15-08-2024 08:53 AM
بقلم : علاء الدين أبو زينة
«تلاقت أهداف الهيمنة للولايات المتحدة وإسرائيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. واعتبَرت كلتاهما الهيمنة على المسلمين وحكوماتهم أمرًا أساسيًا لمصالحهما الإمبريالية والإقليمية. لكنّ النظام العالمي الذي تصورتاه لم يتوافق مع المصالح الوطنية لسكان فلسطين الأصليين وتصميمهم على مقاومة مصادرة الصهاينة الأوروبيين لممتلكاتهم واحتلال أراضيهم. ولا مكان للتعايش السلمي في المشروع الاستعماري الصهيوني المتوخى لـ»أرض إسرائيل». ولم يكن السلام إرث أميركا في المنطقة منذ أن برزت كقوة إمبريالية في مرحلة ما بعد الحرب».
تلخص هذه العبارات الموجزة من مقالة حديثة للعالم السياسي الدكتور م. رضا بهنام قصة الشرق الأوسط الحديث. ووفق هذا التصور– أو أي اعتبارات أخرى يمكن تخيلها- من غير الممكن العثور على أي مصلحة آنية أو إستراتيجية للعرب في القبول بأي مهيمن، خارجيا كان أم إقليميا، أو قصر فعاليتهم على الاختيار بين مُهيمنِين متنافسين.
مع ذلك، يتولد انطباع لدى ملاحظة سلوك المنطقة بأن فيها اتجاها – ليس سائدًا ولكنه غالب- يرى مصلحة متصوَّرة في وجود «إسرائيل صهيونية» على حساب «فلسطين عربية»- أو على الأكثر الاكتفاء بـ»فلسطين رمزية» صغيرة جدًا وبلا سيادة ولا دفاع ولا أمن، تحت جناح «إسرائيل مهيمِنة». ويتحدى هذا الاتجاه النتائج المنطقية لأي قراءة تاريخية أو إستراتيجية أو براغماتية لعلاقة المنطقة بالكيان الصهيوني الاستعماري ودوره الأساسي كقاعدة متقدمة للمؤسسة الاستعمارية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وسوف يظهر أي فحص أن ما تريده الولايات المتحدة حقًا ليس دمج الكيان في الإقليم بثمن إلغاء فلسطين تاريخيًا- وهو ما يتكفل الشعب الفلسطيني بإحباطه بعناد- وإنما ضمان هيمنته على الإقليم وحراسة إخضاعه من خلال انعدام الأمن والاضطرابات وفقدان التوازن.
الشرق الأوسط العربي منطقة غنية بالتاريخ والثقافة والموارد التي تؤهله ليكون مركز ثقل في العالم. ربما لهذا السبب بالتحديد جُعل مركزًا للتوتر الجيوسياسي منذ انسحاب الاستعمار الصريح– وإنما ليس الضمني. وكان من أحد أبرز عوامل التأزيم هو تفعيل ديناميات تُسلم المنطقة لصراعات مستمر على السلطة والنفوذ، بشرط تنصيب الكيان الصهيوني في موقع القوة المهيمنة الوحيدة. وكان ينبغي أن تواصل الدول العربية منعه من أن يهيمن في منطقتها. وينبغي أن يكون هذا موقفًا تفرضه التناقضات الأساسية بينها وبين الكيان، والضرر الذي يلحق بمصالحها ورفاهية شعوبها بسببه، والانتباه إلى دعم الولايات المتحدة غير المتناسب على الإطلاق له على حسابها، مع اشتراط قبولها بهيمنته لـ»الشراكة» معها.
التناقضات بين العرب والكيان الصهيوني جوهرية وأساسية تتجذر في النزاعات التاريخية والمستمرة التي أنتجها خلق مستعمرة استيطانية عسكرية عدوانية من خارج المنطقة، تناصب العرب العداء الصريح وتعيش على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وإلغاء شعب عربي. وكانت طبيعة هذه المستعمرة وسياساتها التوسعية وأنشطتها الاستيطانية وعملياتها العسكرية مصدرًا للاستياء العميق والمقاومة بين المواطنين العرب في كل الإقليم. وسوف يُنظر إلى السماح لها بالهيمنة على المنطقة على أنه قبول بهذه الأعمال، فتقويض شرعية القضية العربية وحقوق الشعب العربي الفلسطيني.
ثقافيًا، يتناقض الكيان الصهيوني– وليس اليهود- مع تركيبة الدول العربية المتنوعة– وإنما المستقرة منذ وقت طويل- ولها روابط ثقافية ودينية قوية مع إقليمها، وخاصة القدس والأماكن المقدسة الأخرى. ويطرح الكيان نفسه، كـ»دولة يهودية»، بهوية ثقافية ودينية إقصائية، متعارضة مع قيم ومعتقدات العالم العربي. وسوف تفرض هيمنته تهديدًا للسلامة الثقافية والتكامل الديني للمنطقة. وكان من نتائج خلق الكيان اقتلاع اليهود العرب من سياقهم الهوياتي والثقافي التاريخي، كما تعبر عن ذلك أدبياتهم عن ثيمة الاغتراب.
تُظهر الهجمة الحالية المركزة على المسجد الأقصى بقصد تهويده، وردة الفعل الضعيفة، كيف تؤدي سياسات الكيان إلى تآكل الهوية الثقافية والدينية العربية، ومدى التشويه الذي ألحقه الكيان بتماسك الشخصية الثقافية للإقليم، بالإضافة إلى تعميق الاختلافات الدينية والطائفية والعرقية وما يصنعه ذلك من تقويض للنسيج الاجتماعي وتنفير العرب من تراثهم وتعميق الانقسامات داخل مجتمعاتهم.
اقتصاديًا، يتناقض النموذج الاقتصادي للكيان المدعوم بقوة بالتقنية المتقدمة والصناعات العسكرية الغربية، مع الاقتصادات الريعية القائمة إلى حد كبير على الموارد في العديد من الدول العربية. وكان الكيان يسعى بقوة، بدعم رعاته وأهمية موقعه، إلى السيطرة على الموارد المائية، وإمدادات الطاقة، وطرق التجارة، الحاسمة كلها لبقاء وازدهار الدول العربية. وسوف تخنق هذه السيطرة النمو الاقتصادي والتنمية في العالم العربي، وتجرد العرب من التحكم بمقدراتهم وتعمق الفقر وعدم الاستقرار. وكان من الواضح أن مسعى الولايات المتحدة هو ربط تطوير المنطقة العربية بشرط إفادة الكيان وازدهاره، وبحيث تبدأ الأمور وتنتهي كلها عنده أو تمر به.
إذا أصبح الكيان الصهيوني هو القوة المهيمنة في المنطقة، سوف يتعمق التهميش السياسي للدول العربية. وسوف تتضاءل أصواتها أكثر في المحافل الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، وستضعف قدرتها الضعيفة أصلاً على التأثير في السياسات الإقليمية. وسيؤدي هذا التهميش إلى المزيد من تآكل السيادة الوطنية وفرض سياسات لا تتماشى مع المصالح العربية.
إذا كانت الدول العربية تعاني من هاجس الأمن، فإنه ليس من الصعب العثور على الصلة بين اضطراب الإقليم والكيان الصهيوني الذي يشكل أكبر تهديد للأمن القطري والقومي العربي. وسوف يستخدم الكيان المهيمن قدراته العسكرية المتقدمة المدعومة من الولايات المتحدة والغرب لتخويف أو إجبار الدول العربية على الامتثال لسياساته وترتيباته. وسيؤدي ذلك حتمًا إلى تفاقم التوترات القائمة، وإثارة المزيد من الصراعات البينية والمحلية، وتعريض حياة الملايين للخطر. وفي هذه الأيام، يحدد الكيان وجهات الإقليم، ويمكن أن يذهب به إلى حرب طاحنة يورط فيها الدول العربية التي ستضطر إلى مواجهة خيارات صعبة من حيث الاصطفافات والخسائر الثقيلة، حيث الهدف النهائي هو تكريس هيمنة الكيان ومن دون أي مصلحة عربية. ومن المؤكد أن هناك خيارات إستراتيجية أخرى يمكن أن يتخذها العرب للخروج من كل هذه المعمعة المدمرة التي ينخرط فيها لأكثر من قرن.- (يُتبع)
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-08-2024 08:53 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |