29-06-2024 08:11 AM
سرايا - لا تكاد تحظى شخصية أدبية في التراث العربي بما حظي به أبو حيان التوحيدي (310-414هـ/ 922- 1023م) من إثارة للجدل حول أفكاره، واستدعاء لشخصيته في إشارة للاغتراب والمظلومية وعدم جدوى المثقف.
فقد غدا التوحيدي رمزا للمثقف المظلوم الذي رغم إمكانياته الكبيرة، مفكرا وفيلسوفا ومتصوفا، فإنه لم يحظ على مستوى حياته بما يليق به من مكانة مادية تدفع عنه شظف الحياة التي لاحقته.
ويستدعى التوحيدي رمزا للأديب المخذول من أصدقائه الذين تبوؤوا في عهده مكانة كبيرة في الدولة، وهم من أهل مهنته، في حين ظل يعاني البؤس والحرمان.
ولطالما عانى الاغتراب والغربة في حياته وعبر عنها في كثير من كتبه، لعل أشهرها كتابه " الإشارات الإلهية" الذي جنح فيه إلى التصوف، وربما كانت الغربة دافعه أيضا في تأليف رسالته في الصداقة والصديق.
ولعل حادثة حرقه كتبه كانت تعبر عن ذلك اليأس الكبير الذي أصابه من "عدمية" المثقف والثقافة في عصره؛ ذلك الاغتراب الذي عبر عنه الشاعر وليد سيف في إحدى قصائده:
وهنا أبو حيان يوغل في اغتراب الروح..
لا الدنيا تراوده، ولا الصحراء تعرفه..
ولا بغداد تمنحه يديها
أواه ما أقسى اغتراب الروح في زمن..
يرى الشعراء والحكماء نافلة وحاشية
يريح التاجر العنين ركبته عليها
فاحرق كتابك أيها العقل النبيل
وادفن سؤالك في المدى..
ولينتحر فيك النخيل
وانصب لشمس الله وجهك، قد دعاك له الرحيل
وأبو حيان هو علي بن محمد بن العباس، وعن نسبه يقول محقق كتابه "الإشارات الإلهية" خميس حسن "إن ما وصل عن أبي حيان من معلومات عن حياته قليل وهو قليل ومضطرب، ولا يعدو الأمر أن يكون ظنا وترجيحا، أما اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله، وهذا راجع -برأي حسن- إلى تجاهل أدباء عصره ومؤرخيه له.
وينقل عن ياقوت الحموي تعجبه من تجاهل كتاب عصره له "إننا نجهل تماما أصله ونشأته"، خصوصا أن "أحدا لم يذكره في كتاب ولا دمجه في خطاب وهذا من العجب العجاب".
ويقول ياقوت الحموي في ترجمته لأبي حيان إنه "شيرازي الأصل، وقيل نيسابوري، ووجدت بعض الوسطاء يقول واسطي".
وهناك من يميل إلى أنه عربي الأصل منهم محمد كرد علي مستندا إلى أنه ليس في اسمه ما يشير إلى فارسيته كما أن أبا حيان التوحيدي لم يكن يعرف الفارسية ولا يوجد في كتبه ما يدل على أنه فارسي.
وبغض النظر عن فارسيته أو عروبته، يرى حسن أنه في "كلتا الحالتين لن يكون إلا إنسانا مفكرا يحاول أن يكمل نفسه بالعلم والدين والأخلاق، ويسعى جاهدا في سبيل العمل على ربط الحكمة النظرية بالحكمة العملية".
وعن مكانته العلمية، يقول "إنه واحد من ألمع ثمرات الفكر الإسلامي وأكثرها نضوجا، فهو صاحب عقلية من أكثر العقليات الإسلامية خصوبة وعطاء وتفجرا بالنفيس من القول، والسديد من الرأي، والوفير من الإنتاج، كما يعد التوحيدي مرآة ناصعة لثقافة عصره التي قطف ثمارها الفلسفية والصوفية والبلاغية".
ترك التوحيدي وراءه كثيرا من المؤلفات منها "كتاب الصداقة والصديق"، و"الرد على ابن جني في شعر المتنبي"، و"الإمتاع والمؤانسة"، و"المقابسات"، و"رياض العارفين"، و"تقريظ الجاحظ"، و"ذم الوزيرين"، وكتاب "الرسالة في الحنين إلى الأوطان"، و"البصائر والذخائر"، و"الهوامل والشوامل" وغيرها.
وتأثر أبو حيان -الذي لقب بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء- بشخصية الجاحظ وأسلوبه في الكتابة، بل إن باحثين ودارسين يطلقون عليه لقب "الجاحظ الثاني"، ولا يخفي التوحيدي إعجابه بالجاحظ وألف كتابا في تقريظه وبه يشيد قائلا: "ومتى رأيت ديباجة كلامه، رأيت حولها كثير الوشي، قليل الصنعة بعيد التكلف، حلو الحلي له سلاسة كسلاسة الماء ورقة كرقة الهواء.. فسبحان من سخر له البيان وعلمه، وسلم في يديه قصب الرهان.. إن جد لم يُسبق، وإن هزل لم يُلحق".
عاش التوحيدي في بغداد وتنقل بين كثير من البلدان وقيل إنه توفي في شيراز، وفي ما يلي مقتطف من نصوصه:
يا هذا! هذا وصف غريب نأى عن وطن بني بالماء والطين، وبعد عن آلاف له عهدهم الخشونة واللين.. فأين أنت عن غريب طالت غربته في وطنه، وقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟! وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟! قد علاه الشحوب وهو في كن، وغلبه الحزن حتى صار كأنه شن. إن نطق، نطق حزنان منقطعا، وإن سكت، سكت حيران مرتدعا، وإن قرب، قرب خاضعا، وإن بعُد، بعُد خاشعا، وإن ظهر، ظهر ذليلا، وإن توارى عليلا، وإن طلب، طلب واليأس غالب عليه، وإن أمسك، أمسك والبلاء قاصد إليه، وإن أصبح، أصبح حائل اللون من وساوس الفكر، وإن أمسى، أمسى منتهب السر من هواتك الستر؛ وإن قال، قال هائبا، وإن سكت، سكت خائبا؛ قد أكله الخمول، ومصه الذبول، وحالفه النحول، لا يتمنى إلا على بعض بني جنسه، حتى يفضي إليه بكامنات نفسه، ويتعلل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته.
وقد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب.. بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب.
يا هذا! الغريب من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعذاله، وأغرب في أقواله وأفعاله، وغرب في إدباره وإقباله.. يا هذا! الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه.
هذا وصف رجل لحقته الغربة، فتمنى أهلا يأنس بهم، ووطنا يأوي إليه، وسكنا يتوادع عنده. فأما وصف الغريب الذي اكتنفته الأحزان من كل جانب، واشتملت عليه الأشجان من كل حاضر وغائب، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب، واستغرقته الحسرات على كل فائت وآئب، وشتته الزمان والمكان من كل ثقة ورائب، وفي الجملة، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطته بأيدي العواتب عن المراتب، فوصف يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويشل عن بجسه اللفظ، لأنه وصف الغريب الذي لا اسم له فيُذكر، ولا رسم له فيُشهر، ولا طي له فيُنشر، ولا عذر له فيُعذر، ولا ذنب له فيُغفر، ولا عيب عنده فيُستر.
هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه.
يا هذا! الغريب من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحق زجر. الغريب من إذا أسند كُذب، وإذا تطاهر عُذب، الغريب من إذا امتار لم يُمر، وإذا قعد لم يُزر. يا رحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى!
الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. الغريب من إذا تنفس أحرقه الأسى والأسف، وإن كتم أكمده الحزن واللهف. الغريب من إذا أقبل لم يوسع له، وإذا أعرض لم يُسأل عنه. الغريب من إذا سأل لم يعط، وإن سكت لم يُبدأ.. الغريب من إذا نادى لم يُجَب، وإن هادى لم يُحَب. اللهم إنا قد أصبحنا غرباء بين خلقك، فآنسنا في فنائك. اللهم وأمسينا مهجورين عندهم، فصِلنا بحبائك.
يا هذا! الغريب في الجملة كله حُرقة، وبعضه فُرقة، وليلة أسف، ونهاره لهف، وغداؤه حزن، وعشاؤه شجن، وآراؤه ظنن، وجميعه فتن، ومفرقه محن، وسره علن، وخوفه وطن.
الغريب من إذا دعا لم يُجب، وإذا هاب لم يُهب.. الغريب من فجعته مُحكمة، ولوعته مضرمة. الغريب من لبسته خرقة، وأكلته سلقة، وهجعته خفقة.