26-08-2024 10:15 AM
سرايا - عندما سئل شاعر إسبانيا الكبير، الأندلسي فيديريكو غارسيا لوركا (1898-1936)، عن الاحتفال بـ"توما"، تاريخ استيلاء الملوك الكاثوليك على مدينته الأثيرة غرناطة، آخر قلاع الحكم الإسلامي في الأندلس، في 2 يناير 1492، قال مقولته الشهيرة: "كانت لحظة سيئة للغاية، رغم أنهم يقولون عكس ذلك في المدارس. ضاعت حضارة رائعة، وشِعر وعِلم فلك وهندسة معمارية، وذوق غذائي فريد من نوعه في العالم، لإفساح المجال أمام مدينة فقيرة مرعوبة؛ إلى أرض تشافيكو حيث تتحرّك حالياً أسوأ برجوازية في إسبانيا".
قال ذلك في آخر حوار له قبل مقتله سنة 1936، في ذروة الحرب الأهلية الإسبانية. ويرى البعض أن مقولته أثارت حفيظة البرجوازية، وقد تكون عجّلت بنهايته المأساوية، التي لم تتخلص إسبانيا من مرارتها بعد.
لم يكن لوركا يهتم بالسياسة بقدر ما كان يعانق قضايا المضطهدين والمهمّشين، الذين عبّر عنهم في روائعه الشعرية والمسرحية.
شِعر الألم غجري
لوركا ليس شاعراً فقط، وارتباطه بغرناطة لم يكن مجرد انتماء إلى مسقط الرأس. هنا تفتّقت عبقريته، وهنا نهل مقوّمات إبداعه.
استلهم من المدينة ثيمات قصائده، وجمع فيها من تراث الأندلس الغنائي الشفاهي في البوادي، الذي أنقذ جزءاً هاماً منه من النسيان، وكان من عائلة ثرية من ملاك الأراضي الفلاحية، واستلهم من التراث الثقافي للغجر الذين كانوا يعانون من التهميش، خصوصاً الفلامنكو.
ولأنه كان موسيقياً بارعاً وعازف بيانو ماهر في شبابه، منح شعره قوّة جذب إيقاعية مميزة بالغنائية، مستمدة من عمق الأرض الأندلسية.
لكنها غنائية ملأى بالشكوى ورثاء الغاضبين، والمنحى التراجيدي أيضاً، قاسية الوقع وتتوزع في ثناياها قصص الحب والخيانة، نبل الفروسية وغياب العدالة، الأثرياء والمسحوقين.
يسيل الدم في أشعار لوركا كثيراً، ولا يخفّف وطأته سوى العودة إلى الجذور الأولى للغناء. تنبثق القصائد حرّة وحزينة، لكن أجمل صدى وأعمق أثراً. نرى ذلك في ديوانه الأول "أغاني" (1921) الذي استلهم فيه الغناء الأصيل لدى الغجر، ثم ديوانه الثاني الذي نقله مباشرة إلى العالمية وتبوّأ مكانة عالية، "الأغاني الغجرية" (1927).
إنه الشعر المسكون بالألم، فالكتابة الشعرية لديه لا تكمن في وصف المشهد بحدّ ذاته، بقدر ما تكمن في التعبير عن الألم الذي يمرّ عبره، وهو أمر مختلف تماماً.
يعرّف لوركا الكتابة بأنها "أغنية من دون مشهد طبيعي"، "عندليب من دون عيون"، كما يقول الباحث توما لوكيلير من جامعة السوربون في دراسة مهمّة له (books.openedition.org).
شِعر هو حوار بين الطبيعة الحانية والقاسية في آن واحد، والإنسان النازع إلى التحقّق والكرامة، والمحب للحياة في ما تمنحه من لذّة حسّية، لا تستثني سموّ الروح والسعادة الخالصة.
"المورو" هاجس وشريك
كل ذلك سيتأكد لاحقاً بالتوازي مع قصائده في مسرحياته، خاصة "عرس الدم"، التي اقتبسها المخرج المغربي سهيل بنبركة لإخراج فيلم يحمل العنوان نفسه سنة 1977، أدّت فيه دور البطولة الممثلة اليونانية المعروفة إيرين باباس، و"بنات يرناردا ألبا"، الذي قدّم كمسلسل تلفزيوني مغربي ناجح، بعنوان "بنات لالة منانة"
هذا الاهتمام المغربي ليس غريباً، فشخص "المورو"، الذي يحضر كثيراً في التأريخ الأندلسي يعني المغاربة، الذين لهم تاريخ مشترك طويل منذ الفتوحات التي بدأت مع القائد طارق بن زياد، قادماً من سواحل الشمال المغربي.
تبعه حُكم سلالات المرابطين والموحّدين للأندلس، ثم المرينيين بدرجة أقل، بعد فتور الحُكم الأموي، وظهور ملوك الطوائف، ثم الحماية الاستعمارية التي فرضها الإسبان بمعية فرنسا على المغرب، طيلة النصف الأول من القرن العشرين.
من شمال المغرب انطلق الجنرال فرانكو بحملته ضد الجمهوريين الإسبان، خلال الحرب الأهلية التي كان فيديريكو غارسيا لوركا أشهر ضحاياها.
في قصيدة "خطوات السيكّيريا" (نوع من الرقص مرتبط براقصة فلامنكو) يقول لوركا: "بين الفراشات السود/ تخطو السمراء المغربية/ بجوار ثعبان الغيم الأبيض/ أرض النور/ سماء لأرض/ تخطو مغلولةً بارتعاشة / إيقاعٍ لن يستقر على حال/ ها قلبها من لجين/ وفي يدها خنجر/ فإلى أين أنت ذاهبة يا سكّيرية؟"
تنهيدة أبو عبدالله الأخيرة
الحضور الإسلامي والعربي سيتأكد بشكل أوضح في أشعاره التي نُشرت سنة 1940، أي بعد وفاته تحت مسمى "ديوان تماريت" (التماريت كلمة أمازيغية تعني العاشقة، تايري هي العشق)، نَظَمها باتباع خصائص القصيدة العربية.
جدير بالذكر أن أشهر قصيدة عربية ترثي ضياع الأندلس من قِبل المسلمين، تدرّس في مدارس الوطن العربي، هي التي كتبها أبو البقاء الرندي، ويقول في مطلعها، "لكل شيء إذا ما تمّ نقصان.. فلا يغرّ بطيب العيش إنسان".
وقيل بأنها تتناول بداية تداعي الحكم الإسلامي بعد استيلاء بني الأحمر على غرناطة. وأبرزهم أبو عبد الله الذي حُرّف اسمه إلى "بوابديل" من قِبل الغرناطيين الحاليين، وهو آخر ملوك غرناطة.
وبقدر ما كانت حياته الواقعية مرتبطة بتسليمه مفتاح غرناطة، وقصر الحمراء للملكة إيزابيلا والملك فرديناند، بعد الحصار والهزيمة، نُسجت له حياة أخرى، أسطورية.
هو الملك الباكي لدى المسلمين، والملك الذي يحمل لقب "الزغبي"، أي سيء الحظ في اللغة العامية للمغاربة. وهو الملك الذي كان موضوع لوحات فنية شهيرة وحكايات، بعضها كتبها الكاتب الأميركي واشنطن إيرفينغ سنة 1832، بعنوان "قصص من قصر الحمراء"، وفتحت الأعين على أثر الحضارة الإسلامية في الأندلس.
الملك الحزين
لن تنسى غرناطة أبو عبدالله، في حارة "روندا" وسط غرناطة، منحوتة له بجلباب وعمامة، جالس وحزين، منكّس الرأس، وبجواره امرأة منكسة الهامة أيضاً، بلباس إسباني، مكشوفة الرأس، تقدّم له وروداً لتواسيه، وهي تعبّر عن غرناطة، كعربون تكريم وتبجيل له، يشبه اعتذاراً ودعوة للتسامح.
العمل النحتي من إبداع خوان مورينو أغوادو، تمّ تدشينه في اليوم نفسه الذي يُحتفل فيه بالاسترداد، منذ سنة 1997.
غرناطة التي خلّدت استسلامه القسري من قبل، بإطلاق اسم دال على المكان الذي قيل بأنه تنهّد فيه للمرّة الأخيرة، وهو يرى مُلكه ينهار، ليهاجر بعد تعرّضه للمضايقات وبداية محاكم التفتيش، إلى مدينة فاس، حيث قضى بقية حياته قبل أن توافيه المنيّة".
قصر الحمراء
خرج الملك إذن وترك هذا الصرح الذي لم يستطع الملوك الكاثوليك تدميره، أو تحويله كما فعلوا بالآثار الإسلامية الكثيرة، نظراً لروعته.
ويمكن السؤال عما قد تقدّمه غرناطة الحالية للسائح والزائر من كل بقاع العالم، لو لم يكن هذا القصر موجوداً، إلى حد أن جلّ الفنادق بالمدينة تبيع ضمن خدماتها تذاكر ودلائل لزيارته.
لا شيء كثير في حقيقة الأمر، رغم تأسيس كاتدرائية غرناطة الضخمة والبهية التماثيل والأقواس والأعمدة، كما لو أنها بُنيت لتقارع ضخامة الموروث الإسلامي.
كتب لوركا قصائد مستوحاة منه مثل "صخرة العشاق"، كما أن أبياتاً له نُقشت في ممرّ الملك الصغير، وهو أحد ألقاب أبو عبد الله. وجاء فيها: "أتوق إلى أن أصعد جدران غرناطة/ كي أرى القلب الذي اخترقه خنجر الماء".
ذلك هو قدر غرناطة الشعري الممتزج بالدم. الأمر الذي لم تعرفه قصائد الشعراء العرب، الذين نُقشت أشعارهم في جدران القصر إلى جانب تعبير "لا غالب إلا الله"، المُنبث في كل مكان كشعار سامي.
ومنهم الشاعر ابن زمرك مثلاً، الذي تأثّر به لوركا. ونقتطف من قصيدة "الحوض الأسود": "يذوب لجين سال بين جواهر/ غدا مثلها في الحسن أبيض صافيا/ تشابه جار للعيون بجامد/ فلم ندر: أيّ منهما كان جارياً".
الغنائية الشعرية هنا متصالحة مع المكان الجميل، ومع الذات المتنعمة في رحابه، وبالتالي نفهم تعبير الحسرة الذي أبداه لوركا، بعد أن انقضت الدعة وهناءة العيش، وخصوصاً التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين واليهود، الذي سينتهي طيلة قرون.
بورخيس وقصر الحمراء
توجد عند المدخل الرئيسي لقصر الحمراء في غرناطة، قصيدة شهيرة للكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس يقول فيها:
"ممتع هو صوت المياه لمن أثقلت الرمال السوداء كاهله، ممتعة هي المتاهات الرقيقة للمياه بين أشجار الليمون، ممتعة هي موسيقى الزجل، ممتع هو الياسمين، غير مُجدٍ وقوف السيف أمام الرماح الطويلة للكثيرين، غير مجدٍ أن تكون الأفضل، ممتع أن تشعر أو تتوقع، أيها الملك الحزين، أن رقّتك هي وداعات، وأن المفتاح سيُحرم منك، وأن صليب الكافر سيمحو القمر، وأن المساء الذي تنظر إليه.. هو الأخير".
تصالحت غرناطة وجلّ بقاع الأندلس مع الماضي الأندلسي، لكن الاحتفالات الدينية الكثيرة، وتمثيليات المشاهد التي تخلّد الانتصارات على المسلمين بالسلاح، طيلة السنة، ما تزال تقام هنا وهناك.
كما أن كتب الدلائل عن غرناطة وقصر الحمراء موجودة باللغات كلها إلا العربية، التي تعذّر على كاتب المقال أن يجدها في أماكن عرضها. لكن الجميل، في آخر المطاف، هو أن الاعتبار لغرناطة قام به شعراء وكُتّاب المدينة. أما السياسيون، فلهم حسابات أخرى، كحزب "فوكس" اليميني المتطرّف، الذي تأسس حديثاً.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-08-2024 10:15 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |