10-11-2024 09:32 AM
بقلم : موفق ملكاوي
في الوقت الذي تحضر فيه الحرب الأوكرانية الروسية في الخطاب الغربي كمأساة إنسانية تستثير الجانب القيمي والديني الأيديولوجي، يتم التعامل مع الإبادة الجماعية في غزة على يد الصهيونية كـ"مجرد نزاع"، يمكن أن يكون قد خرج عن إطاره بـ"مبالغة" طرف في استخدام حق الرد.
إن ما يميز مثل هذا الخطاب ذي المعايير المزدوجة هو قدرته الكبيرة على حشد التأييد لوجهة نظره، وبكل المستويات الفكرية التي تستوعبها الثقافة الغربية، بدءا من العنصرية المكشوفة التي ميزت بين اللاجئين في الإعلام بدعوى "إنهم مثلنا" و"متحضرون" بينما الآخرون بألوان وثقافات بعيدة عنا، وصولا إلى أقصى التنظيرات الفكرية المتأسسة على قرون من الممارسات العنصرية المشفوعة بالتنظيرات الديالكتيكية التي أسست لمفهوم "تراتبية البشر"، ومركزية الغربي المخلص.
منذ اليونانية والرومانية، شقت العنصرية طريقها لكي تتأصل في بعض الثقافات الغربية، واستطاعت أن تسم كل ما لا يشترك مع ثقافتها تحت مفهوم "بربري" و"متوحش"، رافضة القبول بواقع تنوع الثقافة، بل أصرت على أن ترمي بالآخرين خارج الثقافة.
حتى حين غزا الإنسان الأبيض الأميركيتين، كان السؤال الفلسفي الأكثر حضورا لدى هيغل، أبو المثالية الألمانية، هو ما إذا كان السكان الأصليون يمتلكون روحا أم لا. لغة هيغل عن "الهنود الحمر" امتلأت بالاحتقار والدونية، ملصقة كل الخصال الوضيعة بالهنود، حتى أنه رأى في قصر قامتهم دليلا على حقارتهم العقلية والأخلاقية، وبالتالي يضعهم في مرتبة دون البشر.
هيغل كان عنصرياً صريحاً، وقد اعتقد أن الأفارقة السود "أطفال ظلوا غارقين في حالة السذاجة"، بينما السكان الأصليون في الأميركيتين يعيشون في "حالة من الوحشية وانعدام الحرية"، لذلك منح الحق لـ"الأبطال الأوروبيين" في استعمار هؤلاء من أجل إدخالهم في تقدم التنوير الأوروبي.
إن صياغة تلك المقولات تجاه القارة السوداء انطلقت من مفهومهم للمركزية الأوروبية التي رسخت الصورة الدونية لباقي العالم. برأيه فإن أفريقيا هي "المكان السابق على الوعي"، وتقع خارج التاريخ، وأن سبب وجودها الرئيسي هو ترسيم الحدود بين التاريخي (أوروبا) وغير التاريخي (أفريقيا)، مرسخا صورة وحشية عن الأفارقة، بجميع الصفات التي يستوعبها معجمه العنصري، مطلقا عليهم صفات حاولت إرضاء الغرور الأوروبي اللامتناهي: "زنوج" و"همج" و"أكلة لحوم بشر".
جون لوك وديفيد هيوم وإيمانويل كانط وغيرهم، اعتقدوا أن السود والشعوب الأصلية في جميع أنحاء العالم متوحشون ودونيون ويحتاجون إلى التصحيح من قبل التنوير الأوروبي
بهذا السياق الفكري الأوروبي نستطيع أن نفهم تاريخانية الأفكار، وكيف أثرت العنصرية على بنية العقل الأوروبي، وأيضا، كيف تستمر هذه العنصرية في تأطير التفكير الأوروبي إلى اليوم.
على هذه الأسس من الفرز الإنساني تأسس الفكر الأوروبي الذي سيطرت عليه فلسفة عنصرية لم تنظر إلى باقي القارات على أنها متساوية بالإنسانية، لذلك كان من السهل على هذا الفكر التصالح مع دعوات الاستعمار والتوسع الإمبريالي التي أطلقها هيغل وغيره من المفكرين، فهو فكر يتعامل مع شعوب وأمم ما قبل تشكل العقل، ويرى أنها تحتاج لمن يقودها ويحكمها ويعلمها.
اليوم يناقش كتاب ومفكرون غربيون الأسباب وراء اختيارنا التعاطف مع جهة، وعدم التعاطف مع أخرى. والواضح من خلال الأطروحات العديدة التي يتبناها كثير من الكتاب، هو عدم قدرتها على استبطان مبرر يكفي لإضفاء تبرير أخلاقي مقبول تماما لهذا السلوك.
مفهوم التعاطف الانتقائي يشير إلى أننا نختار بغير وعي، أو بوعي أحيانا، القضايا التي نشارك فيها، وأين نضع تعاطفنا، والقول إنه من المستحيل أن نستطيع التعاطف مع جميع القضايا التي تصل إلينا لأنه أمر مرهق، هو قول "انتقائي" أيضا، خصوصا أننا نقرر حينها أن مجموعات أو مشاكل أو بلدان معينة هي أقل استحقاقا لتعاطفنا، ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كان تحيزنا يؤثر على حصول بعض القضايا على الاهتمام، وبالتالي فإن تعاطفنا الانتقائي قد يحد من المساعدة والاهتمام الذي تحتاجه بعض القضايا والأشخاص.
لكن الأمر المثير هو الجهة التي تنقل إليها عالمة النفس الدكتورة أودري تانج، الحديث وهو أن التعاطف الانتقائي يؤشر إلى شعورنا بالتفضيل، وأنه يسهم في "تقييد تعلمنا"، والأهم هو ما تؤكده تانج من أن "التفكير في الأمر يبين لنا أن وجهات نظرنا ليست وجهات نظرنا، بل هي وجهات نظر آبائنا أو ثقافة قد لا تنطبق على حياتنا اليومية الحالية".
بالمحصلة، يبدو أن أوروبا ما تزال تعيش مركزيتها من منطلقات عنصرية تم تثبيتها منذ قرون، وهي غير قادرة على مشاركة العالم إنسانيتها المزعومة، لذلك يبقى الدم الأوكراني غاليا، بينما يتم النظر إلى الدم الفلسطيني كمجرد سائل بلا أي قيمة!
الغد
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
10-11-2024 09:32 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |