستكشاف فلسطين والتي تأسست في العام 1878، خاصة وأن العلاقات العثمانية البريطانية قد تغيرت بشكل كبير وأصبح يسودها الكثير من الارتياب والقلق، مع اقتراب الدولة العثمانية بشكل متزايد من ألمانيا.
المرحلة الأخيرة من الحفريات التي امتدت بين عامي 1909-1914، وقد شهدت هذه المرحلة اضطرابا كبيرا في مركز الدولة العثمانية في إسطنبول، إثر الانقلاب الذي حصل على السلطان عبد الحميد الثاني، وقد أدى ذلك إلى انهيار شكل السلطة المركزية التي بلورها وجود السلطان عبد الحميد الثاني على مدار 33 سنة، وقد أثَّر ذلك بشكل كبير على الولايات المختلفة، التي اعتبر الكثير من القيادات والزعامات المحلية فيها من المتعاونين والمحسوبين على النظام السابق.
وقد أدى ذلك الى إيجاد حالة من التوتر وعدم الثقة بين هذه الزعامات والقيادات المحلية وبين السلطات الجديدة في إسطنبول. لم تكن السلطات المركزية الجديدة تتمتع بنفس الوعي والحساسية الذي كانت تتمتع به إدارة السلطان عبد الحميد الثاني نحو المخططات الاستعمارية والصهيونية في فلسطين، ولذلك نرى هذه السلطات تسمح لمجموعة من صيادي الكنوز الأثرية بالحفر بالقرب من أسوار القدس والمسجد الأقصى المبارك، وهو الأمر الذي أدى بهؤلاء أن يتسللوا ليلا للحفر في داخل قبة الصخرة نفسها، بتواطؤ مع متصرف القدس ومسؤول الجندرمة (الحرس) في المدينة، وقد أدى ذلك الى تفجر موجة من الغضب والغليان الشعبي في القدس، اضطرت على إثرها السلطات المركزية الى إرسال وحدات عسكرية إضافية الى المدينة، وفتح تحقيق رسمي أدى إلى عزل المتصرف ومسؤول الجندرمة ونقلهما للعمل في مواقع أخرى، وذلك لتهدئة السكان وامتصاص غضبهم.
كان صندوق استكشاف فلسطين يميل خلال هذه الفترة الى إنهاء دوره الذي قام به في الأراضي المقدسة خلال 50 سنة سابقة، وإعادة هيكلة دوره من جديد، وذلك بسبب قلة التمويل، وعدم قدرته على التفاهم مع وكلائه الذين انتدبهم للحفر، إما بسبب رفضهم لأجندة الصندوق التي تتباين مع النتائج وأساليب الحفر الحديثة، وإما بسبب عدم قدرة الصندوق على الإيفاء بالمستلزمات المالية للمنقبين عن الآثار بسبب قلة التبرعات وعدم توفر التمويل اللازم، وغرق الصندوق بالقروض، واضطراره لبيع أصوله ومقتنياته الأثرية للمتحف البريطاني من أجل تغطية نفقاته المالية. كما أن جيل التأسيس في الصندوق الذي كان يدرك الأهداف والغايات التي وجد الصندوق لأجلها كان معظمهم قد توفي.
شهدت هذه الفترة عودة سلاح الهندسة الملكي البريطاني من جديد للتواصل مع صندوق استكشاف فلسطين ليكون غطاء لتنفيذ مهمة عسكرية أخرى قبيل الحرب العالمية الأولى، وهي مساحة ورسم خرائط جنوب فلسطين (صحراء النقب) والحدود الفلسطينية المصرية، والتي ستكون جبهة القتال بين العثمانيين والإنجليز خلال الحرب. لقد أدت هذه المساحة تحت غطاء التنقيبات الأثرية الى ظهور شخصية لورانس العرب، الذي سيكون له دور بارز في قيادة وتوجيه الثورة العربية التي قامت بها القبائل العربية في بلاد الشام والحجاز على السلطات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
كما ستشهد هذه الفترة أول حفرية يهودية للآثار في فلسطين، وبتمويل وإشراف مباشر من قبل الثري اليهودي روتشيلد، حيث ستكون مقدمة للحفريات الأثرية التي سيقوم بها الصهاينة في مدينة القدس اليبوسية والمستمرة حتى يومنا هذا.
أما على صعيد العلاقة بين السكان المحليين (الفلسطينيين) من جهة وحملات التنقيب عن الآثار وهيئات المساحة من جهة أخرى، فقد نظر الأهالي لهذه الحملات بكثير من الريبة والشك، ووجَّه الوجهاء والقادة المحليون في أكثر من مناسبة الرسائل للسلطات المركزية في إسطنبول التي تحذر من مقاصد هذه الحملات وأثرها على مستقبل البلاد، كما أن السكان قد انتفضوا في وجه هذه البعثات الاستكشافية حين انتهكت حرمة مقدساتهم وأراضيهم، وحاولوا إيقافها في كثير من الأحيان، وقد شهدنا ذلك بصورة واضحة في أحداث المسجد المبارك ضد حملة باركر في نيسان عام 1911، لكن السكان من جهة أخرى، وفي ظل الفقر الذي تعيشه البلاد في تلك الفترة، قد وجدوا في هذه الحفريات فرصة للعمل والتكسب، حيث أمنت الحفريات فرص العمل لمئات الفلاحين من سكان القرى والمدن المختلفة على مدار 50 سنة كاملة.
أما بالنسبة للحفارين والمنقبين فقد نظر معظمهم للسكان المحليين نظرة فوقية، وباستثناء بيليس لم يشر أي منهم في كتاباته للجهود التي بذلها السكان ودورها في نجاح أعمالهم وحملاتهم في التنقيب عن الآثار، بل على العكس تماما فقد حمَّلهم معظم المنقبين دورا سلبيا في تعطيل العمل، وعاملوهم بكثير من التشكيك على أنهم لصوص محتملون لا بد من الحذر منهم، ولم ينظر أي منهم للسكان المحليين على أنهم سكان البلاد الأصليين، وأحفاد أصحاب الحضارات التي يبحثون في آثارها وإنجازاتها قبل آلاف السنين.