09-05-2024 08:14 AM
سرايا - كانت معركة ميسلون حدا فاصلا بين عصرين ودولتين، دولة الاستقلال التي حلم بها السوريون في ظل الملكية الهاشمية، ودولة التبعية للمحتل الفرنسي الذي سيصبح احتلاله للبلاد مرحلة جديدة ستُشكّل تاريخ سوريا الحديث طوال الـ100 عام الماضية وحتى يومنا هذا.
وقد بدأت هذه المأساة مع الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1909م، فكان ذلك الانقلاب بداية لسلسلة طويلة من الإخفاقات العسكرية العثمانية على العديد من الجبهات في البلقان ومصر وفلسطين وسوريا ثم العراق والجزيرة العربية.
فطوال الأعوام التسعة التالية على خلعه انخرطت حكومات جمعية الاتحاد والترقي التي تولت السلطة في الدولة العثمانية في مغامرات عسكرية لم تكن محسوبة عواقبها على الإطلاق.
وفي ظل هذه المغامرات كانت القوى العظمى المتربصة مثل الإنجليز والفرنسيين والروس يتفقون على إعادة صياغة تركة "الرجل المريض" كما وصفوها بحسب مصالحهم الإستراتيجية.
حين اشتعلت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 ألقى الضباط الاتحاديون المنقلبون على السلطان عبد الحميد الثاني وحُكام الدولة العثمانية الحقيقيون بثقلهم خلف الألمان وأعلنوا تحالفهم معهم، فامتدّت رُقعة الحرب من أوروبا إلى الشرق الأوسط.
وكان القائد العسكري التركي جمال باشا الشهير بالسفّاح هو الحاكم العثماني لسوريا وقتذاك؛ كان معروفا بقسوته ووقوفه بحزم وعنف شديدين ضد الحركة القومية العربية الناشئة، ولا سيما من العرب المتعاطفين مع الإنجليز أو المطالبين بالاستقلال عن الدولة العثمانية.
ولهذا السبب شرع منذ عام 1915م يشدد في سياسته حتى بلغ به الحال أن قبضَ على كثير من الشباب والمثقفين، ثم أنزل عقوبة الإعدام في كثير منهم.
وكما يقول المؤرخ الأميركي ديفيد فرومكين في كتابه "سلام ما بعده سلام" إن الشريف حسين أمير مكة والحجاز أعلن عن قيام الثورة العربية الكبرى، بهدف إعادة توحيد الجزيرة العربية والعراق والشام في دولة أو خلافة عربية ساعيا إلى تحقيق ذلك بالتحالف مع البريطانيين، وذلك بعد اتفاقه الشهير مع السير ماكمهون السفير البريطاني في القاهرة حينذاك.
واشتعلت المواجهة بين العرب والعثمانيين منذ ذلك الحين في غرب الجزيرة العربية تحت قيادة الضابط البريطاني الشهير الكولونيل توماس إدوارد لورنس الشهير بلورانس العرب، الذي عمل جنبا إلى جنب مع أبناء الشريف الحسين وعلى رأسهم الأمير فيصل والأمير علي.
وأسفرت هزيمة العثمانيين والألمان وفشل عبورهم قناة السويس في حملتي عام 1915 و1916 عن انتقال الإنجليز من موقع الدفاع إلى الهجوم، وتحت قيادة الجنرال إدموند ألنبي استطاع الإنجليز وحلفاؤهم، بالتزامن مع تقدّم القوات العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين وبمعاونة لورانس غرب الجزيرة العربية وشماليها إلى شرق الأردن وفلسطين الإطباق على القوات العثمانية الموجودة في تلك المناطق.
وقد تكلل هذا الهجوم عن سقوط القدس في أواخر ديسمبر/كانون الأول 1917م، وطرد العثمانيين من الجزيرة العربية وجنوب الشام ومن ثم أصبح الطريق إلى دمشق وكافة الأقاليم السورية بل وجنوب الأناضول مفتوحا أمام الحلفاء كما يقول المؤرخ عارف العارف في كتابه "تاريخ غزة".
في تلك الأثناء كان اتفاق سايكس بيكو بين الإنجليز والفرنسيين في عام 1916م لإعادة تقسيم تركة الدولة العثمانية في الشرق الأوسط ينصّ على إخضاع سواحل بلاد الشام وقليقية جنوب الأناضول وسوريا الداخلية إلى الفرنسين، ورغم ذلك حاول البريطانيون تأخير تسليم سوريا للفرنسيين وجعلها مستقلة تحت قيادة الشريف حسين وأبنائه خوفا من عواقب احتلال فرنسا لدمشق أقدم عواصم المسلمين.
كان دخول ممثل فرنسا إلى سوريا مع القائد البريطاني الجنرال ألنبي وإصراره على إمضاء اتفاقية سايكس بيكو قد أفضى في نهاية الاجتماع إلى إعلان ألنبي على الأمير فيصل ما يلي:
ستكون فرنسا دولة الحماية في سوريا.
سيتولى فيصل بصفته ممثلا عن والده الملك حسين الإدارة في سوريا ما عدا فلسطين تحت الحكم البريطاني، ولبنان تحت الحكم الفرنسي.
يجب أن يكون لدى فيصل ضابط اتصال فرنسي مع لورانس البريطاني.
غضب الأمير فيصل من هذا الإعلان؛ لأنه لم يكن يعلم بتفاصيل اتفاقية سايكس-بيكو بين البريطانيين والفرنسيين من قبل، ولم يخبره بها لورانس، ولكن تحت ضغط الأمر الواقع والقوة العسكرية البريطانية والفرنسية على الأرض اضطر إلى قبول هذه الشروط.
ولم تمض أيام حتى نزل جورج بيكو الممثل الفرنسي ومتزعم الاتفاقية الشهيرة مع الإنجليز في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1918م إلى السواحل اللبنانية وبدأ عمله كممثل مدني وسياسي لفرنسا في المنطقة، خاضعا للسلطة العليا التي كان يتمتع بها الجنرال البريطاني ألنبي بصفته القائد العام وقتذاك.
وهكذا تم تقسيم بلاد الشام فعليا بين البريطانيين والفرنسين:
خضعت المناطق الداخلية (سوريا الحالية) لحكم عربي شبه مستقل تحت قيادة فيصل بن الحسين وتبعية فرنسية ما بين عامي 1918 إلى 1920.
ثم خضوع المنطقة الغربية لبنان وسواحل الشام إلى الاحتلال الفرنسي المباشر.
وخضوع المنطقة الجنوبية في فلسطين وشرق الأردن (الأردن الحالية) إلى السيطرة المباشرة للبريطانيين، وهذا الإجراء كان بمثابة الترجمة العملية لاتفاقية سايكس بيكو بين البريطانيين والفرنسين.
ظلت سوريا تحت حكم الأمير فيصل، وأعلن المؤتمر السوري (البرلمان) المنعقد في دمشق إلى الأمير فيصل في مارس/آذار 1920م ملكا على سوريا.
وعلى إثر هذا الإعلان اشتعلت نقمة فرنسا على حليفتها بريطانيا التي كانت قواتها لا تزال باقية في معظم الأراضي السورية، واعتبرت إعلان فيصل ملكا رعاية وحماية بريطانية، ونكوصا عن اتفاقية سايكس-بيكو.
وعلى إثر هذا الاعتراض الفرنسي شديد اللهجة انسحبت القوات البريطانية من كامل سوريا وقليقية في جنوب شرقي الأناضول، كما يصف المؤرخ يوسف الحكيم في كتابه "سورية والانتداب الفرنسي".
وفقا لـ" ستيفين هامسلي لونغريغ" في كتابه "تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي" فإنه بعد شهر من هذه الأحداث عُقد مؤتمر سان ريمو في أبريل/نيسان 1920م، وفيه أصدر مجلس الحلفاء قرارا رسميا بإسناد مهمة الانتداب على سوريا ولبنان إلى فرنسا.
وفي 14 يوليو/تموز 1920م أرسل الممثل الفرنسي في لبنان وخليفة جورج بيكو في المنطقة الجنرال هنري غورو إنذارا رسميا إلى حكومة الملك فيصل في دمشق وإلى المؤتمر السوري (البرلمان) يطلب فيه ما يلي:
إلغاء التجنيد الإجباري وتسريح الجيش البالغ عدده 10 آلاف مقاتل.
قبول الانتداب الفرنسي.
قبول التعامل بالنقد السوري الفرنسي الجديد.
تسليم السكك الحديدية للفرنسيين وغيرها.
وأمام هذه الشروط التي كانت تعني الاستسلام عمليا للاحتلال الفرنسي وافق فيصل وكثير من وزرائه على الخضوع، وأمروا بسحب القوات العسكرية العربية من الحدود اللبنانية إلى الداخل، وتسريح الجيش، فهبت الجماهير غاضبة في وجه ما اعتبروه خيانة وتقاعسا عن الدفاع عن البلاد.
وأمام هذه الثورة الهائجة أعلن فيصل تراجعه عن الانسحاب، ومن ثم المواجهة والدفاع عن سوريا أمام الفرنسين، وأسند هذه المهمة إلى وزير الحربية العقيد يوسف العظمة الذي تولى هذا المنصب بين مايو/أيار ويوليو/تموز 1920م، وكانت مهمة يوسف العظمة إعادة تجميع القوات التي تم تسريحها وقيادة المتطوعين.
كان عمر هذا الضابط السوري الذي عُرف بشجاعته وثقافته الواسعة آنذاك 36 عاما، ولكنه كان ملما بالعربية والتركية والفرنسية والألمانية، متخرجا في المدرسة الحربية العثمانية في إسطنبول سنة 1903م وحين انتهت الحرب العالمية الأولى في عام 1918م عاد إلى دمشق فاختاره الأمير فيصل مرافقا ومستشارا ثم رئيسا لأركان الجيش السوري الناشئ.
كان يوسف العظمة من أوائل من هاجموا الملك فيصل حين أعلن موافقته على الخضوع للانتداب الفرنسي وتسريح الجيش، وسيطرتهم على دمشق وسوريا كلها، وكانت عقيدته العسكرية تقوم على التأسي بالقادة العسكريين الكبار في التاريخ الإسلامي ممن واجهوا العدو والمحتل.
وأيضا كان العظمة متأثرا للغاية بالمدرسة الألمانية العسكرية التي تعلم فيها الكثير من المبادئ العسكرية، وعقيدتها كانت تقوم على ضرورة المواجهة والحرب بغض النظر عن الهزيمة أو النصر، بل وقد ذكر العديد من النماذج المعاصرة مثل بلجيكا التي آثرت مواجهة القوات الألمانية مع علمها اليقيني بهزيمتها، ولكن حتى لا تُعرف في التاريخ أنها سلمت البلاد بدون مقاومة وقتال.
ولهذه الأسباب مجتمعة سلّم الملك فيصل بن الحسين قيادة المعركة إلى وزير الحربية الشاب يوسف العظمة الذي استطاع بالكاد أن يعيد تجميع قوات الجيش التي كانت قد سُرحّت من قبل فضلا عن قوات المتطوعين، حتى بلغت ما بين 3 آلاف إلى 4 آلاف جندي مدججين بالبنادق القديمة العثمانية والإنجليزية والإيطالية التقليدية، لا يملكون إلا عددا قليلا من المدافع والألغام.
بينما على الجهة الأخرى كان الفرنسيون يستعينون بقوات سينغالية وغيرها كثيفة العدد بلغت 9 آلاف جندي، شديدة التنظيم والتدريب، يملكون أحدث الأسلحة كالبنادق والدبابات والمدافع والطائرات، وقد التقى الجانبان في 24 يوليو/تموز 1920م في منطقة ميسلون غرب دمشق على الطريق بين دمشق وبيروت.
في وسط هذا القيظ من حر الصيف اندلعت معركة ميسلون طوال 6 ساعات أبدى فيها المقاومون السوريون والعرب ثباتا كبيرا، ولم يقف وزير الحربية يوسف العظمة في مركز القيادة يُتابع من بعيد ويوجه سير المعركة، بل ثبت وقوفه بجانب أحد المدافع بين الجنود.
وكان من الواضح الفارق الكبير في الخطة العسكرية الفرنسية وتنظيم قواتها، وتقدّم عتادها من المدافع والطائرات والدبابات أمام القوات السورية والعربية ضعيفة العدد والعتاد.
ولهذا السبب وبعد عدة ساعات تفرقت جموع القوات السورية واستُشهد 400 من الجنود السوريين والعرب، في المقابل قُتل من الفرنسيين والسينغاليين 400 وأصيب 1600 جريح إضافة إلى 40 ضابطا بين جريح وقتيل، وكان على رأس الشهداء وزير الحربية يوسف العظمة.
على إثر هذه الهزيمة دخل الفرنسيون بقيادة الجنرال غورو دمشق، فكان أول قراره أن أمرَ الملك فيصل وعددا من حاشيته بالخروج من سوريا، ثم أعلنوا سقوط حكومته وأنشؤوا أخرى موالية لهم، وبدأ من وقتها عهد الانتداب أو الاحتلال الفرنسي على البلاد الذي استمر طوال ربع قرن تالية حتى عام 1946م، وكان من عاقبته كثرة الانقلابات العسكرية فيما بعد!
وكان أول ما قام به الفرنسيون بعد سيطرتهم على سوريا ولبنان، إعلانهم عن إنشاء لبنان الكبير واستقطاعه من التبعية لدمشق كما كان حاصلا زمن العثمانيين.
ففي سبتمبر/أيلول 1920م تلقت حكومة دمشق من المفوض السامي الفرنسي غورو هذه البرقية: "نودي في بيروت في أول أيلول بلبنان الكبير.. إن لبنان الكبير يمتد من النهر الكبير شمالا إلى فلسطين جنوبا، ويحده من شرقا أعالي جبال لبنان الشرقي وعاصمته بيروت، ويضم إليها البقاع وثغور طرابلس وصيدا وصور".
موكب الجنرال هنري غورو في حلب بعد هزيمة ميسلون ودخول الفرنسيون سوريا 1920 (مواقع التواصل)
ولم يكتف الفرنسيون بهذا الاقتطاع بل قرروا تقسيم سوريا ذاتها على أُسس طائفية وجهوية، ففي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام أعلن الفرنسيون تقسيم سوريا إلى 4 دويلات هي حلب في الشمال، ودمشق في الجنوب، وبلاد العلويين على الساحل، وجبل الدروز في الجنوب، "يكون لكل منها حكومة مديرين مستقلة مرتبطة مباشرة بالمفوض السامي، وتخضع قراراتها الهامة لتصديقه"، كما يقول القاضي المؤرخ يوسف الحكيم وهو شاهد عيان على ذلك العصر.
وقد حاول الفرنسيون مرارا التأكيد على هذا الجانب الطائفي، لشرذمة وتقسيم سوريا، واستمرار هيمنتهم المطلقة على البلاد، ورغم ذلك واجهوا مقاومة شرسة من السنة والدروز، كما حرص الفرنسيون على تفريغ سواحل البحر المتوسط من الأكثرية السُّنية ووضع أقليات تابعة لهم.
وهو ما يؤكده كمال ديب في كتابه "تاريخ سورية المعاصرة من الانتداب إلى 2011م" قائلا: "إن مشروع فرنسا لإقامة دويلات طائفية شرق المتوسط اقتضى إبعاد نفوذ السنة عن السواحل".
حسني الزعيم قاد أول انقلاب عسكري في سوريا 1949 (مواقع التواصل)
كان اللعب على المسألة الطائفية والأقليات والجهوية طوال 26 عاما من عُمر الاحتلال "الانتداب" الفرنسي قد رسّخ مشاعر متضاربة، وأدى إلى عدم التوافق السياسي والفكري بين المدنيين من أبناء سوريا والذي رسّخه الفرنسيون إلى صعود طبقة العسكريين لتسلم زمام الحكم.
فكانت سوريا من أوائل الدول العربية التي وقع فيها أول انقلاب عسكري في عام 1949م بقيادة حسني الزعيم ثم توالت الانقلابات العسكرية فيما بعد حتى وصول حزب البعث في عام 1963م ثم انفراد حافظ الأسد بالسُّلطة المطلقة عام 1970.
فكانت المأساة السورية المعاصرة والمستمرة جزءا أصيلا من نتائج معركة ميسلون التي رسّخت للاحتلال الفرنسي، وما نجم عنه بعدها.