22-06-2024 04:10 PM
بقلم : د.نشأت العزب
في الزمن الحاضر، تبدو التنمية المستدامة كمفهوم حضاري يُبشر بمستقبل مزدهر ومستقر للوهلة الأولى، ولكن في الواقع تبدأ هذه الفكرة في التلاشي عند الخوض بها و تفنيد متطلباتها و مخرجاتها أمام الأزمات الاقتصادية العالمية مثل تقلب و تغير الأسواق، و تبعات المشاكل المناخية المتفاقمة. هذه الحقائق تكشف عن هشاشة هذا المفهوم، وتطرح تساؤلات حقيقية حول جدواها و فاعلية مخرجاتها.
تهدف التنمية المستدامة في جوهرها إلى تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي، الحفاظ على البيئة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. ومع ذلك تواجه هذه الأهداف تحديات هائلة في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية، فعندما تنهار الاقتصادات تُضطر الحكومات والشركات إلى تحويل أولوياتها نحو البقاء الاقتصادي بدلاً من الاستثمار في المبادرات البيئية والاجتماعية على الرغم من الحاجة و الضرورة الملحة لتنفيذها لكن في ظروف معينه يصبح اختيار المهم عن الأهم ضرورة لابد من فهم الفرق بينها للوصول إلى بر الأمان و الاستقرار. وبالتالي تتراجع الالتزامات البيئية والاجتماعية مما يقوض أي تقدم قد تم تحقيقه في مجال التنمية المستدامة.
ان السوق العالمية اليوم مليئة بالتقلبات وعدم الاستقرار و مع شمس كل يوم جديد نجد انفسنا أمام احتمالات لا تنتهي قد تحمل و بنسبة كبيرة تغييرات مفاجئة في الأسعار، حروب تجارية، وتغيرات جيوسياسية تعصف بالاقتصادات المحلية والدولية في نفس الوقت، ففي لحظة كهذه يصبح من الصعب على الشركات والحكومات التخطيط للمستقبل بصورة مستدامة في ظل ظروف دائمة التقلب و التغير لا بل لا يمكن الرهان على إمكانية تجاوز مثل هكذا أزمات و هنا تكمن أهمية اعادة النظر في الأفكار التي يتم طرحها، حيث تُعتبر استراتيجيات الاستدامة طويلة الأمد مخاطرة قد لا تستطيع الشركات و الدول تحملها في ظل هذه التقلبات، فخطورة الدخول في مشاريع التنمية المستدامة قد تضع الشركات و الدول في خطورة الدخول في وضع اقتصادي أصعب من الذي أوجدت من اجله مشاريع التنمية المستدامة، فالتكيف السريع مع السوق المتغير يتطلب مرونة تتعارض مع الالتزامات البيئية والاجتماعية طويلة الأجل في ظرف تتطلب في الأحداث حلول سريعه و نتائج ملموسة.
لا يمكننا ان نغفل عن حقيقة ان العالم اليوم يعيش في تحدٍ مستمر مع التغير المناخي و الكوارث الطبيعية التي أوجدها الإنسان بسلوكه البعيد كل البعد عن الانسجام مع الطبيعة، فالمناخ بطبيعته المتغيرة والمتقلبة يزيد من تعقيد تحقيق التنمية المستدامة، حيث ان الكوارث الكوارث الطبيعية المتزايدة والمتسارعة نتيجة للتغير المناخي تتسبب في دمار واسع النطاق، مما يعيد الاقتصادات إلى نقطة الصفر بشكل متكرر، بالإضافة إلى حقيقة ان العالم اليوم و نتيجة للتغير المناخي اصبح يعيش في مواجهه مستمرة مع الاوبئة و الأمراض الجديدة التي تجد الحكومات كل الصعوبات في مواجهتها و مواجهة نتائجها الصحية و الاقتصادية و ربما السياسية، فنجد ان الاختلاف و الإخلال المستمر في المناخ يجعل من التنمية المستدامة فكرة ليس من صالح الشركات او الحكومات تبنيها لان الواقع الذي نعيش يجعل من الصعب جداً تحقيق أي نوع من التوازن المستدام.
يمكن النظر إلى التنمية المستدامة كفكرة تعاني من تناقض داخلي، فهي تسعى تحقيق أهداف عبر مدة زمنية طويلة في عالم تعصف به العديد من المشاكل و القضايا التي تتطلب توفر حلول سريعة لكي لا تتفاقم مشاكله، فقد كان الفلاسفة منذ العصور القديمة قد تحدثوا عن فكرة السعي لتحقيق الكمال في عالم ناقص على الرغم من أن الكمال هو هدف مستحيل بطبيعته، نجد ان التنمية المستدامة بهذا المعنى هي انعكاس لمعنى ما قاله الفلاسفة و صورة أخرى لهذا السعي العبثي. فهي تحاول ترويض القوى الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية المتناقضة والمتغيرة باستمرار و المتسبب بها الإنسان نفسه مما يجعل الرهان عليها في نهاية المطاف خاسر.
نحن نعيش اليوم في عالم مليء بالأزمات في كافة الجوانب و الصعد و بنفس الآن نعيش ثورة رقمية متسارعة و متضاعفة بشكل مذهل، مما يجعلنا نطرح التساؤل حول ما إذا كانت التقنيات الحديثة يمكن أن تكون الحل المثالي لمشاكل التنمية المستدامة، ام انها احدى تحديات هذا النوع من التنميه، فبينما تُقدِّم التقنيات الجديدة فرصًا لتحسين الكفاءة والحد من الأثر البيئي، إلا أنها تحمل أيضًا مخاطر عديدة منها الضرورة للتعديل و الإضافة مما لا يتناسق مع الخطط التي وضعت سابقا في مشروع تنميه يحتاج سنوات طويلة لتحقيقه و تكاليف باهضة لانجازه، فيكلف هذا الأمر العديد من الخسائر و التحديات المالية و يولد حالة من الفوضى و التغير المستمر للقرارات مما يشكل عائقاً حقيقياً في طريق التنمية المستدامة.
في ظل هذه التحديات، تصبح التنمية المستدامة كهدف عالمي في مواجهة عقبات هائلة قد تجعلها غير مجدية في ظل الظروف الحالية، مما يدفعنا لإعادة التفكير في كيفية تحقيق أهداف التنمية التي تبدو للوهله الأولى أكثر من مجرد حلم جميل، ولكن في الواقع، تظل بعيدة عن التحقيق و غير مجدية في عالم يتسم بالفوضى والتغير المستمر.
إن التحديات التي نواجهها اليوم تتطلب نهجًا اقتصادياً جديدًا، ربما أكثر واقعية وأقل تطلعًا نحو الكمال، ولكن يمكن تحقيقه في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها، و ذلك يكون عبر إنشاء مشاريع تكون نتائجها ملموسة على الفرد و المجتمع و من ثم على الاقتصاد الوطني مما سيكون له الأثر في فتح آفاق جديدة للدخول للسوق العالمية و الابتعاد باكبر قدر ممكن عن اي مخاطر و تحديات سياسية كانت ام اقتصادية و اجتماعية، فالاقتصاد المتزن هو افضل ضمان لاتزان المجتمعات و الحكومات و تقدمها.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-06-2024 04:10 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |