16-12-2024 09:30 AM
بقلم : د. ليث عبدالله القهيوي
شهدت سورية في الأيام الأخيرة تطورات جذرية غيرت وجه المعادلة السياسية والعسكرية، مع سقوط العاصمة دمشق بيد فصائل المعارضة المسلحة وفرار الرئيس بشار الأسد، هذا الحدث يمثل نهاية حقبة تاريخية، حيث أنهى أكثر من خمسة عقود من حكم عائلة الأسد، وألقى بالبلاد والمنطقة في دوامة من عدم اليقين، فالانهيار السريع للنظام السوري لم يكن مفاجئًا تمامًا، إذ تراكمت مسبباته على مدار سنوات الحرب الطويلة التي استنزفت موارد الدولة وأضعفت بنيتها العسكرية والسياسية.
ما حدث في دمشق كان نتيجة عوامل داخلية وخارجية متشابكة، من جهة، أدت سنوات من النزاع المستمر إلى تآكل القدرات العسكرية للنظام، الذي بات عاجزًا عن الدفاع عن أهم معاقله ومن جهة أخرى، أدى انشغال الحلفاء الرئيسيين، روسيا وإيران، بصراعات أخرى إلى تقليص دعمهم العسكري واللوجستي للنظام. روسيا، التي تلعب دورًا محوريًا في المعادلة السورية، وجدت نفسها مقيدة في قدرتها على التحرك بسبب انخراطها في الصراع الأوكراني، في حين أن إيران وحزب الله يعانيان من تبعات المواجهات مع إسرائيل ومن التحديات الداخلية والإقليمية الأخرى.
على الجانب الآخر، تمكنت المعارضة المسلحة من استغلال هذه اللحظة الحاسمة لتوحيد صفوفها وتنفيذ هجمات منسقة أضعفت النظام في مناطق متعددة قبل أن تصل إلى قلب العاصمة. هذا التنسيق غير المسبوق بين الفصائل المعارضة عكس قدرتها على استثمار لحظات الضعف واستغلالها لصالحها. ومع دخولها دمشق، فتحت المعارضة الباب أمام حقبة جديدة، لكنها أيضًا أثارت العديد من التساؤلات حول مستقبل سورية والمنطقة.
ما حدث في سورية لا يمكن النظر إليه بمعزل عن تداعياته الإقليمية. انهيار النظام السوري يشكل ضربة قوية لإيران، التي كانت ترى في دمشق حجر الزاوية لمشروعها الإقليمي. خسارة النفوذ الإيراني في سورية قد تدفع طهران إلى تعزيز وجودها في لبنان والعراق، مما قد يؤدي إلى تصاعد التوترات في هذه المناطق. في الوقت ذاته، يمكن أن تعزز تركيا من موقعها في المشهد السوري، خاصة إذا تمكنت من بناء تحالفات مع الفصائل المعارضة وترسيخ نفوذها في الشمال السوري. هذه التحولات في ميزان القوى تفتح المجال أمام إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة.
إلا أن تأثير الأحداث في سورية لا يقتصر على الدول الكبرى، بل يمتد ليشمل دول الجوار بشكل مباشر. لبنان، على سبيل المثال، قد يجد نفسه في مواجهة أزمة جديدة نتيجة انسحاب حزب الله من سورية وتداعياتها على الوضع الداخلي اللبناني. العراق أيضًا قد يتأثر بعودة النشاط الإرهابي عبر الحدود السورية، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني. وحتى الدول الأكثر استقرارًا نسبيًا، مثل الأردن وتركيا، قد تواجه تحديات متزايدة بسبب موجات جديدة من النزوح وتصاعد النشاط الإرهابي.
ورغم أهمية سقوط النظام السوري كحدث فارق، فإن المستقبل لا يزال مليئًا بالغموض. هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية قد ترسم ملامح المرحلة المقبلة. الأول يتمثل في نجاح الأطراف السورية والدولية في الوصول إلى توافق سياسي يؤدي إلى تشكيل حكومة انتقالية وإعادة بناء الدولة. الثاني هو استمرار الفوضى والصراعات بين الفصائل المختلفة، مما يؤدي إلى تقسيم فعلي لسورية إلى مناطق نفوذ متعددة. أما السيناريو الثالث، فهو تصاعد التدخلات الخارجية، حيث قد تسعى القوى الدولية والإقليمية إلى ملء الفراغ السياسي والأمني، مما يعيد سورية إلى دائرة الصراع بين القوى الكبرى.
في كل الأحوال، فإن إعادة بناء سورية بعد أكثر من عقد من الحرب ستكون عملية شاقة وطويلة تتطلب تضافر جهود محلية ودولية. التكلفة الاقتصادية لإعادة الإعمار تُقدر بمئات المليارات من الدولارات، مما يجعل من الصعب على أي جهة منفردة تحمل عبء هذه المهمة. لكن النجاح في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني هو الشرط الأساسي الذي يجب تحقيقه قبل التفكير في إعادة الإعمار.
سورية اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي، حيث تمثل هذه اللحظة فرصة نادرة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، لكنها في الوقت ذاته تحمل مخاطر الدخول في دوامة جديدة من الفوضى والصراعات. مصير سورية لن يكون له تأثير على شعبها فقط، بل سيترك بصمته على مستقبل المنطقة بأكملها. نجاح السوريين في تجاوز هذه المرحلة الصعبة قد يكون نموذجًا للأمل والتعافي، في حين أن الفشل في إدارتها قد يؤدي إلى تصاعد الأزمات الإقليمية وزيادة تعقيد المشهد الجيوسياسي.
أما ضمن الناحية التي تتعلق بالأردن فيمكن أن يحول الأزمة إلى فرصة إستراتيجية إذا ما نجح في استثمار دوره الإقليمي، باعتباره دولة مستقرة نسبيًا في منطقة مضطربة، يمكن أن يلعب الأردن دور الوسيط في المفاوضات الإقليمية والدولية لإعادة الاستقرار إلى سورية وهذا ما تم البدء به في اجتماعات العقبة بشأن سورية. كما أن تعزيز التعاون مع المجتمع الدولي للحصول على دعم مالي وتقني يمكن أن يساعد المملكة في تجاوز الأعباء الاقتصادية وتأمين حدودها بشكل أكثر فعالية.
للتعامل مع هذه التحديات، يحتاج الأردن إلى تبني نهج شامل يجمع بين الخطط الأمنية، والسياسات الاقتصادية، والدبلوماسية الفعّالة وتعزيز التعاون مع الدول الكبرى والمنظمات الدولية لتأمين التمويل والمساعدات الإنسانية، ورفع الجاهزية الأمنية على الحدود، في الوقت ذاته، يجب أن تستثمر عمّان موقعها الجغرافي المميز لتعزيز دورها كمحور للتجارة الإقليمية والتعاون الدولي.
الأردن يقف اليوم أمام اختبار صعب، لكن قدرته على اجتياز هذه المرحلة تعتمد على سرعة استجابته وإستراتيجياته الشاملة. التحديات التي يفرضها سقوط النظام السوري تحمل في طياتها فرصًا لإعادة تشكيل موقع المملكة الإقليمي وتعزيز استقرارها الداخلي ونجاح الأردن في هذه المهمة قد يثبت مرة أخرى دوره المحوري كركيزة استقرار في منطقة تعصف بها الأزمات.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
16-12-2024 09:30 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |