حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأربعاء ,27 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 3579

غطرسة الفقر نوافذ على بعض ما قد مضى من العمر - الثانية

غطرسة الفقر نوافذ على بعض ما قد مضى من العمر - الثانية

غطرسة الفقر نوافذ على بعض ما قد مضى من العمر - الثانية

15-06-2024 04:13 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم : الدكتور سمير محمد ايوب
فَقرُنا لم يكن انسانياً ولم يكن جميلاً، باي حال من الاحوال. كان فقراً متراميَ الاطراف محشواً بالفقر، من كل حدبٍ وصوب. كان عنواناً وشاهداً على محطاتٍ من العمر مؤلمة. فقرٌ تشمُّ فيه عِطرَ الماضي وطقوسه، التي قاسمتنا كثيرا من صبرنا الجميل. لِنُبحرَ فيه بسلام، ولِنعبُره ببراعة واقتدار. كان التفكير فيه وبتبعاته مطوَّلا، وكان أحد أهم واجباتِنا اليومية الاساسية.
فقرٌ كانت فيه قُرانا بلا بلدياتٍ كبرى او صغرى، لتحظى بشيءٍ من الصرف الصحي اوالعبّارات او الجسور. ومع هذا كانت قُرانا آنذاك، انظفَ من كثير من مُدن هذه الايام. ولم ينجح مطرٌ مهما طالَ واستطال، كنّا نُسمّيه "كَبٌّ مِن الرَّبْ" ، من قطع طُرقاتنا او تعطيل حركتنا. بل انعم الله علينا بمنظوماتٍ جمعية شمولية، ثَريَّةٍ بقيمِ تضامُنٍ وتكافلٍ وتعاضد، وعادات نظافه ذاتيه وعامة,
آنذاك، كانت أفراُنُنا طوابينا، من كل السعات والاحجام، غير مُجبرين باسم حرصٍ بيئوي مُفْتْعَل، على تركيب شفاطات دخان لها، وقودُها كان رَوْثَ دوابِّنا ونفايات بيوتنا، مع قلة تلك النفايات ومحدوديتها.
وسياراتُنا كانت حميرا من كل الموديلات والالوان والاحجام. كنا نركبها بدون أحزمة أمان، ولا اكياس هواء واقيه. وناقلاتنا كانت جمالا وبعرانا صبورة.
ومياهنا تُرْسِلُها أسقف بيوتنا النظيفه، وساحات البيادر المٌصانة سلفاً، الى آبارٍ للجمع، حفرها الآباء في كل مكان، آبارا خاصةً وعامة، يستسقي منها كل من يريد. كانت سِقايَةٌ يشترك بها كل خلق الله.
حَلالُ آبائنا لم يكن يحتمل التبذير مع قلته، لذا كان فِطامُنا مبكرا. نتحلى على صحن هيطَلِيّة او بحتة او مهداوية، او شقفة هريسة او نمورة، او حبة زُنْكُل ( زلابية او عوامة )، او لقمة اكسيبه او حبة راحه او حلاوه ، او حبة ملبس حامظ حُلو. وتَروي عطشنا من حين لآخر، او في مناسبة سعيدة ما، كُباية خرّوبٍ او عرق سوس او ليموناظه ، وفي احسن الأحوال زجاجة كازوز او عَسيس اوإصبع أسكيمو او كاسة برّاد ليمون يسمونه سلاش هالايام.
درسنا على طبلية خشب او على حجر، وسراجٍ ابوفتيله، او ضو نمره 4، وقزازة ياسين، او شمعدان، وفي احسن الأحوال على لوكس ابو شُنبَر.
والأهم، اننا بلا حِمْيَة خاصة، او ربط مِعَدْ او شفط دهون، لم نكن سِماناً او بُدُن . بل كنا كالرماح بفضل الحركة الدؤوبة، واللعب المتواصل خارج البيت، حركات ابتدعتها خيالاتنا ، وحاجاتنا المبهمة الى الرشاقة . فلم يكن لدينا بلاي ستيشن، ولا العاب فيديو، ولا الف قناة تلفزيون. ولم نكن نمتلك اجهزة فيديو، او موسيقى هواتف خليوية، او حواسيب اوغرف دردشه عبر الانترنت. كانت أمهاتنا وعماتنا وخالاتنا وجداتنا ، هن حكواتي ليالينا الجميلة المقمرة.
كان البرد كاشفا لفقرنا. نرقص من لسعاته. نحتال على تبعاته بجزمات من باتا ومن عصفوركو، و بالبخنق وملابس البكج ( الباله )، وبتداول الملابس المستعمله اخا عن اخ واختا عن اخت، وولد عن والد وبنتا عن ام . وبمواقد من طين ابيض كنا نسميه الحِوَّر او اللاصَةِ ، وقودها دُقٌّ من جفت الزيتون المحروق في الافران، او من حطب نجمعه سلفا في الصيف وفي الخريف ، ويُرَصُّ فوق مداخل البيوت. كان حطبنا اغصانا مكسورة من شجر في حواكيرنا. سجادُنا حصيرٌ خشن، وفراشنا قليلٌ غير وثير، لم تكن مخداتنا ولُحُفُنا من اسفنج او بوليستر او ريش نعام، بل من قش المساند او الجواعد او صوف الغنم المُنَجَّدِ سنويا. لا تزال خخياشيمنا وجلودنا تختزن عَبَقَ ذاك الفراش الوثير آنذاك. اظن ان بعضنا لم يَفِق حتى الان من ذاك العَبَق.
كان فقر اكثرنا كفصيلة الدم، يسري في الشرايين وفي الاورده المُرهَقَة. موجعا كان، لكنه كان مُحَفِّزا ايضا . لم نكن نَدَعُ ذاك الفقر يفرح بمعانداته لنا، كنا كلما إشتقنا لاحلامنا، لا نبحث عنها في طيات او دقات الفقر ذاك . ما بين مَقْتِنا له واشواقنا لشيء من احلامنا نطل عليها، قاتَلْنا بضراوة مع اهلنا لتغييره، او على الآقل استيعاب شيء من مساراته، واحتواء شيء من تبعاته.
نجح بعضنا في ذلك، بعد ان اضطر مبكرا احد افراد العائلة، للسفرالى واحدة من دول البترول واماراته ليعمل هناك. وتحقق الكثير من التغيير لبعضنا، بعد بركة التخرج من ثانويته. حينها صعد البعض منا بامتياز الى شيء من ـحلامه، على أشلاء فقر يتهاوى، لا على اشلاء احد منا.
اجملُ ما في ذاك الفقر، إن كان حقا فيه شيء من الجمال، انه قد حررنا من عاهات اجتماعية كثيرة، لعل ابرزها كان، انه أبعد عنا أصدقاء المصلحة. كنا في هَمِّ الفقر شبه سواء. جمعتنا شجرته بساقها وبجذورها، وفوق الجذور تنوعت الأغصان، وتفرعت في كل اتجاه.
كلما ساء مِزاجُ ذاك الفقر، كانت مُحَفِّرته والحمد لله ، أحلى وانفع. وكانت احلامنا كالاصدقاء الخُلَّصِ، أول الحاضرين مُبتسمةً مُتفائلةً، تُمسكُ بأيدينا في مسيرة الأفقِ المُمتد ..........!!!








طباعة
  • المشاهدات: 3579
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
15-06-2024 04:13 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل اقتربت "إسرائيل" ولبنان من التوصل لاتفاق إنهاء الحرب؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم