09-07-2024 08:13 AM
سرايا - اختارت الكاتبة العمانية ليلى عبد الله (ولدت عام 1982)، من خلال مجموعتها القصصية الجديدة الصادرة عن دار مرايا، أن تنحاز لفن القصة القصيرة بمفهومها التقليديّ نوعا ما، والعودة إليها، بعد صدور روايتها الأولى "دفاتر فارهو" (دار المتوسط 2018)، خاصة أنها بدأت حياتها الأدبية بكتاب نقديّ عن أدب الأطفال (2007)، ثم أتبعته بمجموعتين قصصيتين "صمت كالعبث" (2008) و"قلبها التاسع" (2014)
الحكاية وعناصرها
ولكن عودتها لهذا الفن الأدبي لم تكن فقط بوجود قصص تشكلت لديها تباعا، وشكلت فيما بعد مجموعة قصصية سعت لنشرها، بل هو توكيد لموقفها المنحاز لنوع معين في كتابة القصة القصيرة، وهو النوع، الذي تراه ليلى، يشكل جودة ذلك الجنس الأدبي. إذ تعتقد ليلى عبد الله أن القصة العربية القصيرة مرّت في وقت ما "بحالات ركود"، وربما يعود سبب ذلك إلى "كتابتها بطريقة خاوية". وأرجعت سبب ذلك الخواء إلى تناسي كثير من كتّاب القصة القصيرة أن "القصة القصيرة في النهاية هي سرد حكائي، وهي كذلك حدث وشخصيات متنامية، وليست مجرد حشد لغوي فارغ لا يمس روحك".
وبسبب هذه الفكرة الراسخة عندها يجد القارئ، كما في أعمالها السابقة، أن مجموعتها القصصية الحديثة "فهرس الملوك" تنتصر لذلك التعريف المتعارف عليه في كتابة القصة القصيرة، التي قدمت كتّابا عظماء في كتابتها، سواء محليا أو عربيا أو عالميا.
وفهرس الملوك يحتوي على 15 قصة قصيرة أعطت ليلى لكل منها شخصيات مختلفة، وحدثا مثيرا، ومآزق وحلولا، ولكن يضمها، في كل مرة، فضاء عام مشترك، وهو أن جميع تلك القصص جرت في ممالك، أو جرت لشعب يحكمه ملك. وهذا الفضاء يعني، بشكل ما، أن ليلى استفادت من الإرث الشفويّ والكتابيّ الضخم، في تقديم ما يتعلّق بتلك الحالات التي تخصّ أمورا واقعيّة وآنيّة، وليست تراثيّة وخياليّة على طول الخط. وبسبب قراءات ليلى لذلك التراث؛ حاولت ألا يرهق شخصيّاتها ذلك القناع العام، بقدر أن يُعطي لقارئها تلك الإثارة التي شاعت عنه.
الملك الجائع
ففي قصتها الأولى، على سبيل المثال، بعنوان "ذوّاق الملك" يجد القارئ ملكا خائفا من تسميم أعدائه له، وشخصية رجل فقير، متزوج ولديه أطفال، ذهب للقصر ليعمل ذوّاقا لطعام الملك قبل تقديمه له. هذا الفقير قد يموت في أية لحظة إذا تذوّق طعاما مسموما. ولأن الملك لا يأكل وجبة واحدة، فكان على الفقير أن يتذوق كثيرا من الأصناف التي لن يحلم حتى برؤيتها أمامه طوال حياته.
عاش الملك في رعب الموت، بينما الفقير كان يذهب "كمحارب إلى وليمة الموت، كنتُ على أتمّ الاستعداد، قد ينتهي أمري هذه الليلة، لكن سأموت شبعان، كما تمنيتُ، وهذا الشعور المتدفّق بحدّ ذاته يدفعني نحو الموت منتصرا". وهذه الجملة التي يقولها الفقير، والذي عانى من جوع مزمن، تفسّر لوحدها الشعور الداخليّ لطبقة كاملة تعيش حياة الفقر والعوز في تلك المملكة، وكان بإمكان الكاتبة ليلى عبد الله أن تكتب عشرات الصفحات الأخرى فقط لشرح هذه الجملة، وعشرات الصفحات لشرح حال زوجته وأطفاله الذين كان يصلهم راتبه العالي لقاء هذه المهمة الخطيرة، وكذلك عشرات الصفحات الأخرى لشرح حالة الملك وخوفه والمؤامرات التي تُحاك من أجل التخلص منه. لكن الكاتبة تكتب هذه القصة في 4 صفحات فقط، لنعثر على تلك النهاية الصادمة؛ فبعد 3 سنوات قضاها ذوّاق الملك في القصر "قضى الملك بسبب سوء التغذية، وظلّت المؤامرات تعيش بعده، وقد عدّتُ إلى أسرتي التي تحسّنت أحوالها؛ بفضل ما أرسلته لها من بريق الذهب، إلا أنني عدتُ مريضا بالنقرس".
التكثيف وتعدّد الرواة
من خلال هذه القصة يظهر ذلك التضاد في المصائر، فالملك يموت بسوء التغذية، وهو مصير يلاحق المعوزين والمعدمين، بينما الذوّاق الفقير يموت أو يمرض بداء الملوك! وهو داء النقرس الخاص بالأغنياء.
خلال هذه القصة يكون الراوي هو ذوّاق الملك. الفقير الذي يعاني من الجوع، ثم سيُعاني من فزع أكل الطعام الفاخر، ثم سيُعاني من فرط الشبع. وقد قّدمت ليلى عبد الله هذه الشخصية بشكل أعمق من شخصيّة الملك، التي من الممكن أن نفهمها، وأن تصورها، بمعرفة التضاد بين الشخصيّتين وحياتهما ومقدار ومدى آمالهما.
الميزة الأخرى أن ليلى عبد الله كثّفت كثيرا في هذه القصة، وهذا ما ينطبق على قصص الكتاب التي تجري في 84 صفحة، وهي ميزة يفعلها الكاتب كقارئ لنصه، فيحذف ما يراه حشوا، أو ما يراه قد يُبطّئ من سرعة التشويق أو الإثارة. وعندما سألنا ليلى عبد الله عن منابع هذه الطريقة في التكثيف والمحو، إنها حصلت على ذلك "بسبب الشعر". فقد كانت كتابة الشعر هي "صلتي الأولى باللغة". واستطردت قائلة: "يبدو أننا ككتّاب في صلتنا الأولى بالكتابة نعبر بالشعر؛ لأنه يغذي لدينا المخزون اللغوي الذي نحتاجه لاحقا من أجل ولوج العوالم السردية شديدة التنوع، وهو أكثر رحابة في التعبير".
وقالت إنها بعد أن كتبت القصة الأولى في حياتها "هجرت كتابة النصوص الشعرية"، حيث وجدت نفسها في "سرد الحكايات. وظل الشعر، رغم ذلك، محتفظا بمكانته في إثراء مخزوني اللغوي، ولم أتحرر منه كليا، فالقصص التي كنتُ أكتبها طبعت في بداياتي بلغة شعرية مكثّفة وكان هذا سائدا في صناعة القصص في ذلك الوقت".
وتقول ليلى عبد الله: لكن مع نضوج الوعي الكتابي وتناميه؛ تحررت تدريجيا من كثافة اللغة الشعرية في سرد الحكايات إلى لغة تفيض بالرمزية والواقعية. "في الحقيقة ظللت وفية نوعا ما للقصة القصيرة ردحا من الزمن، وصدرت لي عدة مجموعات قصصية، حتى وجدتني أنساق إلى عوالم الكتابة الروائية، وحين ولجتها أدركت أنني تورطت وغدت كتابة القصة القصيرة شيئا من الماضي. لكن كعادة المزاج الكتابي يفاجئنا بما لا نتوقعه. ففي زخم مشروعي الروائي الثاني الذي يستدعي كثيرا من العمل، وجدتني أركنه جانبا قليلا، وعلى سبيل الاستراحة من اللهاث خلف أمكنة وأزمنة متعددة، جلست لأكتب فهرس ملوكي. جاءت الحكاية الأولى كحلم وحين استيقظت من نومي استرسلت في كتابة الشخصية كما حلمت بها تماما. كان طريفا ويتمتع بسخرية عالية رغم فقره المدقع. ومن بعدها توالدت بقية الحكايات".
بعد ذوّاق الملك تتالى قصص "تمثال الملك" و"لوحة الملك الفحمية" و"حاملو اللواء" و"نفايات الشعب" و"الملك المزيّف" و"وريثة العرش" و"لعنة المرايا" و"الناطق الرسمي" و"جحافل الشيطان" و"مدوّنو التاريخ" و"الكرسيّ" و"ليلة سقوط شهريار" و"نهاية شعب لا يسمع" و"ملكة القلوب".
في كل هذه القصص يوجد رواة مختلفون، سواء في جهة الملك أو في الجهة المضادة، ولا تذهب ليلى لبناء الشخصيّات خارجيا ونفسيا، بقدر ما تذهب إلى الحدث والحوار والمأزق والحل أو النهاية. ففي قصص مثل هذه يكون الحدث هو الأهم، وهو ما يتم بناء القصة حوله، وتعدد الرواة، رغم دلالته على استخدام شخصيات متعددة، إلا أنه لا يأتي في المقام الأول، بل خادما للفكرة، ولاسترسال الكاتبة القليل نحو تحقيق مقولتها الواضحة أو المتوارية.
سخرية وتقاطعات
لا تخلو العديد من القصص من روح السخرية والمرح، ويشرح بعضها الآخر حيَل الوزراء في كيفيّة شدّ سلطة الملك وتمكينها، وكذلك في كيفية تدوين تاريخ مزيّف، وكيف يصبح حقيقيا فيما بعد. عن ألعاب الملوك والوزراء في اختراع أعداء وهميين وشرسين للشعب، تمنع الناس من عرض شكاويهم أو التفكير بالحد الأدنى من حقوقهم، طالما أن حقهم في الحياة في خطر، وطالما أن الملك يظهر كأنه يحمي ذلك الحق في الحياة ضد "جحافل الشيطان".
وكذلك كيف تُصنع الأمجاد من خلال قصة "مدونو التاريخ" الذين يُجبرهم الملك على كتابة مخطوطات تحكي عن أمجاده وميزاته وبطولاته الوهميّة. ورغم زيف تلك المخطوطات وذلك التاريخ، فإن الملك حين يسقط وتزول سلطته ويهرب، يأخذ معه تلك المخطوطات الزائفة عن بطولاته. ويذهب استمرار الزمن بحياة مدوني سيرته وتاريخه، ثم تقع بعض تلك المخطوطات في يد مترجم من الصين، متعددة اللغات، وينبهر بالسيرة والتاريخ المكتوب لملك عظيم ومغمور، ومكان غير معروف لديه، فيترجم ذلك التأريخ المزيف لعدة لغات ويصبح مثل تأريخ حقيقي.
الاستفادة تأتي بشكل أوضح في "ملكة القلوب" وكذلك عندما تدفع شخصيات شهرزاد للخروج من حكاياتها الليليّة على الملك السعيد، عندما قرر قطع رأسها لأنها فقدت صوتها، وصارت شخصياتها تشكل جيشا نصبها ملكة "تصون نفسها ونساء مملكتها من بطش هذا الملك الجبار، الذي أودى بحياة كثير من الضحايا"، وفي النهاية تأمر السياف بقطع رأس الملك شهريار.
في "فهرس الملوك" تميل ليلى عبد الله إلى محاولة التجريب، والسعي إلى كسر التوقعات لدى القارئ، وهو "تحدّ أخوضه في كل كتاب جديد لي". واستخدام الشكل التراثي لم يكن بسبب الرقابة، بل "لم يعنِني أمر الرقابة كثيرا وأنا أكتب هذه المجموعة. وددت في الحقيقة كتابة قصص تمس جميع الأرواح، أرواح الصغار والكبار. قصص تضحكنا وتبكينا في آن واحد. قصص تتمتع بالخفّة، وتنهيها في جلسة واحدة وتشعر بعدها برغبة لإعادة قراءتها مرة بعد مرة. قصص تمثل كل الأزمنة، حتى القادمة منها".