حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,25 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 551

إحسان عبّاس والتّراث اليوناني

إحسان عبّاس والتّراث اليوناني

إحسان عبّاس والتّراث اليوناني

24-09-2024 10:11 AM

تعديل حجم الخط:

فكان الرّاحل إحسان عبّاس (1920- 2003) ولوعًا باللّغات قديمها والحديث ومعنيًّا بآدابها وتراثاتها، وذا رافد من روافد موسوعيّته التي وُسم بها. لعلّ المصدر الأوّل لذلك كلّه دراسته بالكليّة العربيّة بالقدس (1937- 1941)، التي كان مستوى الدّراسة فيها جامعيًّا إذا ما قيس الآن بمستويات الخطط الجامعيّة في الآداب والعلوم الإنسانيّة كافة. فقد كانت خُطتّها تنهض، فضلًا عن العربيّة وآدابها، على الإنجليزيّة وآدابها (أدب القرن الثّامن عشر شعرًا ونثرًا)، واللاتينيّة وآدابها (مختارات من الشّعر والنّثر)، والتّاريخ اليونانيّ و?لرّومانيّ مردوفين بكتب في الحضارة والأدب، وتاريخ الفلسفة (من أفلاطون إلى الغزالي)، والمنطق الأرسطي، ناهيك بتكليف الطلّاب بكتابة بحوث في هذه المواد جميعّا(غربة الرّاعي 128 – 130. دار الشروق – عمّان. ط1: 1996).

اللّافت أنّ الغلبة فيها كلّها كانت لليونانيّة فكرًا وفلسفة وأدبًا ونقدًا، حتّى إنّ الرّجل ظلّ حتى آخر سنيّ عمره يذكر بتقدير جَمٍّ تدريس عبد الرّحمن بشناق كتاب «الشّعر» لأرسطو، وهو الذي حفزه إلى ترجمته (غربة الرّاعي 130). ليس هذا حسب، إنمّا درس كتاب «نيفوماخس» لأرسطو، والفلاسفة اليونانيين قبل سقراط، وتعرّف إلى «انكسماندر» و «اناكزامينس» و"هيراقلايطوس» و"انبذوقليس»، ودرس مسرحية ليوربيدس وأُخرى لأرسطوفان، وغاص في الأساطير اليونانيّة والرّومانيّة (غربة الرّاعي 137)، وغرق في حوارات أفلاطون (غربة الرّاعي 150). أ?م يقل: «وكانت مرحلة الكليّة العربيّة... تعني إعدادًا ثقافيًّا موسعًا وتربويًا نظريًّا وعمليًّا، وكان رأسي حين غادرتها مليئًا بتاريخ اليونان والرّومان والأدب اللّاتيني والأساطير المتّصلة بكلا الأدبين، وفلسفة أرسطاطاليس وأفلاطون وغيرهما....» (غربة الرّاعي 150).

- 2 -

آتت تلك المعرفة المبكّرة بالتّراث اليوناني أُكلَها في أعماله العلميّة المبكّرة والمتأخرة، التي وصلته بتراث فارس، وفي بواكير شعره كذلك.

كان أقدم أعماله وأوّلها ترجمته «كتاب الشّعر» لأرسطاطاليس عن ترجمة «صموئيل هنري بتشر Samuel Henry Butcher الإنجليزية:"Poetics of Arstotle». London 1889. (ديوان أزهار بريّة – المقدّمة، دار الشروق – عمّان 1999).

إذ بدأ التّرجمة، وهو طالبٌ في الكليّة العربيّة، وأتمّها في صفد أيام كان معلّمًا بمدرستها الثانويّة (1941- 1946)، فهو يذكر بعد أن يمّم صوب القاهرة عام 1946 للدّراسة الجامعيّة: «وحملت في حقيبتي إلى القاهرة ترجمتي لكتاب الشّعر لأرسطاطاليس وكتابًا عن أبي حيّان التّوحيدي، ونفسي تحدّثني أنّني سأجد لهما ناشرًا في القاهرة. ولكنّ النّاشرين سخروا مني لمّا أنبأتهم أنّي طالب في السّنة الثّانية الجامعية» (غربة الرّاعي 176). وصدر الكتاب بطبعته الأُولى واليتيمة عن دار الفكر العربي بالقاهرة عام 1950، وقرّرته سهير القلماوي?على الطلّاب في تلك الآونة.

بهذا يكون إحسان عبّاس إمّا الرّائد، في العصر الحديث، في ترجمة الكتاب إلى العربيّة–ولو عن الإنجليزيّة -، وإمّا شريكًا في الرّيادة لكّلٍ من أستاذي المرحوم محمّد خلف الله أحمد (1904- 1983) وع. عاطف سلّام اللّذين ترجما الكتاب، كما ذكر خلف الله، عام 1944 بالاعتماد «على التّراجم الأوروبيّة المحقّقة مستعينيْن بشروح الباحثين الأوروبيين وتعليقاتهم، وبالرّجوع إلى تاريخ الأدب اليوناني وأهم آثاره» وإنْ ليس ثمّة ما يشير إلى طبع ترجمتهما هذه ونشرها.

تلاتيْنك التّرجمتين ثلاثة أعمال أخرى:

أولها: ترجمة عبد الرحمن بدوي عن اليونانية، التي صدرت أول مرّة بالقاهرة عام 1953. بيد أنّه لم يُشر لا إلى ترجمة:"بتشر» وما كتبه عن الكتاب كما فعل خلف الله وزميله، ولا إلى ترجمة إحسان عبّاس.

وثانيها: تحقيق ترجمة متّى بن يونس القديمة مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثير الكتاب في البلاغة العربيّة لأستاذي المرحوم شكري عيّاد (1921- 1999)، وصدورها جميعًا في كتاب واحد عام 1967 عن دار الكاتب العربي بالقاهرة، وإن يكن تاريخ المقدّمة يوليو 1952، أي بعد عامين من صدور ترجمة إحسان عبّاس، وليس ثمّة من إشارة إليها في حِين أُشير إلى بحث خلف الله.

وآخرها، ترجمة إبراهيم حمادة عن الإنجليزيّة (1982) دون أن يذكر أصلها، لكنّه ذكر أنّ رحلة الكتاب في الثّقافة العربيّة الحديثة بدأت في أربعينات القرن العشرين، وأنّ إحسان عبّاس يأتي في مقدمة الباحثين والمهتمين به في الوطن العربي، ولم يذكر خلف الله وزميله.

لم يكتفِ إحسان عبّاس بالترجمة، إنّما صدّرها بمقدمة علميّة لها دلالتها التّاريخيّة عن موضوعين مهمّيْن:

الأوّل: النّقد قبل أرسطو بدءًا بهوميرس وما دار من جدل في أشعاره، ومرورًا ببندار ونقد الشّعر الغنائي، والسّفسطائيين الذين عُنوا باللّغة والخطابة، و «جماعة الكوميديين» الذين كانوا يبثّون آراءهم في الأدب والأدباء من خلال مسرحيّاتهم التي ضاع أكثرها ولا سيما «أرسطو فان» في الضّفادع، وانتهاءً بأفلاطون في «الجمهوريّة» و «القوانين» تحديدًا وموقفه من الشّعراء الذي خرج فيه عن النّظريّة اليونانيّة القديمة، التي كانت ترى في الشّعر منبعًا للتّعليم. وكان أساس خروجه اختياره «العقل» وترجيحه على «العاطفة».

والآخِر: أرسطو وكتاب الشّعر، وهو مبحث مهمّ وازن فيه، باختصار، بين آراء أرسطو وأستاذه أفلاطون من خلال نقض التّلميذ لنظرية «المُثُل» وما انداح فيها من آراء عند «الأستاذ»، وتخلّصه من روح المحافظة عنده وتحاشيه عصبيّة أرسطوفان لأسخيلوس، وإن لم يغض الطّرف عن نقائصه، وتجاوزه إلى سوفوكليس.

ووقف عند جهود أرسطو في الكتاب ولا سيما في المأساة ومهمّتها التي أثارت جدل النّقاد كثيرًا، وفي الملحمة؛ فأمّا الملهاة فربما كانت القسم الضّائع من الكتاب. وأكدّ أن أرسطو خدمته ظروفه أكثر من النّقاد المتقدمين لتنوع الأدب في عصره وبلوغ المأسآة ذروة الجودة، لكنّه أخذ عليه نقيصتين نشأتا عن شخصه قبل كلّ شيء: إحداهما أن عبقريته كانت منظّمة محيطة شاملة فلم يستطع أن يقصر جهده على مؤلف واحد ينقده، والأخرى عوزه للحماسة التي لا مندوحة منها للنّاقد؛ سبب هذا أنّ الرّجل كان عقليًّا. بيد أنّه رأى أنّه ليس مسؤولًا عن نظريّا?ه وآرائه في «فنّ الشّعر» التي تدوولت وشرحت ولُخصّت واتُخذت حقائق لا تقبل الجدل وكانت خطرًا على مستقبل النّقد، وليس مسؤولًا عن المصطلحات التي وضعها فطال عليها الأمد وغيّر من معانيها أو حوّر فيها من مثل «المحاكاة» و «التّطهير».

صفوة رأيه في الكتاب أنّ حسناته » تزيد كثيرًا جدًّا على سيئاته. هو ناقص وبعض أجزائه مضطرب وفيه أشياء مقحمة وأخرى مقتضبة، ولكنّه أوّل كتاب في النّقد، ومنذ أن وضع لم يعد هناك اختلاف حول وجود قواعد نقديّة، ولكنّ النّاس اختلفوا في تطبيق هذه القواعد وتناولها» (كتاب الشّعر 16).

كلّ هذا، وإنْ يكن موجزًا مركّزًا، صدر عن إحسان عبّاس المعلم الفتى في الأربعينات، وهو لم يتخطّ مستواه التّعليمي الرّسمي السّنة الجامعيّة الأولى وَفْق اعتراف جامعة فؤاد الأول آنذاك (غربة الرّاعي 176).

لقد خلّف فيه هذا الجهد المبكّر آثارًا مبكّرة كذلك، ففي حين أنّه، باعترافه هو، لم يكن مثاليًّا بطبيعته، فقد صار كذلك اقتداء بنماذج من الأساتذة الذين علّموه في الكليّة العربيّة، وازدادت مثاليّته حين غرق في حوارات أفلاطون، وعمّق المنهج الشّعري الذي اختاره من إيغاله في الاتجاه المثالي حتّى إنّه قال: «صحيح، إنّ قليل العلم شيء ضار، وأنا حين تشبّعت بالفكر الأفلاطوني ظنّنته نهاية الفلسفة حتّى أخذت أؤمن أنّه كان يجب على واضعي منهج التّعليم في الكليّة (الكليّة العربيّة) أن يعلمونا أوّلًا المذاهب الفلسفيّة الحديثة، ث? يرجعوا بنا عودًا إلى أرسطاطاليس وأفلاطون، لكنّهم حين فعلوا العكس حرمونا من دراسة الفلسفات الحديثة دراسة منهجيّة منظّمة» (غربة الرّاعي 150).

وذكر أنّه وجد في قول هراقلايطوس Heraclitus «إنّ النّار هي العنصر الأوّل في بناء الكون» ما أثار أفكاره، فشغف بالفكرة التي وجد مصداقها في ظواهر كثيرة إلى أن اتّحدت بأسطورة بروميثوس الذي سرق النّار من الآلهة وأعطاها بني البشر، فنسي بها عنصر «الماء» وأهميته دون أنْ يتأثّر بتقديس المجوس للنّار.

وظلّت النّار العنصر المسيطر في شعره (انظر: أزهار بريّة 140) إلى أن تحوّل عنها إلى البحر والماء بعد أن أصبحت «قيساريّة» وجهته التي كان يقضي فيها أشهُر الصّيف، ويجد راحته في البحر وسرّ الماء. لقد كانت النار عنده رمزًا للطموح (غربة الرّاعي 137 – 138).

- 3 -

اختزن إحسان عبّاس تلك الخميرة العلميّة المعرفيّة، وجعل يبعثها ما دعت الحاجة إليها:

:3-1

فحين ألّف كتابه «فنّ الشّعر» (1953)، وهو ثاني عمل يؤلفه بعد «الحسن البصري» (1952)، وعرض لنظريّة «المحاكاة» أسعفته كثيرًا في أن يجاهر برأي مهمّ خطير، هو أنّها «لم تؤثر في قاعدة الشّعر العربي، لا لأن العرب لم يفهموها فحسب، وإنّما لأنّ إمكان انطباقها على الشّعر العربي كان متعذّرًا أيضًا. فهي قد تبسط ظلّها على الشّعر الدرامي والبطولي والديثرامب...» (ص 16).

3-2:

وحين كتب عام (1954) دراسته الرّائدة عن ديوان «أباريق مهشّمَة» لعبد الوهّاب البياتي لم يفته أن يكتشف اللّقاء بينه وبين بروميثيوس وإن كان «فاترًا»، لأنّ البياتي اختار من الأسطورة معنى العذاب دون أن يمجّدَه أو يهتف لغاياته النّبيلة. وأدرك أنّ شعره لا تتضح حقيقته إلّا إذا فهم أنّه ينبع من وحي أسطورة «سيزيف»، وسيزيف البيّاتي، في الأغلب، هو «القروي» أو «عامل الحقول».

3-3:

ولما ألّف «تاريخ النّقد الأدبي عند العرب» (1971) استنطق تلك المعرفة، التي أضاف إليها مالقفه من قراءاته وكشوفاته من مصادر أجدّ، ليوظّفها جميعًا في ما في الكتاب من مباحث عن النّقد العربي والأثر اليوناني، فكان له ذلك وانتهى إلى نتائج علميّة عامّة مهمّة.

فالثقافات القديمة من هنديّة وفارسيّة ويونانيّة في القرن الثّاني والثّالث الهجريين لم تتركْ، باستثناء الجاحظ «آثارًا عميقة في البلاغة والنّقد. حتّى الجاحظ نفسه لم يمسّ الشّعر من الزّاوية الفلسفيّة إلّا مسًّا رفيقًا». بيد أنّ الثّقافة اليونانيّة في القرن الرّابع كانت من أبرز المؤثرات في قدامة بن جعفر. وقد تتبع العلاقة بين قدامة وكتاب الشّعر، وخلص إلى أنّ كتاب قدامة «نقد الشّعر": «كُتب في ضوء ثقافة منطقيّة فلسفيّة، وكأنّه محاولة من قدامة ليضع ما يمكن أن نسميّه «منطق الشّعر». وهذا واضح في بناء الكتاب وتقسيماته?وحدوده (تعريفاته)، ونقل بعض الآراء اليونانيّة فيه، والحديث عن خصائص المعاني وعيوبها». وهو يختلف، بهذا، مع ما ذهب إليه المستشرق «بوينكير» من أنْ ليس ثمّة من صلة بين كتاب قدامة وأرسطو.

وعُني بأبي نصر الفارابي (ت 339 هـ)، فبيّن أنّ اهتمامه بكتابي «الخطابة» و «الشّعر» كان جزءًا من منهجه الفلسفي العام، وأنّ «رسالة في قوانين صناعة الشّعراء» ليست سوى «تلخيص لجزئيّات من كتاب الشّعر مع الإفادة من شرحٍ لثامسطيوس على الكتاب»، وأن الفارابي لم يفد من الكتاب الإفادة المستوفاة لانغلاق بعض أجزاء الكتاب دونه، ولأنّه لم يكن منصرفًا للشّعر والنّقد.

وخلص، بعد أن عرض لآراء الفارابي ناقلًا أو مفسّرًا أو مجتهدًا، إلى أنّه لم يحاول أن يبذل جهودًا تطبيقيّة في دراسة الشّعر، لكنّه جاء بنظرات تصلح أساسًا للفهم العميق، كالتّفرقة الأرسطاطاليّة بين الخطابة والشّعر، والمفاضلة بين المحاكاة والوزن في الشّعر.

فأمّا في القرن الخامس، فتوصل إلى أنّه «لا نجد لكتاب الشّعر، أو الأثر اليوناني عامة، أيّ صدًى بين نقاد القرن الخامس (إذا استثنينا إشارة طفيفة إلى ابن حزم الأندلسي). سبب هذا طبيعة النّقاد وطبيعة الشّعر، فكلتاهما أصبحت تنأى عن الأثر الفلسفي، وأصبح النّقاد يجدون الجواب عن المشكلات النّقديّة جاهزًا لدى الآمدي والجرجاني... ولذلك اقتصرت بكتاب الشّعر على إعادة وضعه في موضعه بين كتب المعلّم الأوّل وفاء باستكمال المنهج الفلسفي. وكان من الطّبيعي، لهذا، أن لا يُحدث تلخيص ابن سينا لكتاب الشّعر أيّ أثر في النّقد الأدبي ?ينئذٍ، ومن الكثير أن نحمّله جلّ المسؤوليّة في هذا التّقصير مهما تكن حماستنا للأثر المفترض الذي كان متوقّعًا لهذا الكتاب، ومهما يكن رجاؤنا كبيرًا في مقدرة ابن سينا» علمًا أنّ كتاب الشّعر كما أورده يمثّل، إلى اليوم، أوضح صورة من صوره، فهو يرتفع عن غموض ترجمة متّى بن يونس وركاكتها ورداءتها؟ وهو أوسع نطاقًا من اللّمحات الخاطفة التي أتى بها الفارابي، وأسلم من محاولة ابن رشد من بعد، لأنّ ابن سينا لم يتورط كثيرًا في تطبيقات خاطئة.

ولمّا وصل إلى ابن رشد (ت 595)، في القرن السّادس، بدا له أن الأندلس لم تعرف كتاب الشّعر قبله سوى التماعاتٍ يسيرة لعلّها جاءت بالوساطة. وحين تناوله جرى فيه على غير ما عند الفارابي وابن سينا اللّذين تهيباه، على تفاوت بينهما، فرأى أنّه لا يمكن أن يكون ذا جدوى للقارئ العربي إذا لم يطبّق ما يمكن تطبيقه من آراء أرسطو على الشّعر العربي على معرفته بأنّ كثيرًا من قوانينه خاص بأشعار اليونان. وقد جرّته هذه الغاية إلى أن ينحرف عمدًا بمصطلحات الكتاب ومدلولاته بحيث جعل المديح والهجاء بديلًا للمأسآة والملهاة (التراجيديّا ?الكوميديا). وكان أهم ما كشفه عند ابن رشد أنّه لم يفهم «المحاكاة» وظنّها «وجهي التّشبيه» في الصورة البيانيّة.

3-4:

لست أرتاب في أنّ تلك المعرفة المبكرة وما دعمّها به وأضاف إليها مما أسعفته المصادر هي التي قوّت من عزمه على أن يرتاد موضوعًا مهمًّا هو الكشف عن مدى صلة موروثنا العربي بالثّقافة اليونانيّة وما دلف إليه منها في كتابه «ملامح يونانيّة في الأدب العربي» (1978)، الذي يعدّ أوعى وأجمع مؤلف في هذه البابة المثاقفيّة الطّوعيّة، وأشمل ما كتب فيها، إلى الآن، في الأدب العربي المقارن. وهو في مجمله يجيب عن سؤالين كبيرين تنداح فيهما أسئلة قصيرة: ماذا ترجم العرب من أدب اليونان؟ وما موقفهم من الشّعر اليوناني ومدى معرفتهم به؟ و?ا الطّرق التي استغلّ فيها الأدب العربي الثّقافة الإغريقيّة علمًا وأدبًا وفلسفة؟

لقد كانت التّرجمة «الوسيط» الأكبر والسّبيل الأوّل في انتقال علوم اليونان وثقافتهم إلى العرب. ويعود اتصالهم بالثّقافة اليونانيّة، بنحو ما، إلى العصر الأموي، وكان من أظهر آثاره ملامح المحتوى اليونانيّ في رسائل عبد الحميد الكاتب. وهذه هي مرحلة الاتصال الأولى، مرحلة سالم الكاتب مولى هشام بن عبد الملك، وعبد الله بن المقفّع التي كانت الغلبة فيها لأنصار الثّقافة الفارسيّة.

فأمّا المرحلة الأخرى، فتلك التي تُرجمت فيها الآثار اليونانيّة في الفكر والعلم والسّياسة والأدب، وإنْ ظلّت كفّة الفرس في «السّياسة» خاصة هي الأرجح. في هذه المرحلة نشط عدد من المترجمين أمثال حُنين بن إسحق لنقل نصوص الحكمة في تراث يونان إزاء ما كان يفعله أنصار الثّقافة الفارسيّة كالحسن بن سهل بنقل بعض الآثار الفارسيّة في الموضوع ذاته.

وبان لإحسان عبّاس أنّ الأثر اليوناني في الأدب العربي كان أظهر ما يكون في المحاور الثّلاثة الآتية:

1- الشّعر اليوناني.

2- تحوير الحكم النثريّة اليونانيّة نظمًا.

3- الإفادة من الفكر السّياسي اليوناني.

فأمّا المحور الأول (العرب والشّعر اليوناني)، فقد كشف الغطاء عنه من خلال سؤالين في سؤال واحد: هل عرف العرب الشّعر اليوناني، وهل أفادوا منه إذا ما عرفوه؟

لقد كانت الإجابة عنهما عسيرة ونسبيّة وجدليّة في آن لأنّه كان يعترضهما، وما زال، اعتقاد كبير، قد يكون خاطئاً، هو أنّ العرب لم يترجموا شعرًا يونانيًّا، وأنّ أدبهم، لهذا، لم يتأثر بالشّعر اليوناني. ربما يكون مرجع هذا الاعتقاد أنّ العرب كانوا يرون أنفسهم متفوقين في الشّعر والبلاغة، بدليل قول الجاحظ «فضيلة الشّعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب»، وما قرّره أيضًا، من أنّ الشّعر «لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النّقل، ومتى حُوِّل تقطّع نظمه وبطُل وزنه، وذهب حُسْنه وسقط موضع التّعجب منه لا كالكلام الم?ثور». وقد ردّد هذا الرأي، من بعده، أبو سليمان المنطقي من القرن الرّابع الهجري.

إنّ من شأن هذا المبدأ، كما يرى إحسان عبّاس «أنْ يُنفِّر النّاس من ترجمة الشّعر إلى العربيّة، أو يجعل أيّة محاولة في هذا السّبيل قليلة الجدوى». وربما لسبب ديني يقول به عدد من الدّارسين العرب المعاصرين ظنًّا منهم لما بين الشّعر اليوناني والعقيدة الإسلاميّة من تعارض. فإذا ما كان الأمر كذلك، لماذا ترجم العرب الفلسفة اليونانيّة إذًا؟ ألم تكن تتعارض مع الدّين؟ ه‍كذا تساءل طه حسين عام 1956 ورأى أنّ العرب لم يفهموا الأدب اليوناني، ولو فهموه لترجموه كما ترجموا الفلسفة (إصلاح ونقد 188 – 196. دار العلم للملايين – بير?ت. ط8: 1980).

قريب من مذهب طه حسين ما يقوله إحسان عبّاس، وهو ما فصّله في «تاريخ النّقد الأدبي": «وممّا يدلّ بقوة على أنّ العرب لم يترجموا الآثار اليونانيّة الكبرى في الأدب ما تمّ لديهم حين ترجموا (كتاب الشّعر) الذي يستند على شواهد أدبيّة. فقد وضح بقوة أنّ التّراجمة والمعلقين على هذا الكتاب من أمثال أبي بشر متّى بن يونس والفارابي وابن سينا وابن رشد وحازم القرطاجني، قد عجزوا عن فهم ما فيه من مصطلح وعن الإفادة الصّحيحة من قواعده وأحكامه، لأنّه لم يكن لديهم أمثلة مترجمة، وبالتّالي أمثلة أصليّة، تدلّهم على مفهوم الملحمة أو ا?مأساة».

على الرّغم من هذا، فثمّة أخبار وروايات عن معرفةٍ للعرب بالشّعر اليوناني. يقال إنّ «حنين بن إسحق» (من القرن الثّالث الهجري) سُمع مرةً ينشد شعرًا بالروميّة لهوميروس كبير شعراء اليونان، ويروى أنّ الفارابي وقف على أشعار كثير من الأمم، اليونان فيها، وقارن بين الشّعرين العربي واليوناني في الوزن، وقد يكون أولّ من نقل إلى العرب أنّ اليونانين قد خصصوا لكل موضوع وزنًا خاصًّا، فللمدح وزن وللهجاء وزن وهكذا دواليك، بعد أنّ ذكر أن للشعر عندهم ثلاثة عشر نوعًا سمّاها بأسمائها وعرّف بها. وزاد اهتمام العرب في المئة السّنة ب?د وفاة الفارابي (ت 339هـ) بأدب الحكمة اليوناني سواء في النّظر في ما كان قد ترجم منه سابقًا أم بترجمة أشياء جديدة، وكانوا، مع هذا كلّه، حِراصًا على أن يفصلوا بين أدب الحكمة والشّعر. وكان الشّعر المترجم شديد الشّبه بالأقوال الحكميّة، وربما ترجم لأنّه يعدّ وجهًا من وجوه الحكمة اليونانيّة.

وانفرد أبو الرّيحان البيروني من بين طلاب الثّقافة اليونانيّة العرب بالاهتمام بالأسطورة اليونانيّة في كتابيه المشهورين «في تحقيق ما للهند من مقولة» و «الآثار الباقية عن القرون الخالية».

وعرف العرب عددًا من شعراء اليونان، من مثل «هسيود» و «بندار» و «سوفوكليس» و"يوربيدس» و «هوميروس» الذي لقبوه «امرأ القيس» اليوناني. على الرّغم من هذا لم تترجم الإلياذة والأوديسة إلى العربيّة آنذاك، وإنْ ترجمتا (أو ترجمت أشياء منهما) إلى السّريانيّة. وتصنّف الآثار المرفوعة إلى هوميروس في التّراث العربي ثلاثة أصناف:

1- بعض الأقوال الحِكميّة.

2- أشعار ثابتة النّسبة إليه أو مما يحتمل ثبوته، جاء أكثرها شواهد في كتابي أرسطو المعروفين: «الخطابة» و «الشّعر».

3- أشعار منسوبة إليه وإلى غيره ورد كثير منها في كتاب «صِوان الحكمة» الذي يُنسب إلى أبي سليمان المنطقي والذي لم يصل إلينا بعد، بل وصل منه » مختصر صوان الحكمة» و «منتخب صوان الحكمة».

لم يفت إحسان عبّاس أن ينبّه على الخلط بين هوميروس و«إيسوب» في عدد من المرويّات والأخبار في المصادر العربيّة، وقد قاده هذا إلى أن يكشف عن أثر إيسوب في الشّخصيات والأمثال العربيّة من خلال عدد من الأمثلة دون أن تغيب عن باله قضيّة اللّقاء بين آثار الشّرق والغرب. فقد أثبتت الكشوف الحديثة أن بعض العناصر عند إيسوب ترتدّ إلى أصول مشرقيّة موغلة في القِدَم ولا سيما الأصول السومريّة.

ولم يفته، كذلك، أن يُلْمع إلى ترجمة الشّعر الخمري اليوناني إلى العربيّة في الأندلس والقيروان مستبعدًا «أن تكون الأندلس قد تلقّت تأثيرًا مباشرًا في الأدب اليوناني، وإنّما اعتمدت على ما تُرجم من آثار يونانيّة في المشرق»، ومرجّحًا إفادتهم مما ترجم آنذاك إلى «اللاتينيّة» التي كان النّاس يحسنونها أو يحسنون صورة منها. فأمّا القيروان، وإنْ كانت الثّقافة فيها عربيّة خالصة، فلم تخلُ من مثقّفين باليونانيّة كعلي ابن أبي الرّجال الذي ألّف له ابن رشيق كتاب «العمدة»، وابن أبي الرّقيق صاحب «قطب السّرور» الذي يحوي أشعارًا?يونانيّة في موضوعات شتّى، الخمرة منها، مترجمة إلى العربيّة.

أمّا المحور الثّاني، تحوير الحكم والأمثال اليونانيّة نظمًا، فموضوع جدليّ لا يمكن أن يطمئن الدّارس إلى رأي قاطع فيه، لأنّ أكثر الحكم التي تعنينا هنا من نتاجات العصر العباسيّ الذي كان عصر امتزاج ثقافيّ كبير نقلت فيه، في ما نقل، الحكم عن أممٍّ شتّى. فقد تنسب الحكمة الواحدة إلى الفرس أو اليونان أو الهنود؛ وربما توجد ذات أصل عريق في البيئة العربيّة القديمة.

من أمثلة تأثر الشّعراء العرب بالتّراث الأدبي المنسوب إلى اليونان قول الشّاعر العباسي صالح بن عبد القدوس، وهو من شعراء الحكمة الكبار:

وينادونـه وقـد صُمّ عنـهم

ثـمّ قالـوا وللنّسـاء نحيـب:

ما الذي عاق أن تردّ جوابًـا

أيّها المُقْـوِل الألـدّ الخطيب؟!

إن تكنْ لا تطيق رَجْعَ جوابٍ

فبما قـد ترى وأنت خطـيب؟

ذو عظاتٍ وما وَعَظْتَ بشيء

مثل وعظ السّكوت إذ لا تجيب

وقد ذهب ابن طباطبا العلوي إلى أنّ الشّاعر أخذ الأبيات من رثاء أرسطو للإسكندر حين قال فيه «طالما كان هذا الشّخص واعظًا بليغًا، وما وعظ بكلامه موعظة قطّ أبلغَ من وعظه بسكوته». وذكر أنّ أبا العتاهية اختصر قول أرسطو هذا في بيت واحد (عيار الشّعر 80. تحقيق طه الحاجري وزغلول سلّام. المكتبة التّجارية – القاهرة 1956):

وكانت في حياتك لي عِظاتٌ

فأنت اليومَ أوعظُ منك حيّا

وبيت أبي العتاهية يشبه، كذلك، كلمةً لحكيم يوناني قالها عند تابوت الإسكندر: «قد كنت أمسِ أنطقَ، وأنت اليوم أوعظُ"

ومن الأمثلة، كذلك، قول الشّاعر:

اصبرْ على مضض الحسو

دِ فإنّ صبرك قاتلهْ

كالنّار تأكلُ بعْضَها

إنْ لم تجدْ ما تأكلهْ

إذ قيل إنّه مأخوذ من هاتين الحكمتين اليونانيّتين:

- «الحَسَدة مناشير أنفسهم».

- «الحسود منشار أهله، فإنّه لِفَرْط أسفه وغمّه بما نال غيرُه من الخير يكون كأنّه يشقّق نفسه».

ومنها، أيضًا، قول المتنبي في سيف الدولة:

أعيذها نظراتٍ منك صادقةً

أنْ تحسب الشّحْمَ فيمن شحمه ورمُ!

فقد قيل إنّ المتنبي نظر فيه إلى مقالة أفلاطون » الفقير إذا تشبّه بالغني كان كمن به ورم، ويوهم النّاس أنّه سمين وهو يستر ما به من الورم».

وأمّا المحور الأخير، الإفادة من الفكر السّياسي اليوناني في الأدب، فيبدو في الرّسائل والشّعر والمقامات إمّا نقلًا أو مضاهاة؛ وهذا الموضوع لا يمكن القطع به كذلك، ومن أمثلته عبد الحميد الكاتب ورسائله، فقد كان مطّلِعًا على ما يترجم وينقل في زمانه من الثّقافات الأجنبيّة ولا سيما الفارسيّة واليونانيّة، ويكاد يكون تأثره بالثّقافة الفارسيّة آكد للصّلات الوثيقة التي انعقدت بينه وبين صديقه عبد الله بن المقفّع رسول الثّقافة الفارسيّة إلى العرب.

أمّا الثّقافة اليونانيّة، فليس ببعيدٍ أن يكون نحا فيها نحو خَتَنِه (ختن الرّجل: المتزوج بابنته أو أخته) سالم الذي كان كاتبًا لبني أُميّة حتى عهد هشام بن عبد الملك.

من أبرز رسائل عبد الحميد، التي قد يكون أفاد فيها من الرّسائل المنسوبة إلى أرسطو، رسالته إلى عبد الله بن مروان ولي العهد، لمّا وجهّه أبوه لمحاربة الضّحَاك الشّيباني الخارجي، وهي في السّياسة الحربيّة، وذا مكمن شبهها برسائل أرسطو. بيد أنّ هذا لا يعني أنّه أخذ معلوماته السّياسية كلّها عن تلك الرّسائل، إنما استمدّ موضوعاتها من ثقافته وتجربته النّاتجة عن ملازمته مروان مذ ولي أرمينيّة إلى أن قتل معه في معركة «الزّاب» عام 132هـ، وكان جهد مروان مشهودًا في إعداد الجيوش وتنظيمها، وفي سياسة الحروب.

رسالة عبد الحميد التي نحن بصددها، كما حللّها إحسان عبّاس، قسمان: الأوّل عن السّلوك الأخلاقي للقائد الحربي، والآخِر عن القواعد الحربيّة التي يجب الأخذ بها في المراحل كافة. ولقد أضحت هذه الأمور، لدقّتها، أساسًا لما كتب في فنون الحرب بعد ذلك.

زاوج عبد الحميد فيها بين ما عرفه من الثّقافتين الفارسيّة واليونانيّة، فتأثّر في القسم الأوّل بالثّقافة الفارسيّة، واعتمد الثّقافة اليونانيّة في جوانب من القسم الآخر. فقول أرسطو «واجعل الحرب آخر أمرك» انعكس في قول عبد الحميد: «اعلم أن الظّفر ظفران: أحدهما، وهو أعَمّ منفعة وأبلغ في حسن الذّكر قالةً وأحْوطه سلامة...، ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة...»، وانعكس في قوله «اعلم أنّ أحسن مكيدتك أثرًا في العامّة... ما نلت الظّفر فيه بحسن الرّويّة وحزم التّدبير ولطف الحيلة».

وانعكس قول أرسطو الآتي: «كاتب أشدّ قُوّادِ عدوّك بأسًا وأوفرهم نصيحة لعدوّك، لتوقعَ وهْمًا في قلب عدوّك على صاحبه النّاصح له، واعمل على أن يقع كتابك بيد حرّاس عدوّك». انعكس في قول عبد الحميد: «وكاتب رؤساءهم وقادتهم، وعِدْهم المنالاتِ ومنِّهمْ المنالات ومَنِّهمْ الولايات وسوّغهم التّراث، وضع عنهم الإحَن، واقطعْ أعناقهم بالمطامع، واستدعهم بالمثاوب، واملأ قلوبهم بالتّرهيب إن أمكنتك منهم الدّوائر وأصارتهم إليك الرّواجع، وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة. ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبًا كأنّها جوابات كتبٍ إليهم، وتكتب على ألسنتهم?كتبًا تدفعها إليهم وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده منزلة التُّهمة ومحلّ الظّنة».

:3-5

ولمّا ألف كتابه «عبد الحميد بن يحيى الكاتب وما تبقى من رسائله ورسائل سالم أبي العلاء» (دار الشّروق – عمّان 1987) ظلّ موقفه ثابتًا حيال ملامح المحتوى اليونانيّ في رسائل عبد الحميد، ولا سيّما رسالته إلى عبد الله بن مروان، بتأثير مرحلة الاتّصال الأولى بالرسائل المنسوبة إلى أرسطو، وعزّزه بأنّ الرّجل «قد أحكم في أسلوب عربي ما تسرّب إلى العربيّة من ثقافة يونانيّة وفارسيّة حينئذٍ، حتّى إنّه لو حاول أن ينسج على منوال الرّسائل المترجمة من هاتين الثّقافتين لصعب التّمييز بين الأصل والمنحول».








طباعة
  • المشاهدات: 551
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
24-09-2024 10:11 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم