25-09-2024 08:19 AM
بقلم : د. صلاح جرّار
أكاد أجزم بأنّ عدداً غير قليل ممّن يتابعون أخبار العدوان الصهيوني الإجرامي على قطاع غزّة يتحاشون سماع عبارة «منذ فجر اليوم» أو يحاولون غضّ أبصارهم عن قراءتها أو يصمّون آذانهم عن سماعها وهي تأتي في أعقاب ذكر عدد الشهداء في غزّة الذين ارتقوا نتيجة الغارات على أماكن مختلفة في القطاع في كلّ يوم، ولا سيّما إذا كان العدد الذي تورده الأخبار كبيراً، ويفضّلون عليها عبارة «خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية»، ويكونون سعداء إذا كانت العبارة «خلال ثمانٍ وأربعين ساعة» أو «خلال اثنتين وسبعين ساعة»، وتزداد سعادتهم كلّما ازداد عدد الساعات التي استشهد خلالها العدد من الناس الوارد في الأخبار. وذلك لأنّ زيادة عدد الساعات يقلّل من متوسّط عدد الشهداء في كلّ ساعة أو في كلّ يوم.
وأيّاً ما كان متوسّط عدد الشهداء والمصابين في كلّ ساعة أو في كلّ يوم فإنّه يبقى مؤلماً لمن لديه أيّ حسٍّ وطنيّ أو قوميّ أو إنسانيّ، ويزيد من هذا الألم أنّه لم يمرّ يومٌ واحد حتى الآن منذ بداية هذا العدوان الهمجي على غزّة دون أن يرتكب الجيش الصهيوني عدداً من المجازر ضدّ السكّان المدنيين في غزّة سواءً في مدارس النزوح أو مخيمات النزوح أو المربّعات السكنية، ولذلك نتمنى أن تخلو نشرات الأخبار في الفضائيات العربية وغير العربية ولو ليوم واحد من خبرٍ عن عددٍ كبير من الشهداء وعدد أكبر من المصابين من أهل غزّة سواءً منذ فجر ذلك اليوم أو في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة.
إنّ جانباً أساسيّاً من المأساة التي نعانيها نتيجة هذه العدوان الإجرامي اليومي المتواصل والمتصاعد على غزة، ثم على الضفة الغربية، هو أنّ عناية وسائل الإعلام وعنايتنا وعناية الأمّة كلّها أصبحت تتّجه نحو الأعداد ومتابعة الإحصائيات فقط، وهم غير مدركين لمعنى فقد روح واحدة وما يخلّفه ذلك من فجائع وآلامٍ وخساراتٍ، كما أنّهم غير مدركين لقيمة أيّ قطرة دمٍ تسفك في غزّة، بل إنّهم يفرحون فقط بتناقص عدد الشهداء والمصابين في يوم من الأيام عن متوسط الأعداد اليومية.
كما أنّ المأساة التي أصبحنا نعيشها نتيجة هذا الانشغال بالأعداد فقط، أنّ مشاهد التدمير الكامل للمنازل والمربّعات السكنية، ومشاهد صرخات الأمّهات والزوجات والبنات على شهدائهم، ومشاهد نقل الأطفال الجرحى وأنّاتهم، ومشاهد الأطراف المقطّعة والأشلاء الممزّقة، والأجساد النازفة، ومشاهد انتشال الجثث من تحت الركام، ومشاهد إقامة صلاة الجنازة على الشهداء، أصبحت كلّها مشاهد مألوفة لأعيننا، بل إنّ بعضنا يمرّ عليها مروراً عابراً دون أن يأبه بتفاصيلها ومعانيها وأوجاع أصحابها، إنّها مشاهد لم تعد تحرّك في كثير من أبناء الأمّة أيّة مشاعر من أيّ نوع وكأنّه مشهد متكرر في تمثيلية أو مسلسل.
إنّ تبلّد المشاعر هذا الذي تمرّ به الأمّة على هذا النحو له نتائج وآثار خطيرة على المدى القريب والمدى البعيد، لأنّه يورثنا عدم المبالاة بأيّ مما نملك أو ننتمي له، ومتى فقدنا الإحساس بأهمية أغلى ما لدينا، وهو دماء أبنائنا وإخواننا وأرواحهم، فإننا سنفقد الإحساس بأهميّة أوطاننا وأمّتنا ونفقد انتماءنا لمجتمعاتنا وعشائرنا وأهلنا وقيمنا، ويسهل علينا عند ذلك التفريط في كلّ شيء مهما كان رخيصاً أو غالياً، وهذا كلّه مؤذن بالسقوط، والعياذ بالله.
ومن مخاطر هذا الاكتفاء العربي -والإسلامي والعالمي- بمراقبة أعداد الشهداء والمصابين في غزّة دون الإقدام أو التفكير بالإقدام على عمل شيء لوقف هذا النزف المتواصل للأرواح، ودون أن يحرّك هذا القتل اليومي فينا مشاعرنا المتبلّدة، أن يزداد سُعار العدوّ الصهيوني في القتل ويتمادى كما شاء له أن يتمادى، بل إنّه أخذ يتفنن في القتل وأساليبه والتمثيل بجثث الشهداء وركلها بالأحذية وإلقائها أمام عجلات الجرّافات والآليات العسكرية للسير عليها وطحنها وتقطيعها.
كما أنّ تبلّد المشاعر العربيّة أمام هذه الأرقام والمشاهد يزيد من غطرسة العدو وتعنّته في أيّ مفاوضات قائمة أو قادمة لتبادل الأسرى، فهو يرى في تبلّد مشاعرنا عجزاً عن الرد واستعداداً منّا للخضوع لضغوطه العسكرية والسياسيّة.
إنّ حركة المشاعر العربيّة صعوداً أو هبوطاً تتناسب تناسباً عكسيّاً مع تطاول مدّة العدوان على غزّة، فكلّما طال زمن هذا العدوان تراجعت مشاعر الغضب والتعاطف العربي حتّى وصلت إلى ما وصلت إليه من هذا التبلّد، مما يشجّع العدوّ الصهيوني على الاستمرار في عدوانه ويشجّعه على ذلك أيضاً تراجع الفعل العربيّة سياسيّاً وإعلاميّاً وجماهيريّاً إزاء هذا الاستمرار.
ومع أنّ متابعة الأرقام اليومية للشهداء والمصابين في غزّة تعدّ محرّكاً للعرب بشكل أو بآخر، إلاّ أنّ ضعف هذه الحركة وتراجعها تقتضي أن تتخذ متابعة هذه الأرقام صورة أخرى بحيث يجب إعطاء قيمة كبيرة جداً لكل حالة استشهاد ولكلّ إصابة ولكلّ قطرة دم تراق، ولا تكتفي بالوقوف عند الأرقام فقط.
إنّ كلّ شهيد وكلّ مصاب ضمن هذه الأرقام هو حياةٌ كاملة الأبعاد، له جسدٌ وروحٌ وأحلام وذكريات وممتلكات وأسرة وأصدقاء وسيرة حياة وقصة استشهاد وله ثأر من الصهاينة يجب عدم نسيانه أو التفريط به.
ولذلك لا يجوز لأحد منّا أن يقلّل من أهميّة هذه التفاصيل أو أن يسمح لمشاعره أن تتجاهلها أو يسمح لنفسه أن يمحوها من ذاكرته.
Salahjarrar@hotmail.com
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
25-09-2024 08:19 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |