حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأحد ,27 أكتوبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 2168

((فردٌ في العائلة)) لقصي اللبدي .. التراث المعرفي والشعري في القصيدة العربية

((فردٌ في العائلة)) لقصي اللبدي .. التراث المعرفي والشعري في القصيدة العربية

((فردٌ في العائلة)) لقصي اللبدي ..  التراث المعرفي والشعري في القصيدة العربية

26-10-2024 08:21 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - تعرفتُ على قصي اللبدي من خلال شبكة الإنترنت، قرأتُ له شيئًا، وترك في نفسي أثرًا عميقًا، جعلني أتقصَّى آثاره وأعماله، ولأنه مُقِلٌّ في النشر، وغير نشط تقريبًا على منصات التواصل الاجتماعي، فكان من الضروري أن أبحث بشكل مكثف عبر الإنترنت عن أعماله التي نُشرت في المجلات أو المواقع وغيرها من المنصات المهتمة بالأدب، وكانت مفاجأة حين رأيتُ له قصائد وقصصًا ونصوصًا أكّدت لي أنني عثرت على شاعر من طراز فريد.
عادةً أكون حريصًا ألَّا أتواصل بشكل خاص مع هذا النوع من الكُتَّاب، مخافةَ أنْ أجرح عزلتهم، أو أنْ لا أُلاقى بترحيب، لكن ما حدث كان على النقيض تمامًا، فحين تواصلتُ مع قصي، وجدته شخصًا في غاية الدماثة والأدب وإنكار الذات، ويرى أن أي كلام تقوله في شأنه مديحٌ غير مستحق، وهذه صفة الشاعر الحقيقي، أنه دائمًا على قلقٍ، كأن الريح تحته.
امتد تواصلنا والتقينا، فتعرفت على إنسان ألطف وأجمل وأنبل، وكانت لقاءاتنا تحيطها المحبة والترحاب الكبير من جانبه، وكانت نقاشاتنا حول القرآن، والشعر، والأدب بصفة عامة، تكشف لي مرة تلو أخرى عن مثقفٍ نوعيٍّ وإنسان يتقصى آثار الجمال والمعرفة بحرفة مُحقِّق حاذق، وهو ما انعكس على قصيدته، فخرجت قصيدةً مثقفةً تبحث من خلال جماليّاتها عن أجوبة لأسئلة الشعر.

بلاغة الخفة
قديمًا قالت العربُ عن أفضل الكلام إنه ما قلّ ودلّ، وقال ڤولتير ممتدحًا الشيءَ نفسه قائلًا: الشعرُ فنُّ الحذف! من هنا يمكن الدخول إلى تجربة، أقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنها تجربةٌ حرة، قصيدتها ترتدي قميصًا مُشَجَّرًا وتجلس على كرسي قبالة البحر، قصيدة تمشي في الشوارع وهي تُصفِّر، لا تدَّعي التحليق، ولا الانكفاء على الذات، وإنما تترك لهيئتها حرية التشكُّل، بلا زوائد ولا فضلات. يقول اللبدي مؤكدًا على هذا الكلام في قصيدة » نهار» :
لا شيءَ في هذا النهار.
فتحتَ نافذةً،
وقلتَ لما تبقَّى منكَ: كُنْ حُرًّا.
سأخلُدُ ساعةً للنوم،
قد أختارُ موسيقى،
أُهاتِفُ صاحبًا ليْ،
أختفي.. وأُطِلُّ.
قد أنسَلُّ من جسدي، مُباغتةً،
كما هيَ عادتي.
أو أرتمي في البانيو، وأعُدُّ أجنحةَ اليمامِ
على الرخامِ.
وقد أفـكِّـرُ فيكِ
قد أنساكِ ثانيةً،
أنا شخصٌ مِزاجيٌّ، تُحرِّكُني مُخيِّلتي كأني دُميةٌ.
ولديَّ ما يكفي من الكلماتِ
كي أُصغي إلى نفسي
وأصرُخُ غاضبًا منها!
قلتُ مرةً، إنني–لو قدَّرَ اللهُ واستمررتُ في كتابة الشعر- أريد أن أكتبه كأني أتكلَّم. هكذا ببساطة. وهي المنزلة العالية من ممارسة فن الشعر، إذ إن هذا الفن، بما تعالَقَ معه من جماليّات عبر التاريخ، صار فنًّا مُعقدًا، ومُشتبكًا مع خبايا شديدة التعقيد والخصوصية في النفس البشرية، أيضًا صار مُتَعَالقًا مع التاريخ وتحوّلاته، والجغرافيا وتغيّراتها. وهنا السؤال: هل يمكن للقصيدة أن تمسك خيطًا من كل طَرَف لهذه العلاقات، وتصنع ثوبًا جميلًا ومتناسقًا؟
القصيدة الناجحة في تقديري، هي التي تتصرّف بحريّة، متناغمةً مع أصواتها الداخلية، وأفكارها، ومخاوفها، وتطلّعاتها، دون أن تقصد إلى ذلك سبيلًا مصنوعًا، وإنما تأخذك من يدك، وتترك لك حريّة التجوّل داخلها. وهي التي أستطيع تشبيهها بالنحلة، لأنها تأخذ من كل زهرةٍ رحيقًا، ثم تهضمه جيدًا، ثم تُخرجه عسلًا خالصًا. وقد عاينتُ ذلك في نصوص قصي اللبدي. يقول في قصيدة » تلاشٍ":
عندما لا تكونينَ موجودةً،
تنزوي الكلماتُ.
زهورُكِ تخضرُّ، مُرغمةً،
وطيورُكِ تأوي إلى الصمتِ،
حتى الأواني الزجاج، تشِفُّ بلا رغبةٍ.
جسدي، هُوَ أيضًا، أَجَلْ جسدي،
يتضاءَلُ شيئًا، فشيئًا
كأنَّ السجائرَ تمتصُّني!
يكتب اللبدي قصيدةً مُتخففةً من الزوائد قدر المستطاع، مكتنزةً بالمعنى، ومقتصدةً في المبنى، وقاصدةً إلى وجهة، وهذه الثلاثة–في تقديري- هي الشروط الأهم في تشكيل القصيدة الحقَّة، القصيدة التي تهتم بالمعنى والمبني والقصد، وتؤدي ذلك كله بخفة الفراشة.
وعلى ذكر خفة الفراشة، قرأتُ للشاعر الأمريكي الكبير بيلي كولينز مقطعًا يقول:
الهايكو الذي يتكلمُ عن جرسِ معبدٍ
وزنُهُ طنٌّ
وتنامُ على سطحِهِ فراشةُ ليل.
وكلما أقرؤهُ
أحسُّ بوطأةِ ثِقَلِ الفراشةِ
على الجَرَسِ الحديديّ!
هذا المقطع عبَّر ببلاغة مذهلة، عن الشعر الذي يلعب مع المتلقي لعبة مبادلة الأدوار، وهذا تمامًا ما فعله قصي اللبدي في كتابته، إذ إنه في كل الأشكال التي قرأتُ له فيها، يأخذ يد القارئ وكأنه ذاهب به إلى نزهة أو إلى رحلة استكشافية، ثم يترك الكرة في ملعبه، ويجعله مُشاركًا في الحدث، لا مأخوذًا من يده! ويفعل ذلك كله بخفة فراشة!

الحداثة ترتدي العمامة
يكتب اللبدي قصيدةً عربية، متصلةً جماليًا مع تراثها المعرفي والشعري، ومطلعة على التراث الإنساني، وتحاول تأثيث نسق جمالي مُغاير، يكتب قصيدةً مُضطلعةً بالموضوع، مولعة بالفكرة، في وقتٍ صار فيه أكثرُ الشعر غامضًا وعبارةً عن تهاويم لا تؤدي إلى شيء.
وفي هذا القالب التقليدي يقدّم اللبدي هذه الأبيات المكثفة المكتنزة بسؤال الوجود البحث عن الماورائيّات في الأشياء، متقاطعًا مع التراث الصوفي عند الحلاج وغيره، لكنه يكتب هذه الرؤية بمعطيات زمنه وثقافته الحديثة، ويعبر عن همِّهِ في البحث عن الغيبيّات بهذه الطريقة البسيطة المكوّنة من تفاصيل الحياة اليومية.
ومرة أخرى يطل علينا مؤنسنًا الأشياء، ومادًّا خيطَ الاتصال الجماليَ مع تراثه حين يقول في قصيدة » الباب» :
أعرفُ البابَ؛
مقبضَهُ المعدنيَّ المُعطَّلَ.
ما يتواثَبٌ في صدرِهِ من صَدَى الطَرَقَات
وكم نجمةٍ سوفَ تسقُطُ،
كي تضعَ امرأةٌ ما حِجابًا، وتفتحُهُ.
أعرفُ البابَ؛
صوتَ مفاصلِهِ، إذْ تئِنُّ مُقلِّدةً بعضَ أصواتِنا!
في هذه الالتفاتة البديعة إلى الباب، ومحاولة إضفاء اللمسة الإنسانية عليه، وكيف أنه باب عتيق، مفاصله صارت خشنة، وصار لها صوت يشبه أصواتنا، وكيف أن الطَرَقات لها وقْع السعال في صدر الباب، لكنه لم ينسَ ثقافته العربية، وأشار إليها بخفةٍ ورشاقةٍ حين قال: كي تضعَ امرأةٌ ما حِجابًا، وتفتحُهُ. لأن ذلك من عادة نساء العرب إذا كان الطارق غريبًا، وحسبُ ذلك أن يُعَدَّ اتصالًا جماليًّا وثقافيًّا بين قصيدته وبين ثقافته.
وفي ضوء ارتباط قصي بتراثه وحمولاته المعرفية، وفي ظل استذكار أبيات المعري التي يقول فيها:
أراني في الثلاثة من سُجُوني
فلا تسألْ عن الخَبَرِ النبيثِ
لفَقْدِي ناظري، ولُزُومِ بيتي
وكَونُ الروحِ في الجَسَدِ الخبيثِ
أو قوله:
متى ألقَ من بعدِ المنيَّةِ أُسْرَتي
أُخبِّرْهُمُ أني خَلَصتُ من الأَسْرِ
نتعرف على قصي اللبدي وهو يحاول تشريح هذه الفكرة التي شغلت الفلاسفة قبله والشعراء، لما فيها من أسئلة وجودية حول كينونة الإنسان، وماهية العالم، وطبيعة الحياة، ولما فيها من أثرٍ عظيمٍ للتأمل الذي هو ظلُّ الشعر، يقول اللبدي في قصيدة «أسْر» :
أُحدِّقُ في داخلي،
حامِلًا حجرًا في يدي،
وفمي مُترَعٌ بالسُّبَابْ.
صَدَى الصرخاتِ يجيءُ من الداخلِ:
اسْتَخْدِمُوا أيَّ شيءٍ لكي تُخرِجُوني..
مِـفَـكًّا،
يدًا،
حجرًا،
أو أداةً من المَعدِنِ..
اسْتعمِلوا السحرَ.
من أيِّ بابٍ دخلتُ، ومن أيِّ بابٍ سأخرجُ؟
لو كانَ ثمَّةَ بابْ.
تمرُّ الحياةُ على مهلِها، خارجي.
وأنا أتقلَّبُ خلفَ ثيابي.. كمَنْ يتقلَّبُ تحتَ الترابْ.
في هذه السطور القليلة يكشف لنا قصي اللبدي عن معاناته داخل الأسْر المُسمَّى جسدًا، متقاطعًا مع المعري في تساؤلاته، وصانعًا نسقًا جماليًا يعبر عن تجربته الخاصة والمتفردة.

حلوى الكلمات
يحرص قصي اللبدي دائمًا على انتقاء مفرداته بعناية فائقة، ويكتفي بالقليل منها للتعبير عن مُراده، غيرَ عابئ بضرورة الهندسة الإيقاعية في تشكيل القصيدة، بَيْدَ أن ذلك – في تقديري- يُعَدُّ هندسةً من نوعٍ آخر، فإن أورد قافية في قصيدته فهي واردة لخدمة المعنى لا لسلطة الإيقاع، فكأني به وهو يحدّق طويلًا في صحن الكلمات ليختار واحدةً، ينتقي قطعة حلوى لها مذاقها الخاص، وليست مجرد مفردة تأخذ موقعها في نسيج القصيدة، رغم ذلك، نجد عنده قصائد اعتمدت على القافية في تشكيلها، ولم يؤثر ذلك على جودتها، يقول في قصيدة » أسباب":
لا أقول: «لذا».. وأنا مطمئنٌّ تمامًا،
فثمَّةَ أشياءُ تحدُثُ من نفسِها.
رُبَّما اهتزَّ غُصنٌ لأنَّ رياحًا، على عَجَلٍ،
لامَسَتْهُ.
وقد لا تكونُ الرياحُ..
لعلَّ جناحًا من الطيرِ حطَّ ثوانيَ، ثمَّ استعادَ السماءَ،
فهزَّ الحنينُ الوَتَرْ.
رُبَّما كانتِ الجاذبيِّةُ،
أو أنَّ نارًا مُخبَّأةَ في الشَّجَرْ
شَعَرتْ، فجأةَ، بالضَّجَرْ.
رُبَّما كانَ شيئًا سوى كُلِّ ذلكَ.
في قريتي،
أعرفُ امرأةً تستطيعُ إزاحةَ أشياءَ ثابتةٍ،
بالنَّظَرْ!
في هذه القصيدة نجد اللبدي وهو يمسك كل كلمة متأملًا، ومُحلِّلًا، ومُفكِّرًا في معانيها وظلال معانيها، ولعلّ كلمة » لذا» التي جاءت في البداية، كانت أساسًا يقوم عليه بناء النص، وكان ذلك مثالًا على تقصّيه للمفردات تقصِّيًا بالغ الرهافة، فهو يُخلِّق من هذه المفردة » لذا» التي تعبّر عن اليقين والوصول إلى الخُلاصات، كثيرًا من الرُّبَّمات، وهذه أمارةُ الشاعر، فهو لا يملك الإجابة لأنه مشغول بالأسئلة!
أيضًا نجد اللبدي وهو يكتب عن سائق التاكسي، كتابة متغلغلة في رمزية هذه المهنة، فهو مجرد سائق سيارة في بداية النص، لكنه سوف يفاجئنا في نهايته أن له وجهًا آخر شعريًّا، على الرغم من أنه كان مُغرقَا في وصف عاديّته، يقول:
قَلَمُ الحبرِ في جيبِهِ،
وعلى حاجبَيْهِ اللصيقَيْنِ، خطٌّ من الشَّيْبِ.
يعرفُ أمكنةً وشوارعَ..
لكنَّهُ لا يحيدُ عن الدربِ.
حكمتُهُ:
أجملُ الطرقاتِ.. التي زُرتُها.
والنهاراتِ.. ما مرَّ.
من بعضِ عاداتِهِ الصمتُ،
والنومُ، عند الظهيرةِ، في المركبةْ.
أمسِ، أفشَى ليَ السرَّ:
عشرينَ عامًا على الطرقاتِ،
ولم أخشَ سيِّدةً، قطُّ، كالتجربةْ!
مع نهاية القصيدة، لا تعرف هل كان يقصد به سائق التاكسي فعلًا، أم أنه مجرد قناع لشخصية أكثر عُمقًا وهَمًّا بالحياة، وبتجربة الوجود، وهذه لعبة قُصي الأثيرة، أنه يأخذك من يدك وكأنه ذاهب بك إلى نزهة أو إلى رحلة اسكتشافية، ثم يترك لك حرية التجوّل داخل نصوصه، ولعبته الأثيرة أيضًا أن يُبادل معك الأدوار، في كل نهاية للقصيدة، يأخذ مقعد المتلقي ويسألك: برأيك، هل كان ختامًا جيّدًا؟


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا









طباعة
  • المشاهدات: 2168
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
26-10-2024 08:21 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم