14-09-2024 12:19 PM
بقلم : غاندي النعانعة
وَلَكِن الفَتى العَرَبِيَّ فيها
غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
المتنبي
أتساءل في هذا الزمن الذي أدار للإنسان العربي ظهره، أتساءل في هذا الزمن الند و الفجائعي ،أتساءل في هذا الزمن الراكد من جهة المنجز، و الغَبون من جهة الإخفاق و التراجع، ما إذا كان زمن الفتى العربي اليوم هو ذاته الزمن المجاور و المتطابق مع ذاك الزمن الذي أنشدنا فيه المتنبي هذا البيت ؟و كيف أصبح فتى المتنبي، و الغربة تستشري به وتعصف، هو ذاته الفتى العربي المعاصر؟ و ما الذي بقي له ليحيى به وهو المُحاصر و المُستلب و المُغرب ثقافيًا و اجتماعيا و اقتصاديا وسياسا؟ و ما الذي بقي لهذا الفتى الذي يجترع ظلما امتد الى أعماقه؟ و ألما يزامن عهداً مسروقا أمعن السارق في سرقته، و أمعن المضيع في تضييعه،زمن أُهدرت فيه مروءته و رأيه أمام الأشهاد، و زُورت فيه إرادته حتى النخاع، و نزل به المقام من قول الشاعر الجاهلي(عنترة العبسي) :
أُسودُ غابٍ وَلَكِن لا نُيوبَ لَهُم
إِلّا الأَسِنَّةُ وَالهِندِيَّةُ القُضُبُ
تَحدو بِهِم أَعوَجِيّاتٌ مُضَمَّرَةٌ
مِثلُ السَراحينِ في أَعناقِها القَبَبُ
إلى مقام شاعري أخر فيه يقول :
أَفَمِن بُكاءِ حَمامَةٍ في أَيكَةٍ
ذَرَفَت دُموعَكَ فَوقَ ظَهرِ المَحمِلِ
و إذ بالفتى العربي الذي فرضت عليه الظروف، الداخلية(انهدام الذات وهشاشتها) و الخارجية (تداعي الموضوع و عداءه ) القطيعة مع استعداداته و إِقراناً دائما مع معوقات إحياءه، فلا تجد له اليوم نصيرا و لا تجد له صوتا مؤازرا،يلزم خلاصه الفردي، و يبحث عن أي مخرج من الهاوية المتسعة و الفراغ الحضاري المليء بنماذج السقوط و التعلق و التطفل و النفاق، خلواً مرحلته من حركة نقدية متماسكة قادرة على إعادة قراءة تاريخه وتقييمه ، أو قادرة على نقد أمراض الرومانسية التي يعاني منها وجوده، و فهم أسباب صعود وهبوط حضارته، و تحليل أنظمة الحياة العاملة في عالمه ،و قيمه الاجتماعية المحكومة بالتدهور، و تأخر التنمية والتقدم.
فمن ذا الذي للفتى العربي؟ و جروح الاستعمار، و جذور الطاعة العمياء تعاظمت في نفسه،و أكلت من هويته و مسحت ثقته بنفسه، و أشاعت عنده الشعور بالدونية، و أغلقت كل نافذة تفتح على نقد العادات والتقاليد،و فتحت النار على صدر حقيقته لإعاقة وشل أي مسار يفترض تغييرا أو يقترح نجاة، فها هو الغياب العربي يسحب معه جهود إنسانه حتى غدا من المستحيل دراسة أو تفعيل دور المواطن العربي حضاريا و إنسانيا،و إن حدث فإنه قد يحدث كنوع من الاستعراض الخاطف، و المطر الوابل الذي لا يسقي أرضا و لا ينبت زرعا.
لكن قضية الفتى العربي تطرح نفسها بقوة تحت نصل التحديات التي تواجه مجتمعاته المنكوبة، و أوطانه المستباحة، فهو الذي تستوطنه المخاوف المصيرية و تكسره الضغوط، فماذا بقي للفتى العربي غير الانشغال بمعارك جانبية تضيع حاضره و لا تخدم مستقبله؟فلا قاسم مشترك بين عديد الساكنة العربية إلا أن إنسانها يعيش في ظروف اقتصادية صعبة تتطلب منه تكريس جل وقته وجهده من أجل سد الرمق، و أساسيات الحياة، ليصبح السعي وراء الوعي رفاهية دونها الرماح ومواضي الأسنة ،وغني عن الذكر أن تلك الضغوط و صروف الاغترار بالعولمة عادت على الفتى العربي بهموم التسابق و الاستنزاف ،و جعلته غير قادر على التفكير في قضايا الحق و الخير و الجمال، تلك التي تتعلق بوجوده ومعنى حياته، و هو المحتاج إلى تطوير وعي نقدي قادر على التفاعل مع التراث بروح التجديد، ومع الحداثة بروح النقد لبناء ما قد يحفاظ على هويته الثقافية و يشجع الإبداع الفكري والفني، و يدعم الإنتاج الزراعي و الاقتصادي و التقني، و يعيد تقييمه من منظور نقدي أصيل بعيدا عن نقد الإتباع و الانبهار و الاضطرار ، مما يعني الانخراط في عملية بناء الوعي الذاتي عند العربي في زمن يواجه فيه التحديات الكبيرة؛ فأرضه ساحة يعيث فيها الصراع، و يغزوها الفقر، و تكللها البطالة، والتخلف التكنولوجي، والتطرف، وكأن العالم العربي بؤرة الانقسام المؤبدة، و سماؤه المعكرة بالاختراق و الاحتراق.
فمتى ينتشي الفتى العربي بعمق هويته وقيمه، وتطلعاته؟ و متى يساهم في بناء العالم، عدالة، و تسامحا، و مساواة؟ و متى يتطور الفكر الذي يقرأ الفكر العربي؟ أي متى يقرأ العربي عربيته بجد؟ و متى يتوقف عن سن مخالب احترابه الداخلي؟
إن ما يطرح تحديات على الهوية الثقافية العربية و حاجتها إلى التغيير هو موروث العزة الشاعرية و جرعات الحرية التي ترافقنا كبصيرة بين العماء لا تتوقف عن التدفق، و في ذات الوقت هو عجزنا عن فهم تلك العزة و مجالات انعاشها، و هي التي تحولت إلى قيود تحد من التفكير النقدي والإبداعي بعد أن توقف الفتى العربي عن التعلم، و اكتفى بأجوبته القديمة، و أجوبة الأخر عن واقعه، إذ يجب كما يقول (هربرت ماركيوز) :"كي يمكن تغيير هذا الكون من الوجود الجنائزي، دون أن يحل محله كون جنائزي أخر، أن ينمي الناس صيغة جديدة في إدراك الوجود، وجودهم بالذات، ووجود الأشياء".
فمتى سيُقدر الفتى العربي تلك القوة العقلية التي تسمح للإنسان بطرح أسئلته الخاصة به؟ و متى يتيقن حدود التجربة المباشرة لتراثه، والتأمل في ذاته والعالم من حوله؟ و متى ينفض غبار تلك المخاوف عنه، و يقدم على الحياة بعقلية المغامر الذي يريد أن يفقه ويتعلم؟
إن المشكلة المستحيلة الحل تلك التي لا توحي بنيتها الخارجية بأنها موجودة،ولذا فهي مشكلة تبرع في لعب لعبة الغموض و التواري، و إن وضوح الاعتداء السافر على كرامة العربي هو ما يجعل المواجهة صعبة و أكثر عنفا و تضييقا، مما يؤدي إلى تحويل العقل إلى قالب جامد يمنع الإنسان من التفكير الحر والتساؤل السابر.
و كما اقتضى الأمر الواقع على الفتى العربي أن يستورد لا البضائع و المنتجات وحسب، بل أن يستورد معها أفكاراً و نشاطات و احتياجات تحل في محل ما لديه منها أو تخلق أخرى جديدة ،فإن الفتى العربي يشعر بأنه مقيد بين موروث قديم لا يستطيع تجاوزه، وبين أفكار لا يجد نفسه فيها بشكل كامل، ليمضي حياته في رهين الازدواجية و الاضطراب في الوعي، فاقدا البوصلة الفكرية والثقافية لأصوات رغبات تختنقها الآهات الاعتباطية في مهدها.
لتزداد عذابات القمع، و تتعدد وجوهه، و يحد الجهل من قدرة الفتى العربي على التفكير بحرية، مما يحصر وعيه في نطاق محدود من الأفكار والمفاهيم يعزز مناخًا من رقابة مشوهة تمنع الأفراد من السعي وراء الحقيقة والمعرفة ليصطبغها شعورٌ بالتشاؤم اتجاه المستقبل.
فالفتى العربي إنسان تضاعفت في حقه الإساءات و تناوبت على قتله أوجاع التقاعس، ليشكله الخوف من المستقبل، والخوف من التغيير، والخوف من الآخر، و يجعله يفقد الأمل في التغيير والإصلاح الذي لن يتم إلا بإشاعة الوعي النقدي الذي لا يرضى بالمسلمات، ولا يقبل بالظواهر كما هي، بل يسعى دومًا لفهم ما وراءها، وتجاوزها نحو أفق أوسع من الحرية والمعرفة يعطيها بعداً أساسيًا في تكوين الذات الإنسانية يتناول وجوهها المختلفة،و تحولاتها المتعدّدة، هدفًا مركزيًا في فكر الإنسان العربي و فلسفة مواجهته التاريخية مع أضداده المتعددة .
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
14-09-2024 12:19 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |