12-06-2024 08:53 AM
سرايا - يحرص على أن يكون شعره صوتا خاصا به بعيدا عن تأثيرات من سبقوه من الشعراء الفلسطينيين، محاذرا أن يكون نسخة لأي منهم أو حتى أن يقع في حبائل كبيرهم "محمود درويش" الذي كما يقول في حوار سابق معه "تلتصق بنا كلماته كغراء صعب إزالته"
يجمع الشاعر الغزي ناصر رباح إلى الشعر كتابة الرواية، وفي مجال الشعر أصدر منه 5 مجموعات هي: مرثية طائر الحناء، واحد من لا أحد، الركض خلف غزال ميت، عابرون بثياب خفيفة، ماء عطش لماء، وفي الرواية صدر له روايتان "سياج للغزالة" و"منذ ساعة تقريبا".
يتنقل رباح بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، "محاولا أن يعكس الواقع المرّ الذي يعيشه القطاع، وفي أجواء الحر والعدوان الأخير على غزة كتب:
"صوتُ الطائرات طوال الليل ذهب جُفاء، ونحاس طلقاتها الفارغة بادلهُ الأطفال بطائرة ورقيّة. صوت الطائرات ذهب جُفاء، وأمّا المنزل المهدوم على أهله، فيمكث في الأرض، ينفع الناس في غد تعلو فيه البيوت الجميلة، والشُرفات الجميلة، ويخلو من الطائرات".
وفي حوار للشاعر ناصر رباح الذي لا يزال في غزة بين كثير من أقرانه المبدعين يرد بالكتابة على المذبحة التي تطال كل شيء في غزة. وكان معه هذا اللقاء:
كل لحظة في حياة سكان غزة الآن هي لحظة كتابة، ولحظة تأريخ، كل مشهد نراه منذ أشهر هو لقطة نادرة لا تتكرر، سواء بالمعنى الصحفي أو الإنساني، وحتى بالحضور الأدبي والفني.
مئات القصص والحكايات تمر أمام أعيننا صباح مساء، قصص عن العذاب الإنساني، والمعاناة، والقهر، عن التحديات والتأقلم واختراع الممكن من المستحيل. وقصص أخرى عن الضعف الإنساني والانكسار والخذلان والخيبة.
الكتابة هنا تسمو إلى مستوى الوظيفة الوطنية، والواجب الأخلاقي لرواية الحكاية بلسان أبطالها وكما سطروها بالدمع والدم والصراخ. ولكن من سيكتب كل هذا الفيض؟ ومتى؟ وكيف؟ إذا كان الكاتب نفسه هو بطل تلك القصص، وليس فقط المُشاهد لها، هو سيزيف واحدا من الصاعدين جبل المعاناة صباح مساء، ولا يملك رفاهية التأمل وصفاء اللحظة وجلال التماهي مع اللغة.
كيف وهو يقضي نهاره متنقلا من طابور خبز لطابور الحصول على المياه، لجمع الحطب للطهي، مراوغا ما أمكنه أماكن الخطر وصدفة الموت بالخطأ، مرمما ما يتهدم من صمود عائلته وأحلامهم في خيام النزوح. كيف وهو لا أحد ينام في غزة، حيث تؤنسه أصوات المسيرات (الزنانة) والمدفعية البعيدة، وغالبا انفجار قريب هنا أو هناك. المشاهدات في غزة بحر زاخر، والكتابة سمكة صغيرة حيث إن الصيادين منشغلون جدا ومتعبون جدا.
التغيرات الجذرية في رؤية العالم لنا، تمثل إنجازا غير متوقع لسير أحداث الحرب ورب ضارة نافعة، ربما لم ننتصر عسكريا، لكن دمنا أجبر العالم على الهتاف لنا، والانتصار لقضيتنا، ربما كان دمنا مفرطا ومجانيا، لكنه ضم إلى جانبنا ما لم نكن نحلم حتى به، من جامعات في أميركا، قضاة في محكمة العدل والجنايات، مظاهرات في لندن، وباريس، دول كبرى تعترف بنا، فنانين ورياضيين وساسة كبار يصرخون من أجلنا.
وهنا يمكن تفسير انبهار الشارع الغزي بها إلى حد الانتشاء، إنها ضمادة لجراحنا، رجوع المياه إلى جداول الضمير والحق، إعادة اكتشاف العالم لروحه العادلة، والتي طالما أطفأها الغرب بسياسات الانحياز للطفلة المدللة، والتي يكتشف فجأة أنها خرجت عن السيطرة وتحولت لقاتلة أطفال متسلسلة، وهي بكل تأكيد خطوة كبيرة باتجاه قيام الدولة وبالضرورة لانهيار دولة أخرى
كتابة الرواية في هذه الأثناء تبدو ادعاء ساذجا، لا يليق بسخونة اللحظة وتجلياتها المتسارعة، الكتابة الروائية هي متعة الاكتشاف كما قال إمبرتو إيكو، وهذه المتعة لا تتحقق في خضم يوميات الحرب القلقة، وضجيجها، فلا يتوافر هنا للكاتب متعة التأمل وصفاء لحظات البحث والتحليل، ولكن بلا شك فهو يحتشد ويمتلئ بقدر مهول من الرغبة في السرد والحكايات، والتي ستجد لحظتها المناسبة لاحقاً.
وهنا يبدو الشعر خيارا مناسبا وأكثر حضورا وألقا، رغم أنه ينحاز رغم أنف الشاعر إلى المباشرة والوضوح وربما أكثر نحو الإيقاع العالي، كموسيقى خلفية لحالة الألم والصراخ وكذلك لنبض البطولة والصمود، هذا ما أود قوله الآن.
نعم بالضرورة تصنع الأحداث الكبيرة شعرا جيدا، أرصد على صفحات زملائي الكثير من الشعر غير المتوقع، التجلي في مرتقيات شعرية لم أعدها لديهم، وربما هم أنفسهم متفاجئون بها، الألم العظيم الذي يعتصرنا ينتج كلمات نادرة، مصفاة خالية من الثرثرة والهراء، ينتج صورا لافتة ومربكة حتى للخيال. يكتب أحدهم عن الرصاصة التي ثقبت السماء فأمطرت دما! ويكتب آخر عن طفل يبلل موضع البتر ربما تنبت ساقه مرة أخرى. وهكذا.
ببساطة واختصار، لا يمكن قبول فن رديء للتعبير عن قضية عادلة. العالم المتوحش ينتج أحداثاً بشعة، ولكنه أيضاً وبشكل ما يتسبب عن غير قصد منه في إنتاج شعر جيد وشعراء جيدين.
تكاد الحرب الأخيرة ترفع الحصار عن الصوت الثقافي فثمة رغبة في اكتشاف صوت المبدع في غزة التي قدمت عنها صورة نمطية متعلقة بالحرب والجوع والحصار ماذا تقول عن ذلك؟
غزة تحديدا هي منجم غير مكتشف للشعراء وكتاب القصة والرواية، ولدينا ما نفتخر به وبثقة عالية، لدينا طاقات مذهلة من العطاء والدهشة، ولا يضيرنا أن الحصار قد طال منابع الإبداع والإنتاج الأدبي والسينمائي، فلم تظهر غزة إلا كصورة نمطية للضحية، ولذا يفضل كسر هذا القالب وإبراز ما تخبئه هذه الحرب المجنونة من طاقات ومكتنزات مدهشة.
ولكن ربما نعم وبشكل لا بأس به، فقد ساهمت الكتابات التي ننشرها على صفحات التواصل الاجتماعي في تعريف المزيد من القراء من خارج فلسطين، والذين لم يطلعوا سابقا على أعمال مبدعي غزة.
وأنت في خضم الحرب أسألك عن الاحتفاء بتجربتك وهل لاقت ما تستحق من نقد؟
لا أود القول إني راض تماما عن مستوى الاحتفاء والتعريف بنا، لكن هذا الموضوع لا يشغلنا وهو متروك للوقت والظروف، بشكل شخصي فخور بما حققته لدى المهتمين والنقاد في بلدي، وهذا كاف جدا بالنسبة لي، لدي مطبوعات لـ5 مجموعات شعرية وروايتان، وشاركت في عدة مهرجانات شعرية عالمية، وحاليا يتم إعداد مختارات مترجمة من أشعاري في كتاب يصدر العام القادم في أميركا.
ومن المختارات الشعرية:
"كيف أسامحني وأنا تركتك في الزحام؟ السماء تمطر حديدا، والأرض مثل سجادة قديمة ينفض عنها الغبار. في الزحام كانت المشفى بعيدة، والسماء تواصل هذيانها، والمشفى بعيدة. ذهب الأزرق والأخضر، ولم يبق في عيني غير الرماد، والزحام يخرج الشارع عن رزانته فيسكر، وينوح: أنا غابة الموتى. عاد الشحاذون إليه، فوجدوه ضريرا، وأنا عدت لأبحث عن عيوني، فلم أجدها.
كيف أسامحني، والمشفى بعيدة؟ عاد البكاء إلى بيته فلم يجده، عاد إلى ليله فلم يجده، وجاءني، شربنا نهارا آخر، وبلادا كثيرة، وقلنا: يا ذكريات كوني جميلة، فلم تكن، قلنا للشبابيك لا تجرحي عصافير القصائد، كانت البيوت جريحة، مدينة تفتش عن نفسها في الزحام، وأنا أجالس موتها، وكانت المشفى بعيدة."